الثلاثاء 29 يوليو 2025

مقالات

التكوين بين الشيخ والأستاذ.. سلسلة متصلة من تراكمات المعرفة

  • 24-7-2025 | 10:21
طباعة

ولدتُ قرب منتصف القرن العشرين، في نهاية عام 1948، بقرية نائية تابعة لمحافظة المنيا في مصر الوسطى. تقع القرية على الشاطئ الشرقي للنهر المعروف ببحر يوسف؛ وهو يجري من أسيوط إلى الفيوم محاذيًا للصحراء الغربية. ولم يكن وجود القرية على ضفة النهر مبعثًا للفرح بقدر ما كان مبعثًا للخوف على الأبناء من الغرق في النهر، وهو خوف لم يمنع الصبية من النزول إلى النهر هربًا من قيظ الشمس وحرّها. ولم يعرف واحد منهم قط – أثناء قسمة الطفولة من العمر – أن ذلك سوف يسبب لهم أمراضًا جسيمة ناتجة عن الإصابة بالبلهارسيا. وكنتُ واحدًا من هؤلاء الصبية الذين لم يمنعهم عقاب الآباء وشيخ الكُتّاب من النزول إلى النهر، ولم أنجُ طبعًا من الإصابة بالمرض، وإن كنتُ قد تخلصت منه بالعلاج في مرحلة مبكرة من العمر.

التحقتُ بكُتّاب القرية في سن صغيرة، وقضيتُ فيه عامين أتعلم الحساب والقرآن. ولم أكن أُجيد الحفظ، فكنت أنسى ما أحفظه، وهي خصيصة لا تزال تلازمني حتى الآن. وقد تسبب ذلك في ترك الكُتاب خوفًا من العقاب القاسي على سوء الحفظ، وقد أنقذني منه أن أصبحتُ في سن الالتحاق بالمدرسة. وكانت السنوات الست في المدرسة الابتدائية سنوات ممتعة، تمتعتُ فيها بالحصول على جوائز وتشجيع من المدرسين الذين كانوا على درجة عالية من الكفاءة.

التحقتُ بالمدرسة الإعدادية بالمدينة، يلازمني – والصغار الذين في سني – خوفٌ شديد من الفشل والرجوع أدراجي إلى القرية. كان علينا أن نقيم في المدينة بمفردنا، كل اثنين أو ثلاثة في غرفة بعد أن يكون الآباء قد رتبوا أمور الإيجار وتوصية أهل البيت برعايتنا وقت الحاجة. قضيتُ في مدينة مغاغة (المدينة التي وُلِد فيها طه حسين في قرية على أطرافها) ست سنوات حتى حصلتُ على الثانوية العامة، متفوقًا في قسمها الأدبي، حيث كنتُ الأول على كل المحافظة. وكان هذا التفوق ثمرة تشجيع ورعاية من مدرسات المدرسة الثانوية للبنات التي التحقنا بها في الصف الثاني، حيث حتّمت الظروف إنشاء فصل مشترك للقسم الأدبي في مدرسة البنات.

التحقتُ بكلية الآداب – جامعة القاهرة، راغبًا في أن أتخصص في الصحافة التي عشقتها من قيادتي لمجموعة الصحافة والإذاعة المدرسية، ولكن شاءت الأقدار أن تكون السنة الأولى في الكلية عامة، يدرس فيها الطالب معظم التخصصات. وقد حولت هذه السنة، -التي حصلنا فيها على زاد معرفي كبير-، اتجاهي إلى دراسة علم الاجتماع، حيث أدركتُ حينئذ أهمية هذا العلم في تكوين الوعي وبناء الوجدان الاجتماعي، ومن ثم أهميته في بناء الأوطان. وتلاقت رغبتي مع رغبة والدي، الذي لم يحب أن ألتحق بقسم الصحافة (لكي لا أضطر أحيانًا إلى الكذب في القول، كما كان يقول). ووجدتُ في دراسة علم الاجتماع متعة، قرأتُ فيه بعمق، ووجدت من أساتذتي تشجيعًا كبيرًا، وكان من نتيجة ذلك أن أكون الأول على دفعتي خلال السنوات الثلاث، الأمر الذي قادني إلى أن أكون معيدًا بقسم الاجتماع بكلية الآداب – جامعة القاهرة عام 1972، وهو العام الذي بدأت فيه رحلة جديدة من العمر. وكانت السنوات الأربع التي قضيتها في كلية الآداب سنوات للمعرفة والتأمل وتكوين الطموحات الكبيرة. انعزلتُ في الحياة الجامعية عن عالم المدينة، سكنتُ مع أصدقاء في حجرة صغيرة بـ 14 شارع الصناديلي بالجيزة، ورغم الصخب والضوضاء وازدحام الحجرة بالضيوف القادمين من القرية والذاهبين إليها (وكان معظمهم من المجندين الذين تم استبقاؤهم في الخدمة بعد 1967)، رغم ذلك، حافظتُ على تفوقي، واستنبتُّ من خلال الضوضاء والجلبة قدرةً على أن أقرأ وأذاكر دروسي. وقد تركتُ هذه الحجرة وذهبت إلى المدينة الجامعية في عامي الرابع.

بدءًا من عام تخرجي من الجامعة، بدأتُ الرحلة نحو التكوين الأكاديمي بالحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه. وقد اخترتُ أن أكون متخصصًا في نظرية علم الاجتماع، وأن أخوض هذا المجال رغم صعوبته، وكتبتُ رسالتي للماجستير حول الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع الغربي، وحازت الرسالة على أعلى تقدير، وطُبعت في كتاب بعنوان "نظرية علم الاجتماع بين الاتجاهات الكلاسيكية والنقدية"، وهو كتاب أصبح معروفًا في معظم البلدان العربية. وكان عليّ أن أتجه في دراسة الدكتوراه إلى العمل الميداني، فاخترتُ أن أطرق موضوعًا جديدًا في فرع ناشئ من فروع علم الاجتماع، وهو علم الاجتماع السياسي. وكان موضوع جماعات الصفوة هو موضوع رسالتي للدكتوراه، التي عالجتُ فيها التفاعل بين جماعات الصفوة القديمة والجديدة في الريف المصري، وحازت الرسالة على تقدير عالٍ، ونُشرت في دار المعارف عام 1981 بعنوان "البناء السياسي في الريف المصري". وكانت البعثة إلى إنجلترا، عبر عامين قضيتهما في جامعة إيست أنجليا بإنجلترا لجمع المادة العلمية للدكتوراه، فاتحة خير كبير في تكويني العلمي، فقد أتقنتُ اللغة الإنجليزية إتقانًا جيدًا، وقرأت بها معظم ما نُشر في موضوعي، مع تعميق القراءات في الثقافة العامة وفي الفلسفة والأدب. وقد عدتُ من البعثة وأنا على يقين بأن لا سبيل إلى تكوين علمي جيد في العلوم الاجتماعية دون سياحة فكرية في الحقول المجاورة، في الفلسفة والأدب خاصة.

وبعد حصولي على الدكتوراه في العام 1981، بدأتُ رحلة جديدة مع علم الاجتماع. ولن أتحدث كثيرًا هنا عن تدريس العلم الذي مارسته في جامعة القاهرة وجامعات مصرية أخرى، وجامعات عربية (في السودان وقطر والإمارات العربية المتحدة). ويكفيني هنا القول بأنني لم أنشغل في هذه المسيرة التدريسية الطويلة بتأليف كتب مدرسية للطلاب، فلم أكتب سوى ثلاثة كتب: في مدخل علم الاجتماع، وعلم الاجتماع السياسي، وتصميم البحوث الاجتماعية. وكان الدافع وراء ذلك أنني أنظر إلى التدريس على أنه وجه واحد للعملة، وهو ليس أهم وجوهها؛ فهناك البحث والترجمة، والمساهمة الثقافية في المجال العام، والمشاركة الاجتماعية في حياة المجتمع، وكلها جوانب حرصتُ على أن أقدم إسهامات فيها.

وكان هذا هو ملخصًا مختصرًا لسردية تكويني، ولكني لو تأملتها في تفاصيلها، فسوف أجد أنها كانت سلسلة متصلة من تراكمات المعرفة، والاطمئنان النفسي والاجتماعي، وتحييد لمشاعر الخوف من الفشل وعدم إدراك النجاح. ومن الجميل أن نُعاود النظر ونتدبر الإضاءات المختلفة التي ساهمت في هذه التراكمات. كانت الإضاءة الأولى من الأسرة، من حكمة الشيخ الذي يشع من كلامه الاطمئنان والإيمان، ومن سلوكه قيم العدل والاستقامة، ومن تفاعلاته الحياتية الثقة والاحترام. هنا وُضعت اللبنة الأولى لكل ما هو آت، هنا زُرعت البذور الأولى لقيم العدل والتسامح والرضا والصدق؛ وبدأ الانطلاق نحو العالم الأوسع. وكانت القرية بداية هذا العالم. أتذكر الآن تلك الميول الاستكشافية الكثيرة التي صاحبت طفولتي. كانت القرية أفقًا مفتوحًا هادئًا غير مكتظ بالسكان وجلبة الصغار كما هي الآن. لم أترك شارعًا في القرية إلا مررتُ به، خاصة هذه الشوارع الضيقة المخيفة التي كانت تُروى عنها قصص عن الجن والعفاريت. وكانت سطوح المنازل وحوائطها المرتفعة مرتعًا للتسلق والجري، والعبث بالأشياء المهملة، وكان النخيل الذي يحيط بالقرية مصدرًا لاختبار المغامرة؛ وكانت الحقول الممتدة براحًا للجري واللعب. كان كل شيء في المكان مُباحًا رغم المخاطر التي يبعثها، وكان كل شيء بالنسبة لي مصدرًا للمغامرة، إلا هذا النهر الذي لا يمر عام إلا وقد أخذ طفلًا أو اثنين. أتذكر الآن مخاطر كدتُ أقع فيها، ولا أعرف كيف نجوتُ منها، ولكن الخبرات الأولى في هذا المكان الفسيح الهادئ فتحت أفق العقل والوجدان نحو الانتقال إلى عوالم أكبر في دنيا الحضر.

وجاء الدخول إلى عالم المدينة في مرحلة مبكرة من الحياة. تكون المدينة، بالنسبة لطفل القرية، دائمًا مكانًا أعلى مكانة، وأكثر اتساعًا، لكنها تكون أيضًا مصدرًا لخوف جديد وقلق جديد. ذهبتُ إلى المدينة لإقامة شبه دائمة في سن الالتحاق بالمدرسة الإعدادية. ومنذ ذلك التاريخ ارتبطت حياتي بالمدينة أكثر من ارتباطها بالقرية، رغم أنني أتردد على القرية حتى الآن لأقضي يومًا أو يومين بين الأهل وفي منزلي على شاطئ النهر الذي زرع فينا الخوف ونحن صغارًا، والذي أطلقتُ عليه اسم "السَّقِيفة". بين مدينة مغاغة ومدينة القاهرة تشكلت تكوينات عقلية ووجدانية جديدة تراكمت على ما سبقها. كلما تقدم بي الزمن عبر تسع سنوات من الدراسة، كلما تم تحييد مشاعر الخوف من السقوط في هذا العالم الغامض، وكلما تحقق قدر من الاطمئنان، بدعم من التقدم في مستوى التحصيل ومستوى الدرجات التي أحصل عليها كل عام. وتعلمتُ عبر هذه المرحلة (الإعدادية والثانوية) على يد أساتذة ما يزال صوتهم يتردد في أذني. في كل مستويات التعليم أشير بسرعة إلى محطات تركت علامات في حياتي، من أهمها: الألم الذي تركته عصا الأستاذ أحمد الكبير، معلم اللغة الإنجليزية، لأنني تسرعتُ في إجابة سؤال دون أخذ الإذن (الصف الأول الإعدادي)؛ والتشجيع الذي لقيته من الأستاذ مرجان، معلم العلوم (الصف الثاني الإعدادي)؛ والكلمات التي سمعتها من الأستاذ وجدي، معلم العلوم (الصف الأول الثانوي)؛ والتشجيع الذي تلقيته من الأبلة ليلى عندما تشجعتُ وأجبتُ عن سؤال باللغة الإنجليزية في أول يوم لالتحاقي بمدرسة البنات الثانوية (كنتُ قد قررتُ أن أتحول إلى القسم العلمي في مدرسة البنين، وهذا الموقف هو الذي جعلني أغير رأيي)؛ والتشجيع الذي جاء من الأبلة إِلن، أمينة المكتبة، والشيخ لطفي، مدرس اللغة العربية، والأستاذ هندي، مدرس التاريخ. لقد كان العامان الثاني والثالث الثانوي في مدرسة البنات من أفضل مراحل تكويني، حيث كانت المدرسة الثانوية مكانًا للقراءة والخطابة والبحث والدراسة، ولم تتخلف مدرسة أو مدرس يومًا عن الحضور، وكانت الإدارة المدرسية بقيادة الأبلة عفيّات إدارة لم أرَ مثلها في حياتي الدراسية وغير الدراسية من حيث الانضباط والإخلاص في العمل.

وكانت كلية الآداب في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات مكانًا لإنتاج الفكر والثقافة، وكانت تضم قاعات فكرية وعلمية كبيرة. تتلمذنا في السنة الأولى (السنة العامة) على أيدي شوقي ضيف، ورشاد رشدي، وإبراهيم رزقانة، وحسن محمود، ومصطفى الخشاب، ويحيى هويدي، وسهير القلماوي. سمعناهم جميعًا، وقد كانوا ملء السمع والبصر، وكان يقف من خلفهم جيل من الشباب كنا نسمع إليهم في الفصول الصغيرة، وكنا نجلس معهم إن شاءت الظروف، أصبحوا فيما بعد أساتذة كبارًا، منهم: عبد العزيز حمودة، وسمير سرحان، ومحمد عناني، وحسن حنفي، وأحمد مرسي، وجابر عصفور، وأميرة مطر، وعبد المحسن طه بدر، والنعمان القاضي، ونبيلة إبراهيم. لم تكن المحاضرات العامة ودروس القاعات الصغيرة هي مصدر التكوين الوحيد، بل كان كل هذا الزخم الثقافي: الندوات والمؤتمرات ومناقشات الرسائل، والحفلات الفنية، والمسابقات في الشعر والتاريخ والسرد، ومجادلات كافتيريا الآداب، ومجلات الحائط. أحببتُ المكان وعشقته، وكنتُ كلما ولجتُ إلى باب الجامعة كل صباح، أنظر إلى القبة وأردد بصوت مسموع لي: "هل يمكن أن أبقى هنا طيلة حياتي؟ يا رب، حقق لي هذا الأمل."

وكما بدأتُ بالأسرة التي نشأتُ فيها، فسوف أختتم كلامي بحديثي عن الأسرة الثانية التي ساهمت في صقل ما حصلتُ عليه في نشأتي الأولى، وفي بناء أسيجة من الحماية والدعم والمساندة، ساهمت في مزيد من تحييد مشاعر الخوف من عالم المدينة، ونسج رداء من الاطمئنان؛ تلك هي أسرة الأستاذ الدكتور محمد الجوهري، والأستاذة الدكتورة علياء شكري. فمنذ أن استقبلني في منزله عام 1973، وهو يمنحني لقب الابن البكر، ويشجعني على مزيد من القراءة، ويحضر لي كتبًا كلما سافر إلى الخارج، وفوق كل ذلك يمنحني فرصة قضاء وقت طويل معه، وهو يعمل في مكتبه، يكتب ويترجم، أتعلم منه عن قرب، وأتدرب على الترجمة (عندما يُملي عليَّ ما يترجم وأُدونه أمامه كتابة)، وعلى الكتابة (عندما كان يجعلني أُبيض له بعض النصوص أو أراجع أخطاء الطباعة)، وأستعير ما أشاء من مكتبته الخاصة. لقد تحول منزل الدكتور الجوهري إلى منزل ثانٍ لي، لم أتعلم فيه العلم فقط، بل تعلمت فيه أساليب الحياة الحديثة، وتعرفتُ فيه على كبار الأساتذة والمثقفين، وشعرتُ فيه بدفء لم أشعر به إلا في أسرتي الأولى.

وأخيرًا، لا يسعني إلا أن أقول: إنها رحلة طويلة، أخذتني إلى بقاع كثيرة من هذه الأرض، ولكن لم تفارقني قط تلك القيم والمبادئ التي تشكلت داخل أسرة شيخي وأسرة أستاذي.

الاكثر قراءة