الأربعاء 23 يوليو 2025

مقالات

نجيب محفوظ بين ثورتي 1919 و1952

  • 23-7-2025 | 13:05
طباعة

عندما قامت ثورة 1919 كان نجيب محفوظ صبيًا صغيرًا لم يتجاوز عمره أكثر من ثمانية أعوام، لا يعي من الدنيا سوى ما يراه أمامه. أما عندما قامت ثورة يوليو 1952، فكان قد تجاوز الأربعين، أي أنه كان قد بلغ مرحلة العمر التي يكون فيها الإنسان في قمة النضج العقلي في الفهم وتكوين الرؤى في أمور الحياة جميعها، بقدر درجة الوعي التي حصل عليها من ثقافته، وقراءاته الخاصة، والنظرة الذاتية الثاقبة للحياة طوال سنين عمره. وبين الثورتين، وهذه السنين التي مرت عليه، كانت المشاعر المتضاربة في نفس نجيب محفوظ: طفلًا، وصبيًا، ثم شابًا، فرجلًا كهلاً مثقفًا وقارئًا نهمًا، وكاتبًا له عالمه الإبداعي الخاص، وواعيًا لكل ما يجري ويدور حوله. جرت أحداث كثيرة غيرت المشهد السياسي والاجتماعي والإنساني تغييرًا جذريًا، كما غيّرت من حياة نجيب محفوظ نفسه من وجوه عدة: السياسية والمحلية والإبداعية.

وتتواتر الأيام والسنون سريعًا بكل ما كان يفرزه الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي خلال تلك الفترات، والذي كان تأثيره على منجزه القصصي والإبداعي كبيرًا خلال مراحل كتاباته المتنوعة في القصة والمقالة والرواية.

كان منجز نجيب محفوظ الإبداعي عند قيام ثورة يوليو 1952 لا يتعدى سوى ثماني روايات، هي على التوالي: الثلاثية الفرعونية "عبث الأقدار" (1939)، "رادوبيس" (1943)، "كفاح طيبة" (1944)، ثم ما لبثت أن بدأت مرحلة السرد الاجتماعي الواقعي برواية "خان الخليلي" (1945)، بعدها جاءت "القاهرة الجديدة" (1946)، ثم "زقاق المدق" (1947)، و"السراب" (1948)، و"بداية ونهاية" (1951)، إضافة إلى مجموعة قصصية واحدة هي مجموعة "همس الجنون" التي صدرت عام 1938، وعدد من القصص القصيرة نُشرت في العديد من الدوريات خلال تلك الفترة، بدأت بقصة "ثمن الضعف" التي نُشرت في العدد السادس من "المجلة الجديدة" التي كان يصدرها سلامة موسى في 3 أغسطس 1934.

وفي أبريل 1952، وقبل قيام الثورة بشهرين، انتهى نجيب محفوظ من كتابة روايته "الداهية"، بحسب الناشر سعيد السحار صاحب دار مكتبة مصر بالفجالة، الذي رفض نشرها بالصورة التي قُدمت بها، وطلب تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء، ومن ثم قُسّمت الرواية إلى ثلاثية "بين القصرين"، و"قصر الشوق"، و"السكرية". في الوقت نفسه سلّمها نجيب محفوظ إلى يوسف السباعي في ديسمبر من نفس العام لنشرها في "مجلة الرسالة الجديدة" المزمع صدورها خلال تلك الفترة. وقد تم نشرها بالفعل تحت عنوان "بين القصرين" ابتداءً من العدد الأول الصادر في أول أبريل 1954.

بعد قيام الثورة، توقف نجيب محفوظ عن الكتابة فترة ليست بالقصيرة لالتقاط الأنفاس، وحتى يعطي نفسه فرصة لمعرفة الوافد الجديد إلى الساحة السياسية والوطنية والقومية في مصر، خاصةً وأن وفديّته الطاغية عليه سياسيًا هي التي دفعته للتوقف لمعرفة ماذا سيحدث من الضباط الأحرار الذين استولوا على السلطة؟

واستقبل نجيب محفوظ العهد الجديد شأنه شأن كل مواطني مصر، بالترقب والتحوّط ومتابعة الأحداث، وكانت فرصة انشغاله ببعض الأعمال السينمائية، كما أن تعاونه مع المخرج صلاح أبو سيف في بعض الأعمال خلال هذه الفترة هي التي جعلته يتوقف عن الكتابة بصفة مؤقتة.

وكان هو الوحيد في جيله من الكُتّاب الذي فضّل الصمت أكثر من خمس سنوات بعد ثورة 1952، حتى لا يقع في مصيدة "نقد الماضي"، وهو النقد السهل على حد قوله. فقد سبق، قبل قيام الثورة، أن قدم بعض الأعمال الروائية المجسدة للحاضر الملكي والإقطاعي والاستعماري، وهو في قمة عنفوانه، بسلسلة أعمال تاريخية واجتماعية من عام 1939 حتى عام انتهائه من كتابة الثلاثية، ولم يسمح لنفسه أن يواصل هذا النقد بعد قيام الثورة، وتوقف عن الكتابة للأسباب السابق ذكرها.

وبعد فترة ليست بالقصيرة، بدأ في كتابة "أولاد حارتنا" وقدمها إلى محمد حسين هيكل، الذي كان يرأس تحرير جريدة الأهرام في ذلك الوقت، وقام هيكل بنشرها مسلسلة في الصفحات الأولى من "الأهرام" بدءًا من العدد الصادر في 22 سبتمبر 1959. وأثار نشرها الكثير من الجدل في ذلك الوقت، مما جعل عبد الناصر يتدخل ويطلب قراءة الرواية، وبعد قراءتها لم يعلّق عليها بشيء، إنما أمر بنشرها في الصفحات الداخلية من الجريدة.

كانت هذه مقدمات لما كان عليه نجيب محفوظ في السنوات التالية التي أعقبت قيام ثورة 1952، ولعل جميع الحوارات التي أُجريت معه حول موضوع رؤيته تجاه الثورة تفصح عن رؤيته الواقعية للأحداث التي مرت بها الثورة، ووقف نجيب محفوظ يترقب، خاصةً عندما حجّم ضباط الثورة – الحكام الجدد – جميع الأحزاب، بما فيهم حزب الوفد الذي كان نجيب يتعاطف معه شكلاً ومضمونًا.

نجيب محفوظ وثورة 1919

كانت ردود الفعل التي حدثت عند نجيب محفوظ منذ طفولته وصباه، وما سبق أن رآه في ثورة 1919، قد استمرّت معه خلال تلك المرحلة، وكان لها دور كبير في التعبير عن رؤيته الإبداعية، التي بدأت منذ أن بدأ يخط بقلمه المراحل الأولى من إبداعه السردي، خاصةً عندما بدأ في ترجمة "نوفيلا" مصر القديمة للكاتب الإنجليزي جيمس بيكي، وهو الكتاب الذي أوحى له بعد ذلك بكتابة الثلاثية الفرعونية. وربما كانت رواية كفاح طيبة هي أول الغيث الذي راوده في كتابته للتعبير عمّا كان ينادي به ثوار 1919 من حرية واستقلال أو الموت الزؤام.

لقد كان أحمس حاضرًا لديه من خلال تأثره بشخصية سعد زغلول في طفولته.

وعن ثورة 1919 يقول نجيب محفوظ عن هذه المرحلة:

* "أعتبر نفسي من براعم ثورة سنة 1919، فإذا كان للثورة رجالها الذين قادوها، وشبابها الذين اشتركوا فيها، فأنا من البراعم التي تفتحت وسط لهيب الثورة وفي سنوات اشتعالها، ولم يكن عمري حين قامت ثورة 1919 يزيد على سبع سنوات، وسن السابعة في ذلك الوقت أصغر من مثيلاتها الآن، حيث كان المجتمع مغلقًا ومحرومًا من وسائل الاتصال الحديثة مثل الإذاعة والتليفزيون، وكان جهاز الإعلام الحقيقي ينحصر في الأسرة والجيران. وكنت أسمع عن أحداث الثورة وكأنها فيلم سينمائي.

وكان حي الجمالية الذي نعيش فيه مركزًا للثورات والمظاهرات، وعندما رأيت المظاهرات لأول مرة في ميدان 'بيت القاضي' حسبتها 'زفّة فتوات'. ومن خلال أحاديث والدي ووالدتي عرفت أن هناك صدامًا حدث بين المصريين والإنجليز. وحتى ذلك الوقت لم أكن قد رأيت الإنجليز رأي العين، بل لم أكن أعرف أن مصر محتلة.

وبعد اندلاع المظاهرات، رأيت عساكر الإنجليز لأول مرة في ميدان 'بيت القاضي' وهم يطلقون الرصاص على المتظاهرين، ورأيت الجثث على أرض الميدان، وكنت أشاهد هذه المعارك مع والدتي من خلال 'شيش' الشباك.

ومنذ ذلك الوقت اندمجت عاطفيًا مع الثورة والثوار، ساعد على ذلك الأجواء السائدة في بيتنا، فقد كان الجميع متحمسين للثورة إلى الدرجة التي جعلت والدي يحضر للمنزل ذات يوم وفي يده عريضة الثورة، وهي عريضة التوكيل الشعبي لسعد زغلول حتى يكون نائبًا للأمة في طلب الاستقلال، وقد وقع والدي على العريضة وطلب من أمي أن تضع بصمتها عليها، فلم تكن تعرف الكتابة. ونص هذه العريضة استعنت به في رواية 'بين القصرين' بعد ذلك".

(صفحات من مذكرات نجيب محفوظ بقلم رجاء النقاش، ص 181)

أصبح سعد زغلول بالنسبة لنجيب محفوظ هو الرمز الوطني الذي لا يزال باقيًا في ضميره، وأصبحت مبادئه التي ضحى من أجلها بحياته وحريته هي الباقية في عقل وقلب الفتى نجيب، وقد ظهرت بصورة أو بأخرى في معظم ما أنجزه من أعمال روائية وقصصية بعد ذلك.

نجيب محفوظ والثورة الجديدة

وحول رؤيته تجاه ثورة يوليو وما آلت إليه الأحداث، يقول نجيب محفوظ:

* "في الفترة الأولى من عمر الثورة، كانت مشاعري تنقسم بين الخوف على استقلال مصر، وبين الارتياب في الذين قاموا بها. ومع مرور الأيام بدأت مشاعري تتغيّر، بعدما وجدت أنها تسعى لتحقيق العديد من الآمال التي طالما حلمنا بها وتمنينا تحقيقها، مثل الإصلاح الزراعي، والاستقلال التام، وإلغاء الألقاب.

وكان كل قرار من قرارات الثورة الإصلاحية يقربني منها ويملؤني حبًا لها يومًا بعد يوم، وقد لعب محمد نجيب دورًا كبيرًا في تقريب الناس من الثورة والتفافهم حولها، بما كان يملكه من شخصية بسيطة ساحرة، تحمل في طياتها نفس الطابع الشعبي الذي ميّز شخصية مصطفى النحاس.

من اللحظة الأولى التي تراه فيها تشعر فيه بالزعامة، وذلك عكس جمال عبد الناصر، الذي كان وجهه المتجهم لا يوحي لك بزعامته، ولكن لا بد أن تتغاضى عن هذا التجهم عندما ترى أعماله وقراراته وتصرفاته العظيمة".

ويتابع:

* "كان المأخذ الأول لي على الثورة هو تنكرها للديمقراطية ولحزب الوفد الذي ظل يجاهد في سبيل مصر واستقلالها من عام 1919 حتى 1952. وكنت أتعجب من استعانة رجال الثورة بأعداء الوفد، والحاقدين عليه من أمثال علي ماهر ورجال الحزب الوطني.

هؤلاء الذين جعلهم الوفد من الناحية الشعبية بلا قيمة أو وزن، وما كان في استطاعتهم أن يصلوا إلى السلطة إلا بالانقلاب.

كانت الثورة تحتاج في بدايتها إلى أساس شعبي، وكان الأساس الشعبي الوحيد هو الوفد. وقد يُقال إن الوفد في ذلك الوقت ضم بين جنباته كثيرًا من الفاسدين والإقطاعيين والمنتفعين، ولكنه في الوقت نفسه كان يضم شبابًا وطنيًا متحمسًا، ينادي بالاشتراكية والعدالة الاجتماعية، وهي نفس المبادئ التي جاءت الثورة لتحقيقها".

ويواصل نجيب محفوظ رأيه في ثورة يوليو:

* "كان هؤلاء يصرخون بأعلى صوتهم من خلال جريدة 'صوت الأمة' الوفدية، والتي كان الدكتور محمد مندور والدكتور عزيز فهمي من أبرز محرريها، فكيف تستبعد الثورة حزب الوفد بكل تاريخه، ورموزه، وشبابه الوطني، وتلقي بهذا الحزب الوطني بعيدًا كأنه شيء نكرة أو زائد على الحاجة؟

لقد آلمتني كثيرًا المعاملة التي لقيها الوفد وزعيمه مصطفى النحاس على يد قادة الثورة، ولم أجد لها ما يبررها غير الصراع على السلطة، هذا الصراع الذي ظهر بعد ذلك جليًا في أحداث مارس 1954، وفي الصدام مع الإخوان المسلمين.

كنت أتصور أن تستفيد الثورة من القاعدة الشعبية العريضة للوفد من خلال الهيئات التي كوّنتها مثل هيئة التحرير والاتحاد القومي، وتستفيد كذلك ممن يقع عليهم الاختيار من الوطنيين المستقلين. فأي حزب كان سينضم له محمد نجيب أو جمال عبد الناصر، لا شك أنه كان سيحقق له الأغلبية الساحقة، فما بالك لو كان هذا الحزب هو الوفد؟

وفي تقديري، لو أن الثورة اتجهت إلى هذا المنحى لتغير تاريخ مصر إلى الأفضل، ذلك أن الثورة ما كان يمكن، في وجود هؤلاء – من زعماء الوفد والمستقلين الوطنيين – أن تتجه إلى الأسلوب الفردي العنيف الذي مالت إليه، وتتجاهل الديمقراطية.

وأغلب أخطاء الثورة كان سببها غياب الديمقراطية والمشورة".

ويضيف:

* "كانت علاقتي الوجدانية بالثورة تنقسم ما بين التأييد والحب من جهة، والنقد الشديد بسبب تجاهلها للديمقراطية وللوفد، وميلها إلى الفردية والصراع على السلطة من جهة أخرى.

ولم أتغاضَ عن هذه الانتقادات من جانبي للثورة، إلا في فترة محدودة، وهي فترة العدوان الثلاثي على مصر. فقد أيدت الثورة تأييدًا مطلقًا، ونسيت وفديتي، وتجاهلت نقدي لأساليبها الفردية، وأغمضت عيني عن صراعات الحكم، نسيت كل شيء وذهبت إلى إحدى المعسكرات الشعبية التي أقامتها الثورة في مناطق القاهرة لتدريب المتطوعين على حمل السلاح لمقاومة العدوان. تدربت بجدية حتى أتقنت استعمال البندقية البلجيكي وإلقاء القنابل اليدوية".

لقد كان نجيب محفوظ ليبراليًا ديمقراطيًا اشتراكيًا طوال عمره. تصريحاته وكتاباته الإبداعية تنطق كلها بذلك. لقد كان ضد الحكم الشمولي والدولة البوليسية، كما وضح ذلك في سلسلة أعماله الإبداعية الصادرة في ستينيات القرن الماضي، وكانت كلها تقوم على نقد الفترة الناصرية من تاريخ مصر.

وقد بقيت هذه العقيدة حتى أواخر عمره، وبيّنها في أحد أحلام فترة النقاهة في "الأحلام الأخيرة"، وهو أحد الأحلام السوريالية التي بيّن فيها نجيب محفوظ ما تقوم به أجهزة الشرطة من بطش ظالم بالمواطنين.

الرؤية الإبداعية

لا شك أن ثورتي 1919 ويوليو 1952، بما حدث في كل منهما من أحداث جسام، كان لهما في إبداع نجيب محفوظ الحظوة والحضور اللافت في اختيار القضايا والأحداث والشخصيات التي تخص كلًّا منهما، بحسب ما يدور في كل منهما من أحداث.

فكانت جميع الأعمال الروائية والقصصية التي كُتبت قبل 1952 تتناول أحداثًا وقضايا اجتماعية ووطنية طالت المجتمع من جوانب نمطية وتقليدية، أهمها إبراز المعدن الحقيقي للشعب المصري من خلال قيمة معدنه الأصيل في البحث عن الحرية والهوية الوطنية الحقة، وهو ما أصّله في ثلاثيته الفرعونية التي تمثل الإرهاصات الأولى للفن الروائي عند نجيب محفوظ.

فالبطل الشعبي في عبث الأقدار هو ذلك الطفل الوليد الذي يجرد له الملك خوفو حملة ضخمة من جيشه ليقهره، وهو لا يزال في مهده، بينما هو في الحقيقة إنما يجرد هذه الحملة ليقهر بها هذه الأصوات التي تنادي بنقل السلطة إلى أبناء الشعب.

والبطل الشعبي في رادوبيس هي تلك الأصوات التي تخرج من المعبد متمثلةً في أصوات الكهنة، التي تطالب الملك المنغمس في ملذاته وشهواته مع الغانية "رادوبيس"، بإعادة أراضي المعبد مرة أخرى إلى ملكية الشعب، كرمز لإعادة الأرض إلى أصحابها الحقيقيين.

أما البطل الشعبي في كفاح طيبة، فكان يتمثل في ملامح كثيرة وجدت نفسها تظهر على سطح مضمون الرواية، فها هو الملك "سيكنن رع" الذي كان يقف على رأس جيوشه المصرية ضد "أبو فيس" ملك الهكسوس، وهو حفيد الأمير "أحمس"، البطل الذي قُدّر له أن يخوض المعارك، ويركب موجات الصعب ليقهر في النهاية جحافل الهكسوس، ويطهر مصر من شرورهم وعبثهم ومجونهم، يخوض المعركة – معركة مصر كلها – في سبيل نصرة الحق ودفع الغازي بعيدًا عن أرض مصر الطاهرة.

كما عاصر ثورة يوليو 1952، وكيف انحاز نجيب محفوظ إلى زمرة الشعب البسيط، ونقد ما كان يحدث في ذلك الوقت، ولم يُرَائِ السلطة ولا الحاكم، بل وضع يده على كثير من السلبيات التي اعترف بها الحاكم نفسه، حينما أراد بعضهم أن يحاكمه بسبب رؤيته في أحداث رواية ثرثرة فوق النيل، ونقد المرحلة الناصرية وانتهاك الحريات من خلال شخصية "خالد صفوان" في رواية الكرنك. وكان البقاء والمصير في رؤى نجيب محفوظ هو الحل الواقعي الذي يجب أن تسير عليه الحرية والديمقراطية في حقيقتها، وما كان يحلم به البسطاء من أفراد الشعب. كما تعرض الكاتب أيضًا إلى الصراع في المشكلات الإنسانية والأساسية في معيشة الناس في مصر، والمشاعر والأحلام التي كانت تخايلهم في حياتهم.

كل ذلك أبدعه نجيب محفوظ، وظهرت مخيلته في إبداعاته الروائية والقصصية والسينمائية.

روايات ما بعد 1952

القارئ لكتاب قراءة الرواية... نماذج من نجيب محفوظ للدكتور محمود الربيعي، يرى أنه من أهم الكتب النقدية التي صدرت عن إبداعات نجيب محفوظ الروائية، خاصة في المرحلة ما بعد يوليو 1952.
في هذا الكتاب، يبلور الدكتور الربيعي الفكرة الأساسية لرؤيته النقدية الخاصة، إذ اختار الروايات الست التي صدرت بعد الثلاثية لقراءتها قراءة متأنية، وتوصيل رؤيته بعد ذلك إلى القارئ.

وقد وصل الدكتور الربيعي في تحليله إلى قناعة خاصة وذائقة ذاتية تعينه على فهم التأويلات والدلالات التي وضعها نجيب محفوظ للكشف عن القضايا الاجتماعية والسياسية والفلسفية في أعماله الإبداعية الروائية، وهو ما فعله الدكتور الربيعي بالفعل في قراءته لهذه المجموعة من الروايات المنتخبة.

ولم يكن اختياره لهذه الروايات عشوائيًا، بل كان واعيًا، أراد من خلاله أن يُوصِّل للقارئ والمتخصص محتوى هذه المرحلة التي جاءت في كل موضوعاتها تقريبًا، حاملةً النظرة الفلسفية لأعمال محفوظ بعد ثورة 23 يوليو 1952، بمحتواها السياسي والاجتماعي والإنساني.

فن المقالة عند نجيب محفوظ

حَظِي فن المقالة عند نجيب محفوظ بأهمية كبيرة خارج نطاق الإبداع السردي المعروف به، باعتبار أن نثره في فن المقالة له مذاقه الخاص من نواحٍ عدة، أبرزها:

رؤيته النافذة تجاه الأحداث، وخبرته الحياتية التي عبرت العديد من القضايا والإشكاليات السياسية والاجتماعية والثقافية والفلسفية في مصر والعالم العربي، ونظرته الثاقبة المعمقة في التعبير برؤيته الخاصة عن هذه المجالات الحيوية المرتبطة بالواقع المَعيش.

كان كثيرًا ما يتأمل الأحداث المصيرية المرتبطة بمقدّرات الوطن، ويتمعّن فيها بخبرته الثقافية والحياتية، ويدلي برأيه تجاهها برؤيته الذاتية، التي اكتسبها من تجاربه وثقافته ونزعته الفلسفية التي سكنت كل ما كتبه من إبداعات قصصية وروائية وسردية أخرى.

وقد كتب محفوظ المقالات في مراحل مختلفة:

من بدايات شبابه في المجلة الجديدة لصاحبها سلامة موسى، أو الملحق الأسبوعي لجريدة السياسة اليومية برئاسة محمد حسين هيكل، أو جريدة المعرفة لصاحبها عبد العزيز الإسلامبولي، أو جريدة الجهاد والأيام.

وكانت هذه المقالات تتسم بالموضوعية والتنوّع، ومنها:

"احتضار معتقدات وتولد معتقدات" – المجلة الجديدة، أكتوبر 1930

"عن موضوع المرأة والوظائف العامة" – السياسة الأسبوعية، 11/10/1930

"تطور الفلسفة إلى ما قبل عهد سقراط" – المعرفة، أغسطس 1931

"فلسفة سقراط" – المعرفة، أكتوبر 1931

"أنطون تشيكوف في الأدب الروسي" – السياسة الأسبوعية، 8/5/1933

"عَمُّ الخال فانيا عن تشيكوف" – المعرفة، يونيو 1933

"ميكائيل أنجلو: آية من آيات النهضة" – الجهاد، 10/10/1933

"الضحك عند برجسون" – الجهاد، 21/11/1933

"فكرة النقد في فلسفة كانت" – السياسة الأسبوعية، 14/4/1934

"الحياة الكاملة" – الجهاد، 16/6/1934

"معنى الفلسفة" – الجهاد، أغسطس 1934

وبعد خروجه على المعاش عام 1971، عُيّن محفوظ في جريدة الأهرام، وبدأ كتابة عموده الأسبوعي الشهير "من النافذة"، الذي أصبح نافذة فكرية مهمة للتعبير عن آرائه تجاه الواقع المصري والعربي والعالمي.

وقد تناول فيه قضايا كبرى مثل الديمقراطية، الدين، السياسة، التعليم، الثقافة، العدالة الاجتماعية، والهوية.

ومن مقالاته البارزة في الأهرام:

"الشعب والمصير" – 7/9/1975

"الشكاوى كمدخل لإصلاح الإدارة" – 24/4/1980

"الرقابة والإدارة.. والحساب والجزاء" – 29/5/1980

"الأمل في حياة أفضل" – 5/6/1980

"المسلم وسماته الحقيقية" – 17/7/1980

"الثورة المنتظرة" – 4/9/1980

"الهدف ومعرفة الطريق" – 18/9/1980

"طريق السلامة وطريق الندامة" – 9/10/1980

"الثقافة والإذاعة" – 30/10/1980

"المسلمون بين محمد عليه السلام وأبي لهب" – 9/11/1980

وقد أصدرت الدار المصرية اللبنانية مجموعة من الكتب التي تضم هذه المقالات، منها:

"حول الدين والديمقراطية"

"حول الشباب والحرية"

"حول الثقافة والتعليم"

"حول التدين والتطرف"

"حول العدل والعدالة"

"حول التحرر والتقدم"

"حول العلم والعمل"

"حول العرب والعروبة"

وتُمثِّل المقالة في إبداعات نجيب محفوظ علامة فكرية مميزة، تعكس وعيه الحيّ بممارسات وردود أفعال المجتمع، محليًا وعربيًا وعالميًا.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة