من يتأمل تاريخ مصر في النصف الثاني من القرن العشرين، يُدرك بجلاء ما قدمته ثورة يوليو 1952 للثقافة المصرية من عطاء غير محدود، نعيش على آثاره حتى الآن.
ويكتشف الباحث في التاريخ المصري في تلك الفترة، أنه عندما استقرت أوضاع الثورة وتهيأت لترتيب آليات إدارة الدولة على جميع المستويات، ومنها ما يهمنا هنا، المستوى الثقافي؛ إذ منذ عام 1958 بدأ إقامة مشروع ثقافي عظيم، وبناء مؤسسة ثقافية متعددة المهام، بدءًا بإنشاء أكاديمية الفنون في عام 1959، بما تشتمل عليه من معاهد المسرح والسينما والكونسرفتوار والباليه، وإنشاء قاعة سيد درويش لتكون دار عرض للأعمال المسرحية والموسيقية والغنائية التي تقوم بها فرق الأكاديمية، ثم إنشاء جهاز الثقافة الجماهيرية الذي يُعنى بنشر الإبداع الفني في ربوع مصر المختلفة، من مسرح وسينما وصنوف الآداب والفنون التشكيلية والرقص والموسيقى، من شمال مصر حتى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها.
أضف إلى ذلك ما قدمته الثورة -خلال الفترة الأولى من تقلّد ثروت عكاشة منصب وزير الثقافة والإرشاد القومي- من إنشاء دار الكتب والوثائق القومية، ليُحفَظ بذلك كل التراث المكتوب طوال تاريخ مصر داخل أروقة مبنى واحد، مُؤرشف ومفهرس بطريقة علمية راقية، يُسهِّل الوصول إلى المادة العلمية من قِبَل الباحثين.
إلى جانب ما قدمته ثورة يوليو من إنشاء المجلس الأعلى للثقافة والسيرك القومي ومسرح العرائس، والفرق المختلفة من موسيقى وباليه وأوبرا، لتضيف بذلك إضافة غير مسبوقة إلى الثقافة المصرية الحديثة.
ولا ننسى مشروع "الألف كتاب"، الذي شارك فيه عدد كبير من العلماء المتخصصين بترجمة كتب شديدة التخصص في مجالات علمية وأدبية وفنية وتاريخية مختلفة، أضافت إلى المكتبة العربية إضافة عظيمة، وكذلك إنشاء سلسلة "من المسرح العالمي" التي عُنيت بترجمة أهم المسرحيات العالمية شرقًا وغربًا، وإصدارها بشكل دوري شهري.
ونُضيف إلى ما تقدَّم مجلة المسرح، التي قدمت الكثير من المقالات والدراسات لكبار المتخصصين، إضافة إلى ترجمة النصوص الدرامية الحديثة بيد كبار المترجمين، وصدرت المجلة صدورًا منتظمًا خلال تلك الفترة.
وفي هذه الفترة تم تأسيس وافتتاح معرض القاهرة الدولي للكتاب، ليكون زادًا أمام الجمهور المصري المتعطش للمعرفة من مختلف دول العالم، إضافة إلى إنشاء نادي السينما، الذي كان يقدم بشكل دوري أحدث الأفلام العالمية، ويعقد في كل حفلة ندوة لكبار نقاد السينما المعروفين.
ولا ننسى رعاية الدولة الكاملة في هذه الفترة للفن المسرحي تأليفًا وإخراجًا وتمثيلًا ونقدًا؛ حيث أُنشئت الكثير من المسارح، وأُرسِل عدد غير قليل من خريجي معهد التمثيل في بعثات إلى فرنسا وإيطاليا لدراسة التمثيل والإخراج، ليعود الشباب المبدع ويتحمّل مسؤولية إدارة المسارح المنتشرة في ربوع مصر.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل استوعبت تلك الفترة أقلام الشباب الذين كتبوا للمسرح للمرة الأولى، ومنهم: ألفريد فرج، نجيب سرور، نعمان عاشور، يوسف إدريس، عبد الرحمن الشرقاوي، سعد الدين وهبة، وغيرهم كثير، إلى جانب ترجمة وعرض أهم التجارب الدرامية العالمية لبريشت وبيكيت ويونسكو وغيرهم، ليصحّ بذلك إطلاق عنوان "الفترة الذهبية للمسرح المصري خلال عقد الستينيات"، نتيجة لما أولته الدولة من رعاية واهتمام بالفن، الذي لم يتوقف حتى بعد نكسة 1967، حيث استمرت العروض المسرحية بنفس الكم والكيف.
ولا ننسى ما قدمته ثورة يوليو للمتفرج المصري بعد إنشاء التليفزيون عام 1960، وبث البرامج الفنية والأفلام والسهرات الدرامية والمسلسلات، وهو ما تم جنبًا إلى جنب مع قطاع الإذاعة؛ حيث تم إنشاء إذاعة البرنامج الثاني عام 1957، التي تخصصت في إنتاج وبث المسرحيات الإذاعية لكبار الكتاب في العالم، لتزيد من إشباع المواطن المصري والعربي بالثقافة المسرحية العالمية أولًا بأول، دون انقطاع.
ولم يقف الأمر عند حدود ما قدمته الثورة من آثار ثقافية عظيمة في مختلف مجالاتها، لكنها أضافت أيضًا المؤسسة المصرية العامة للسينما والتليفزيون والمسرح والموسيقى، لتُصبح الدولة منتجًا أساسيًا في أغلب الأعمال السينمائية والتلفزيونية والمسرحية، ضمانًا لتأسيس الفكر السليم في عقل ووجدان المواطن المصري، دون تركه نهبًا لأهواء ونزوات المتربصين للقيام بهذه المهمة الخطيرة.
وأعتقد أن السبب الرئيس في تلك النهضة الثقافية الشاملة أعقاب ثورة يوليو 1952، هو اختيار الزعيم جمال عبد الناصر لأحد فرسان الضباط الأحرار، وهو ثروت عكاشة، كوزير للثقافة والإرشاد القومي خلال فترتين شديدتي الحساسية؛ الأولى بين عامي 1958 و1962، والثانية بين عامي 1966 و1970، بوصفه رجلًا وطنيًا مثقفًا، استزاد علمًا بحصوله على الماجستير والدكتوراه، وخلَّف من ورائه أكثر من خمسين مجلدًا تأليفًا وترجمة، وكان صديقًا لكبار الفلاسفة الغربيين في عصره، أمثال سارتر، واضطلع بمسؤولية تأسيس مؤسسة ثقافية شاملة، لا تزال هي المعين الأساسي الذي ننهل منه حتى الآن.
هذا بالإضافة إلى مشاريعه غير القليلة في مجال إنقاذ آثار النوبة من الغرق، وإنشاء المتاحف الحديثة، مثل متحف مختار عام 1962، والمتحف المصري الحديث عام 1966.
والمتأمل لإنتاج تلك الفترة الأولى أعقاب ثورة 1952، يتأكد من أن الدولة دعمت المشروع الثقافي الذي حملت على عاتقها تأسيسه، حيث جعلت المنتج الثقافي في متناول جميع طبقات الشعب، سواء كان عملًا مقروءًا أو معروضًا أو مسموعًا، مما كان له أكبر الأثر في بناء الإنسان المصري آنذاك بناءً سليمًا، جعله نموذجًا يُحتذى به، لكل من يستقرئ تلك الفترة، والتي يُطلق عليها بحق "فترة النهضة الذهبية الثقافية المصرية".