هزيمة يونيو 1967 تركت آثارها القوية الغائرة في نفس عبد الناصر؛ فقد كشفت له الخطأ القاتل الذي وقعت فيه ثورة يوليو، وهو عدم تحقيق المبدأ السادس والأخير من مبادئ الثورة الأساسية، والذي يقضي ببناء حياة ديمقراطية سليمة. وقد عبّر عبد الناصر عن ذلك بوضوح وصراحة، سواء في اجتماعاته الأولى مع حكومته التي شكّلها عقب الهزيمة برئاسته، أو في اجتماعات قيادة الاتحاد الاشتراكي، التنظيم السياسي الوحيد وقتها في البلاد.
ففي هذه الاجتماعات واللقاءات، اعترافٌ صريحٌ من ناصر بأن الخطأ القاتل الذي وقعت فيه الثورة هو غياب الديمقراطية، والمحاسبة السياسية للحكومة، والرقابة الشعبية على الوزراء والمسؤولين. وفيها أيضًا كشف ناصر عن تفكيره في إنشاء حزب معارض يتولى رئاسته بنفسه بعد أن يتفرغ لذلك ويترك الحكم، ليقود المعارضة للحكومة، ويحاسب الوزراء والمسؤولين، ويصحح الأخطاء، ليحمي البلاد من ارتكاب المسؤولين للأخطاء والخطايا كما حدث قبل هزيمة يونيو التي تسببت في وقوعها.
غير أن الظروف لم تُتح لعبد الناصر تنفيذ ما فكر فيه، لأنه عندما تمسّك به الشعب في منصبه في مظاهرات التاسع من يونيو، كلفه بالاستعداد لإزالة آثار العدوان، وهو ما اقتضى إعادة بناء القوات المسلحة مجددًا وتجهيزها لتحرير سيناء واسترداد الكرامة الوطنية، التي أصيبت في فؤادها بهزيمة يونيو. وقد منح ناصر جلّ وقته لتلك المهمة الوطنية ذات الأولوية، خاصةً وأنه كان يتابع عن كثب كل تفاصيل إعادة بناء القوات المسلحة، مستفيدًا من درس الهزيمة، حينما ترك الجيش في يد صديقه والمقرّبين منه، والذين ارتكبوا معه أخطاءً فادحة، عسكرية وسياسية، تمخضت في نهاية المطاف عن هزيمة صعبة كانت بمثابة صدمة ضخمة لأجيال من المصريين، كان جيلي واحدًا منها.
كما أن العمر لم يمنح ناصر فرصة تصحيح هذا الخطأ الكبير الذي وقعت فيه ثورة يوليو، لأنه توفاه الله قبل إنجاز ما نذر نفسه له، وهو محاربة العدو الإسرائيلي لتحرير الأرض المحتلة واسترداد الكرامة الوطنية. وربما لو امتد به العمر، لكنا رأينا عبد الناصر، الثائر في يوليو، والحاكم في مارس، معارضًا بعد يونيو.
وإذا كانت الأقدار قد رسمت مسارها الذي سلّمناه حتى حرب أكتوبر، وما جرى بعدها من وقائع كان أبرزها زيارة السادات للقدس، وإبرام اتفاقات كامب ديفيد، فإن ما اهتدى إليه تفكير عبد الناصر يستحق التوقف أمامه، لتحمّله بل وللتمسك به، لأنه حدث في لحظة مساءلة للنفس بعد هزة وطنية مزلزلة، أو لحظة صدق صاغتها صدمة وطنية كبيرة عانى منها عبد الناصر، الذي تحول بعد يوليو إلى زعيم وطني عالمي، وليس مجرد زعيم وطني مصري محلي فقط، فقد كانت شعبيته كبيرة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وكان يتابعه الأمريكيون والغرب الأوروبي مع أهل الخليج العربي. أي أن ما فكر فيه ناصر بعد يونيو سليم وصحيح وحقيقي، وكنا نحتاجه في مصر فعلًا، وافتقاده يهدد بمخاطر شديدة، مثلما حدث في هزيمة يونيو؛ ففي غياب الديمقراطية، يغيب عنصر المحاسبة والمساءلة السياسية، وبالتالي تُفقد الفرصة لتصحيح الأخطاء، وتُترك لتصبح خطايا تهدد بحدوث كوارث سياسية وعسكرية واقتصادية.
فنحن قبل يونيو 1967 لم نكترث بانشغال الجيش بأمور غير عسكرية، ولم نهتم بأخطاء جسيمة جعلتنا غير جاهزين لمواجهة العدوان الإسرائيلي، ولم نسعَ لتصحيح تلك الأخطاء، ولا لحماية قواتنا المسلحة من شلل المنتفعين الذين أصابوها بالوهن، والأخطر من ذلك: الإهمال، والذي كشفت عنه بجلاء محاكمة قادة الطيران، وهو ما جعل الطلاب والعمال يخرجون في مظاهرات في فبراير 1968، يطالبون – مع إعادة بناء قواتنا المسلحة – بالديمقراطية التي تمكّن من محاسبة المسؤولين، وكشف الأخطاء مبكرًا، والعمل على تصحيحها قبل أن تستفحل وتتحول إلى خطايا.
ودعونا نتصور أن عبد الناصر قد نفذ فعلًا ما فكر فيه، وتحول إلى معارض بعد يونيو، لتغيّر تاريخنا، ولتغير حالنا السياسي والاقتصادي... رحم الله جمال عبد الناصر.