في عام 1983 أصدر جمال حمدان كتابا يحمل عنوانا جَرَسيّا لا يُنسى «استراتيجية الاستعمار والتحرير».. وبذكائه الفطري، وموسوعيته المتمرسة، وبشعوره المتطور للزمن ودلالاته، وضع حمدان في العنوان ثلاث كلمات لا تفقد بريقها.
فالاستراتيجية علم للتخطيط طويل المدى وفق تغيير الأساليب والتقنيات والتجارب؛ والاستعمار سلوك من الأطماع البشرية بدأ مع تكون الدول والممالك منذ فجر التاريخ؛ والتحرير سعي لا ينقطع من الأمم المغلوبة لنيل حريتها من الأمم الأقوى الغالبة.
ويظن كثير من القراء أن حمدان كتب هذا الكتاب الفوَّار في بلاغته وتدفق سطوره في مطلع شبابه حين كان عمره في الثلاثينيات، لكن الحقيقة أنه قدم كتابه هذا حين كان عمره 55 عاما أي في سن النضج الكامل، والرؤية الواضحة من دون غيوم وغموض.
وقد قسم حمدان كتابه – المؤلف من نحو 450 صفحة- إلى ثلاثة أبواب وفق موجات الاستعمار والتحرر في العالم في المراحل التاريخية المعروفة: القديم والوسيط والحديث. ولو كان حمدان يؤلف هذا الكتاب للوسط الأكاديمي المحدود لأعطاه عنوانا مدرسيا على شاكلة «الجغرافيا التاريخية للصراع في العالم» أو «الجغرافيا السياسية للأمم عبر القرون»، ولكنه كان يكتب لعموم القراء ويقدم الجغرافيا هدية للمثقف العام.
وفي مقالنا الحالي سنعرض للباب الأول الذي أعطاه حمدان عنوانا فرعيا يقول «من العصور القديمة إلى الحديثة» وقسمه إلى خمسة فصول، واليوم سنقرأ الفصلين الأول والثاني عن العصور القديمة والوسطى.
أولا في العصور القديمة
صراع البر والبر
يتفق حمدان مع من يرون الاستعمار قديما قدم الإنسان، وأن التاريخ فصول متلاحقة أو متداخلة من الهجرات والغزوات. وفي الماضي كانت هذه الغزوات أقرب إلى التحركات البدائية أو "الغريزية" منها إلى الحركات المخططة، إذ كانت فيما قبل الميلاد أقرب إلى تكوين الأجناس race-making منها إلى تكوين الأمم nation-making ، أي أنها نوبات من هجوم الأعراق والقبائل منها إلى المخططات السياسية المنظمة.
وقد نقل حمدان عن مجموعة من المؤرخين وعلماء السياسة في أوروبا تصنيف هذه الفترة من التاريخ بأنها أشكال متنوعة من الثنائيات مثل صراع الرعاة الرحل ضد الفلاحين المستقرين، أو بدو الرمل وفلاحين الطين.
وهذه الغزوات جاءت من الصحراء الجرداء أو من الاستبس العشبي. فأما التي جاءت من الصحراء الجرداء فأشهرها خروج أهل صحراء الجزيرة العربية إلى المناطق الزراعية المجاورة في الهلال الخصيب ووادي النيل. وأما التي جاءت من سهوب الاستبس فكانت تخريبا أكثر من كونها استعمارا.
فمنذ فجر التاريخ والاستبس الآسيوي العظيم يمثل منبع موجات بشرية زاحفة على الأراضي الزراعية الغنية، التي تحف به شرقا وجنوبا وغربا. وعادة ما كانت موجات الزحف هذه تأتي إثر نوبات الجفاف، وبفضل حركة الخيل الكاسحة، كانت هذه الموجات تزحف آلاف الأميال لتغزو مناطق الاستقرار المحيطة.. ورغم قلة عدد سكان الاستبس إلا أنه كان لرعاة الاستبس دائما التفوق العددي في حمل السلاح ومرونة حركة الخيالة، سواء بالحصان أو بالعربة وهي اختراع استبسى أصلا، فضلا عن أساليب "الكر والفر".. ويشبه حمدان دور بدو الاستبس في الاستعمار بأثر النيازك والشهب بين النجوم: ضجيج وبريق رهيب سناه، لا يلبث أن يستهلك نفسه ويحترق بنفسه".
وقد اتجهت موجات رعاة السهول العشبية (الاستبس) إلى كل من الشرق والغرب، فموجاتهم إلى الشرق وصلت إلى الصين لا الهند، لأن الصين لا تملك حائط الهيمالايا، ذلك "السور الطبيعي العظيم" الذي حمى الهند بقدر الإمكان من ضغوط الاستبس. أما الصين بأنهارها وسهولها فكانت مفتوحة لهذا التيفون (والكلمة مأخوذة عن الطوفان العربية)، ما اضطرها في النهاية إلى بناء سورها الصناعي العظيم، دون جدوى. أما غربا، فقد شن رعاة الاستبس هجومهم من منغوليا على وسط آسيا قاصدين أوروبا، وعلى جنوب غرب آسيا من إيران قاصدين الشرق الأوسط الخصيب. وهؤلاء الرعاة هم الذين أسقطوا آشور، ومنهم جاء الهكسوس إلى مصر.
صراع البر والبحر
والمقصود هنا صراع بين الفلاحين والملاحين، بصفة خاصة في البحر المتوسط الذي كان المسرح الرئيسي لمواطن الاستقرار والحضارة. والبحر المتوسط أقرب إلى بحيرة سباحة للفنون الملاحية، فأخذت مراكب غزاة البحر ذات الهدف الاستعماري تقطع البحر في كل اتجاه: من فينيقيا إلى قرطاجنه، ومن أثينا إلى آسيا الصغرى وإيطاليا، ومن قرطاجنه إلى أيبريا. وهذه الفترة من التدريب البحري في المياه شبه المغلقة ستكون فترة الحضانة لخلق الإمبراطوريات البحرية المترامية الشهيرة في التاريخ الاستعماري الذي سيعرفه العالم في العصر الحديث.
وكانت أثينا أول نموذج بحري يتوسع على حساب البر فخرجت عن بحر إيجه وضمت إليها غرب آسيا الصغرى وأجزاء من إيطاليا وأيبريا وشمال إفريقيا وليبيا ومصر والشام والعراق.. ورغم أن الاستعمار الإغريقي كان ساحليا في جوهره، وحتى على السواحل كان يتألف غالبا من "جزر" متقطعة إلا أنه تطور لاحقا من أجل بناء "وحدة البحر المتوسط".
نتابع مع حمدان كيف أن روما نجحت في خلق إمبراطورية مشابهة لليونان لكنها تفوقت عليها في التغلغل في البر حتى أصبحت "الطرق الرومانية" في البر أخطر أثرا في هيكل شبكة الإمبراطورية من الخطوط البحرية. وهذا ما هيأ لروما أن تبتلع الإمبراطورية الإغريقية كاملة في الشرق الأوسط والأدنى القديم، وتمددت بعدها لتشمل كل أوروبا جنوب الدانوب وغرب الراين، بالإضافة إلى أنها قفزت المانش لتضم إنجلترا. وأحاطت روما بالبحر المتوسط حتى جعلت منه "بحيرة رومانية".
يؤكد حمدان أن أهم صراع بين البحر والبر كان صراع اليونان والفرس (أثينا وفارس)، الذي ظل لقرون طويلة. ورغم أن النصر انتهى بتفوق قوة البحر (الإسكندر الأكبر) إلا أن المنطقة البينية في الشرق الأوسط بقيت محل نزاع دائم.
وتكرر الصراع بين روما وريثة أثينا والبارثيين ورثة فارس، وكلمة فارس تحريف لكلمة بارثيا. يقدم حمدان توضيحا ألمعيا حين يفسر كلمتي روما وفارس بما يعبر عن مدى قوتهما: Hroma = الجبارة، Persae = المخربين. وفي هذا الصراع تحاول كل من قوة البر والبحر الاستيلاء على المنطقة البينية في الشرق الأوسط، إلا أنه نظرا لبعد مراكزها المتطوح يقع شرقه لبارثيا (العراق) وغربه لروما (الشام ومصر)، بينما ظلت صحراء العرب بينهما منطقة حاجزية. وحين انكمشت قوة البحر من الإمبراطورية الرومانية إلى الإمبراطورية الرومانية الشرقية (بيزنطه) وورثت الدولة الساسانية قوة البر البارثية، تحققت نفس المعادلة في أطرافها الأساسية وبنفس النتائج بالنسبة للمنطقة البينية.
وقد يبدو في هذا المنطق أن منطقة الشرق الأوسط بحكم الطبيعة وبأمر الجغرافيا صارت ضحية موقعها الجغرافي الأوسط، ولا أمل لها في السيادة ولا مفر لها من التبعية لقوى البر أو البحر. ولكن حمدان يتساءل: هل هكذا درس التاريخ اللاحق؟ وستكون الإجابة واضحة في قراءة صعود العرب المسلمين في العصور الوسطى.
ثانيا: العصور الوسطى
الدولة العربية الإسلامية
خرج عرب الإسلام من قلب الجزيرة ليبنوا دولة لم تسبقها من قبل دولة في الامتداد والرقعة ولم تلحقها من بعد إلا إمبراطوريات العصر الحديث. وبكلمات ماكيندر فإنها أول إمبراطورية عالمية في التاريخ "تقلد الإسكندر وتستبق نابليون".. في أقصى اتساعها خرجت من جزيرة العرب لتمتد من أطراف الصين إلى أبواب فرنسا وضمت شمال الهند ووسط آسيا وهضبة إيران ، كما ضمت معظم أيبريا.
يلاحظ حمدان أن العرب قلبوا الموازنة في حوض البحر المتوسط رأسا على عقب، فبعد أن كان الساحل الجنوبي يخضع كلية للساحل الشمالي، أصبحت السيطرة للساحل الجنوبي في نقاط كثيرة ووصل النفوذ العربي إلى جزر قبرص وكريت وصقلية والبليار.. ومن ثم تحول المتوسط من بحيرة رومانية إلى بحيرة عربية، ولو أن العرب سموه آنذاك بحر العرب بدلا من بحر الروم ما تعسفوا في التاريخ ولا الجغرافيا.
مدت الدولة العربية الإسلامية فتوتها الجغرافية إلى الجنوب لتحيط بالمحيط الهندي بسواحله الإفريقية والهندية ووصل النفوذ الحضاري حتى الملايو وجزر الهند الشرقية.. وأصبح التأثير الإسلامي العربي مهيمنا على المحيط الهندي ليتحول إلى بحيرة عربية بلا منافس.
بهذا الامتداد على القارات القديمة الثلاث امتد تأثير العرب السياسي والحضاري في المحور البحري من ملقا الملايو Malacca في الشرق إلى ملقا الأندلس Malaga (مالقة) في الغرب.. يلاحظ حمدان أن كلا الاسمين عربي من أنه "ملقى" البرين.
وفي المحور البري امتدت من فرغانه (وسط آسيا) إلى غانة (غرب إفريقيا). هذه الدولة الإسلامية كادت تعرف بأرض البحار الخمسة: قزوين – الأسود – "الفارسي" – الأحمر – المتوسط. أي أنها كانت وقتها تضم قلب العالم المعمور.
في القوى البحرية استفاد العرب المسلمون من بلاد الشام بتاريخها كمهد الفينيقيين ومدرسة البحرية التاريخية، حتى أنها كانت "خشبة القفز التي انقض منها العرب على فلول البحرية الرومانية والبيزنطية وعلى جزر البحر المتوسط إلى أن ناجزوا ساحله الشمالي".. وفي الجنوب استفاد العرب من العمانيين والحضارمة الذين كانوا "إغريق المحيط الهندي وبنادقته".
يصف حمدان هذه القوة الإسلامية العربية بأنها لم تكن قوة بر فقط، ولا هي قوة بحر مطلقة، وإنما هي تجمع بين قوة البر والبحر، قوة أمفيبية (برمائية) تضع قدما في الماء وقدما على اليابس، بمثل ما تقع بين قوى البحر في جنوب أوربا وقوى البر في وسط آسيا.
يخالف حمدان المفكرين الغربيين الذين يصفون هذه الدولة بأنها "إمبراطورية استعمارية"، لم تخرج عن أن تكون غزوا وإخضاعا وتبعية أجنبية. في المقابل يرى أنها كانت "إمبراطورية تحريرية"، لأنها حررت كل هذه المناطق من ربقة الاستعمار الروماني أو الفارسي المتداعي واضطهاده الوثني وابتزازه المادي.
وقد يختلف البعض مع حمدان في تفاصيل اعتقاده هذا، فهو يمضى مثلا بكل قوة ليؤكد في وصفه للدولة العربية الإسلامية:
"لم تعرف هذه الدولة الجديدة عنصرية أو حاجزا لونيا، بل كانت وحدة مفتوحة من الاختلاط والتزاوج الحر، وما عرفت قط شعوبية أو حاجزا حضاريا، حيث كانت وسطا حضاريا متجانسا مشاعا للجميع، لا ولم تخلق نواة متروبولية سائدة تتميز على سائر المقاطعات والأقاليم في شيء، بل كانت السلطة "دولة بين الجميع" بلا استثناء فقد هاجر مركز الحكم السياسي بانتظام وترك "النواة النووية" في جزيرة العرب إلى الشام الأموية ثم غادرها بدورها إلى العراق العباسي حتى تركه في وقت ما إلى مصر الفاطمية. وكان المغرب مركزا آخر للقوة، ومثله كانت الأندلس".
كما وقد يختلف البعض منا بوضوح مع حمدان في تقريره العاطفي حين يقول:
"واضح إذن أن أخوة الدين كان يقابلها أخوة الأقاليم، وسواسية الناس كانت تترجم سياسيا إلى سواسية الولايات والمقاطعات لأن الدولة العربية الإسلامية كانت شركة مساهمة بين كل أعضائها وأطرافها".
ويكمل حمدان فرضيته بنتيجة نهائية يقول فيها: "والحقيقة أن دولة العرب الإسلامية هي أول فصل في جغرافية التحرير، وأبعد شيء عن جغرافية الاستعمار".
من المرات القليلة التي نجد فيها حمدان بعيدا عن قوانين التحليل التي تعتمد عليها المدارس الغربية في البحث الجغرافي. فقد طرح سؤالا يقوله أعداء الدولة العربية الإسلامية: كيف انبثقت هذه الدولة من قلبٍ ميتٍ في صحراء الجزيرة العربية؟ وكيف جمعت بين أقاليم البر وأقاليم البحر؟ وكيف تمكنت من أن تصنع هذه الدولة العملاقة بالمقياس الجغرافي والإحصائي فتسبق زمانها وعصرها بقرون؟
في إجابته عن هذا السؤال يدهشنا حمدان بتفسير روحي لا عقلي، عقيدي لا علمي، فيقول:
" إن علينا ابتداء أن نسلم بأن هناك حوافز وقوى "ميتافيزيقية"، لا تستمد من الواقع المادي بل تتخطاه، تكمن خلف هذه الدينامية المتفجرة والحيوية الدافقة، ولا شك أن جذوة الحماس الديني المتقدة هي التي ألهبت خيال المؤمنين، حتى تحولت بهم إلى شعلة ملتهبة وتحولوا هم بها إلى مشعل مضيء."
يعيد حمدان نفسه إلى جادة طريق البحث فيقول "علينا بعد هذا أن نبحث عن أسباب صلبة مادية".
في بحثه عن الأسباب الصلبة المادية يحدد حمدان عوامل الازدهار وعوامل الانحدار.
في الازدهار يبين كيف اعتمد العرب على الحلقة السعيدة التي تحيط بالقلب الميت أو الخرقة البالية (قلب جزيرة العرب). هذه الحلقة السعيدة (الأراضي الخصبة في العراق والشام ومصر واليمن) هي التي أحيت القلب الميت. وحين استولت جزيرة العرب باسم الإسلام على هذه الأراضي الخصبة ضمنت موارد ومصادر بالغة الثراء. فكانت أرض الرافدين الفسيحة الخصبة هي "رأس الحربة" في توسع العالم العربي في آسيا بحكم موقعها المتقدم شرقا. وبالمثل كانت مصر هي "رأس الجسر" في التوسع الإفريقي غربا وجنوبا.
واستمرارا للنهج العلمي والحقائق الصلبة والمادية (وليس التفسير الميتافيزيقي) يسأل حمدان: لماذا انهارت هذه الدولة العظمى بعد أن ظلت قائمة بضعة قرون؟ ويقدم في الإجابة مجموعتين من العوامل: داخلية وخارجية.
فداخليًا، كانت ضخامة الدولة وفرط تراميها عامل ضعف وتفكك في النهاية. لاسيما أن جزءا كبيرا من الرقعة كان صحارى وأشباه صحارى واستبس أو أشباه الاستبس: شبه فراغ يعوق الحركة والاتصال ويضعف الارتباط.
وبغض النظر عن مدى قناعتنا بهذه التفسيرات فإن حمدان يضع يده أخيرًا على السبب الرئيس، (والذي يناقض بالمصادفة ما قاله في أسباب صعود هذه الدولة)، حين يفسر أسباب الانحدار بتنافر التركيب الجنسي، وتعدد الأقليات والأعراق في نسيجها السياسي.. من هنا تعرضت الدولة لسلسلة متصلة من الحركات الانفصالية والتفكك، فتعددت الخلافات واستقلت الولايات وانكمش نفوذ الدولة المركزية.
أما العوامل الخارجية التي عملت على تعرية الدولة العربية الإسلامية وتحللها فتعود إلى موقعها الاستراتيجي البيني بين قوى البر والبحر. فبعد قليل من قيامها واستقرارها بدأت القوى الغربية في جنوب وغرب أوروبا تتجمع ضدها لتنال منها، وفي نفس الوقت تواترت هجمات القوى البرية من وسط آسيا لتنقض عليها في استراتيجية الكماشة أو الرحى أدى إلى سقوط الدولة الإسلامية الكبرى ( رغم أنه قال من قبل إنها قوة أمفيبية تجمع بين البر والبحر!).
كيف فسر حمدان الحملات الصليبية وصعود الاستعمار الأرضي الحديث وسعيه لحصار العالم الإسلامي؟ هذا هو موضوع حلقتنا القادمة.