هذه هي الحلقة الثانية في القراءة النقدية لكتاب المفكر المصري الكبير جمال حمدان «استراتيجية الاستعمار والتحرير» الصادر عام 1983. عرضنا في الحلقة الأولى للصراع في العصور القديمة والوسطى وثنائية البر والبحر في السيطرة على الشعوب وكفاح الأمم نحو التحرر. ونكمل اليوم مرحلة جديدة في مسلسل هذا الصراع حين ظهرت في العصور الوسطى ثلاث قوى غيرت خريطة العالم: الصليبيات، المغول، والأتراك العثمانيون. الصليبيات.. اسمٌ على غير مسمى يستخدم حمدان المصطلح الذي كان معروفا في النصف الأول من القرن العشرين "الصليبيات" وليس المسمى الذي نستخدمه حاليا "الحملات الصليبية". ويبدو أن "الصليبيات" أشمل وأعم لأنها تشمل – علاوة على الحملات الصليبية - المستوطنات التي أقامها الاستعمار الصليبي في المشرق الإسلامي، وذلك خلال ثلاثة قرون من الثاني عشر إلى الرابع عشر.
يتفق حمدان مع المدرسة الشهيرة التي ترى أن الصليبيات مسمى مخادع لأنها "وإن كان الدين شعارها فإن محركاتها ودوافعها الخبيثة كانت أساسا: علمانية، مادية، واقتصادية". يمضي حمدان فيوضح سببين رئيسيين لهجوم الصليبيات على المشرق العربي الإسلامي: الإثارة والغيرة من امتلاك الثروة، فقد كان الوضع الاقتصادي متناقضا بين الطرفين، فبينما كان المشرق الإسلامي في أوج عصره الذهبي، كان الأوروبيون في حضيض عصورهم المظلمة، وبينما كان الأول يتمتع باقتصاد زراعي مستقر، كان الثاني يعاني من اقتصاد زراعي متخلف يكبله رق الإقطاع الفاحش. رغبة الأوروبيين في الاستيلاء على الموقع البؤري للمشرق الإسلامي الذي يسيطر بطريقة شبه احتكارية على مجمع أعصاب التجارة العالمية بين الشرق والغرب، وما يوفره ذلك من ثروات لحكومات المشرق الإسلامي. أي أن مدن أوروبا التجارية النامية أرادت الاستحواذ على هذا الفيض الدافق من ثروة الشرق الإسلامي. ولا عجب إذن أن الحروب الصليبية بدأت بتمويل من كبار تجار وأوليجاركية البندقية وجنوة وبيزا. لقد قرر هؤلاء - في حسد مكشوف - أنه " إما أن تشارك في ثروة الشرق الإسلامي وإما أن تنقض عليه". كان لابد للقوى الأوروبية الطامعة من رفع شعار أو دعاوى تتستر بها على الأسباب الحقيقية السابقة. ومن ثم زعمت أنها جاءت هنا للدفاع عن المسيحيين في الأراضي المقدسة وحماية الحجاج من الاضطهاد. وقد أخذت الحملات الصليبية إلى الشرق طريقين: بري وبحري. فأما الطريق البري فجاء عبر قلب أوروبا فالبلقان فالأناضول البيزنطية، وأما الطريق البحري فسار بحذاء ساحل المتوسط وعبر أساطيل البحر من أوروبا إلى الساحل السوري والمصري. وقد مثلت قبرص هنا مفتاحا بحريا للقفز على مصر وبلاد الشام. على المحور البري كانت بوابة "قيليقيا" في الأناضول هي جبهة الغزو. ولو كان عند حمدان مصادر مقارنة لموجات الاستعمار – كما هو متوفر لنا اليوم في 2025 - لكتب ملاحظا أن قيليقيا هذه هي نفسها البوابة التي قدم منها الإسكندر الأكبر لغزو الشرق الخاضع لسيطرة فارس قبل 1400 سنة من الحملات الصليبية. ينقل حمدان عن بعض مؤرخي الغرب قولهم إن الصليبيات هي أول حركة استعمارية كبيرة قام بها الغرب الأوروبي في العصور الوسطى، وكانت في مسيرة التاريخ والجغرافيا حلقة وصل ومرحلة انتقالية بين الاستعمار الجزئي القديم - الذي باشرته أثينا وروما - وبين الاستعمار الحديث الذي ستخرج إليه أوروبا بأسرها في المستقبل. ويبدو أن هذا النقل من حمدان في حاجة إلى مراجعة وتدقيق.
فما قامت به أثينا وروما في حقيقته لا يختلف عما قامت به الحروب الصليبية، إذا كنا نتحدث عن الاقتصاد والثروة والأطماع في خيرات المشرق. ومن ثم فلا فارق بين القديم والجديد في هوية الاقتصاد الاستعماري واحتلال الأراضي وقتل الناس (انظر مثلا إلى التاريخ الدموي للإسكندر الأكبر وخلفائه، أو ما اقترفه الرومان في حق شعوب الشرق وحوض المتوسط). الفارق الأكبر - الذي لم يشر إليه حمدان أو المراجع التي نقل عنها – يكمن في أن الصليبيات أول حركة استعمارية ترفع راية الرب سببا للغزو. في الماضي كانت أسباب الغزو بها طبول ورايات أيضا، لكنها لم ترفع شعارات الأديان وتربط الدماء باسم الرب. ويبدو أن الغرب هنا استلهم فكرة "الجهاد" من الشرق الإسلامي نفسه الذي سبقه في التوسع. إذا أردت الانتصار فعليك برأس الأفعى أكثر إقليم إسلامي عانى ويلات الصليبيات هو بلاد الشام، حيث شن عليه الأوروبيون 8 حملات خلال القرنين 12 و 13. ولأن هذه الموجات الثمانية هي قمم الغزو التي أخفت فيما بينها هجوما متصلا لم ينقطع طيلة قرنين فإن حمدان يرى أن الصليبيات في انتظام تدفقها هي أشبه" بالجراد المنتشر منها إلى أسراب الطيور المهاجرة". وينقل حمدان عن اثنين من كبار المؤرخين والجغرافيين الغربيين أن هذه الغزوات لم تكن دوما من صنع جيوش نظامية بل عصابات من العمال وعبيد الإقطاع الزراعي الأوروبي، مما منح الصليبيات "مسحة بربرية". في أقصى توسع لها شملت الصليبيات النطاق الساحلي في بلاد الشام حتى أعلى الفرات، ضمت من الشمال إلى الجنوب: أنطاكية، طرابلس وعكا. وفي المرحلة الأخيرة من حياة الصليبيات اتجهت إلى مصر - من طريق قبرص البحري - حملتان صليبيتان في النصف الأول من القرن 13 تصدى لهما المصريون في الدلتا ولقنوهم هزيمة شاملة. وطيلة ذلك الصراع وصف الصليبيون مصر بأنها "رأس الأفعى ومستودع الإمدادات". وحين يسأل حمدان عن السبب في هذا النمو الصليبي يقدم الإجابة المتوقعة والتي تحمل رسالة ضمنية عبر تاريخ المشرق الإسلامي: " هُزم المسلمون لعدم وجود وحدة الشام العربي، وتمزقه إلى مراكز متنافسة من دول المدن والولايات ضئيلة الحجم والوزن، ولو كان الشام متحدا مع مصر لما وقعت الصليبيات". وبعد أن نجح المسلمون في طرد الصليبيات، استفادت أوروبا من حملاتها على المشرق الإسلامي في تعلم درس مهم وهو أن هذه الحملات هي "أول ما وحد أوروبا ومنحها شعورا بالقومية حتى ليعدها البعض بداية تاريخ أوروبا الحديث". برابرة المشرق الإسلامي رأينا في الحلقة الماضية من تاريخ الاستعمار والتحرير كيف شن بدو الاستبس (قبائل السهول العشبية) هجماتهم على مراكز الحضارات الزراعية المستقرة. وها هي موجة جديدة منهم تأتي في العصور الوسطى، هذه المرة تحت عنوان "الغزو المغولي". الجديد أن غارات الاستبس خلال العصور الوسطى صارت أشد عنفا وتخريبا، فضلا عن توسعة رقعتها الجغرافية فترامت من الصين والهند مرورا بغزو بلاد الروس وأوروبا الشرقية حتى بلغوا وسط أوروبا.
ولم يكن المشرق الإسلامي بعيدا عن الكارثة، فقد وقع ضحية الغزو المغولي. ويلاحظ حمدان هنا أنه بمثل ما كان هناك برابرة في أوروبا من داخل القارة فإن هؤلاء المغول ومن سيأتي بعدهم من أتراك آسيا هم برابرة المشرق الإسلامي الآسيوي، وسيستمر امتصاصهم لاحقا وترويضهم في الحضارة الإسلامية، لكن بعد أن ينجحوا أولا في تخريب وتدمير صروح تلك الحضارة. وكما تخلى برابرة أوروبا عن وثنيتهم لصالح المسيحية الأوروبية تخلى برابرة المشرق الإسلامي من المغول عن وثنيتهم لصالح الإسلام لاحقا. ومن مصائب العالم الإسلامي في تلك الفترة أنه في الوقت الذي كانت الصليبيات في شوطها الأخير (ولا سيما في الهجوم على مصر) كان الغزو المغولي في أوجه وذروته، وتزامن أن شن كل منهما هجماته معا على المشرق الإسلامي. وهنا نصل إلى حالة فريدة في تاريخ الشرق العربي الإسلامي وهي قدرته على مواجهة "كماشة" البر والبحر في آن. وينقل حمدان هنا عن اثنين من كبار المفكرين الغربيين أن الصليبيات حاولت أن تتحالف مع المغول لوضع المشرق العربي الإسلامي بين سندان المسيحية الأوروبية البحرية ومطرقة الوثنية المغولية البرية، أي بين قراصنة البحر وقراصنة السهوب أو بين ذئاب البحر الصليبيين وذئاب البر من المغول.
وكان العراق أكثر أقاليم المشرق الإسلامي تضررا وتخريبا من جراء غزوات المغول. وفي تحوله من الهجوم إلى الدفاع تقهقر العراق من "رأس حربة" في مجد الخلافة الإسلامية ليصبح "درعا" دفاعيا أمام المغول، ولذا تلقى العراق أغلب الضربات التي جاءته من الشرق حتى تحطم للأسف، ولكنه في هذا قد "افتدى العالم العربي كله" فكان هذا فضله الكبير جغرافيا وتاريخيا. نلاحظ هنا أن حمدان استخدم بذكاء ودلالة عبارة "افتدى العالم العربي" في إشارة إلى المفهوم الشيعي لفداء الحسين في كربلاء العراق، دون أن يقصد حمدان أية دلالات مذهبية. اتجه المغول بقيادة تيمورلنك إلى الأناضول (آسيا الصغرى) حيث كانت قوة الأتراك العثمانيين، التي بدأت نواة تابعة صغيرة في خدمة دولة الأتراك السلجوقية التي وقفت معادية للمغول. وقد أخذ الأتراك العثمانيون يعززون قوتهم حتى انتزعوا لأنفسهم من الخلافة العباسية مكانا في هضبة الأناضول. ورغم أن المغول بقيادة تيمورلنك انتصروا على الأتراك العثمانيين في معركة أنقرة 1402، إلا أن هذه المعركة أوقفت المد المغولي إلى الأبد، وبالتدريج نمت قوة الأتراك بعد أن كانت قوتهم "جرثومة في الأناضول". الأتراك العثمانيون إذا كتب أحد اليوم كلمة "جرثومة" لوصف نمو قوة سياسية من موضع صغير إلى مساحة أوسع لما استساغ القراء هذا اللفظ، لظنهم أن للكلمة دلالة المرض والعفن والعدوى. لكن مفردات النصف الأول من القرن العشرين - والتي أخذ منها حمدان قاموسه العربي - كانت تترجم هذه الكلمة عن اللغات الأجنبية بما يعني البذرة الأولى التي تنتشر وتنمو، فيقال جرثومة الحضارة وجرثومة الثورة وما إلى ذلك.
في الربع الأول من القرن الثالث عشر، وبعد أن "تجرثمت" قوة الأتراك العثمانيين في شمال غرب الأناضول، وخلال القرنين التاليين اتجه توسعهم غربا لا شرقا فضموا البلقان وامتصوا آخر أراضي بيزنطة وأسقطوا القسطنطينية في 1453. وقد توسعت العثمانية في أوروبا قبل أن تتوسع في آسيا وإفريقيا، وحين زحفت على الشام ومصر كانت قد فرغت وانتهت من القوى الأصعب والأقوى في أوروبا. ومن ثم جاء غزوها لمصر والشام مهمة سهلة ميسورة، بعد أن تسلحت بكل عناصر القوة والثروة. لم تكن قوة المماليك في مصر والشام لتصمد أمام قوة العثمانيين، رغم أن المماليك في مصر أخذوا بالأسباب الجيوستراتيجية وخرجوا لملاقاة الأتراك العثمانيين خارج دوائر الأمن القومي المصري في شمال سوريا وعلى حدود الأناضول، لكن تمزقت المقاومة المصرية في مرج دابق (حلب في سوريا)، وتقهقرت إلى خط دفاعها الثاني في قلب مصر بعد سقوط الشام قبل أن تسقط مرة ثانية وأخيرة في معركة الريدانية (المشارف الشمالية الشرقية للقاهرة) في 1517. وبكلمات حمدان "كانت تلك أول مرة منذ الهكسوس والفرس تقع فيها مصر لقوة من رعاة البدو الاستبس".
وقد سارعت العثمانية بعد غزو مصر بضم تونس والمغرب استجابة لاستنجاد بلاد المغرب بالمساعدة في وقف الضغوط المسيحية البحرية وأعمال القرصنة الأوروبية. وبالتالي احتلت العثمانية هذا الإقليم بداية من منتصف القرن 16. ويستوقفنا هنا الاندهاش الذي يبديه جمال حمدان حين يقول: " يبدو غريبا بعض الشيء أن تنجح تركيا حيث فشلت مصر، أو على أيه حال لم تغامر، للأسف من قبل. فمصر المملوكية، بعد انتصاراتها الحاسمة الداوية على كل من التتار والصليبيين، لم تستطع أو تشأ أن تساعد المغرب العربي ضد الصليبيات الغربية رغم استنجاد تونس والجزائر بها مرارا وبإلحاح". ويبدو أن حمدان هنا ينظر للجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك في المعالم الخارجية دون تحليل تفصيلي للمعالم الداخلية، إذ أثبتت البحوث والدراسات التي تمت عن أحوال مصر المملوكية في الداخل عن شقاق ونزاع وتآمر وعدم وجود مشروع خارجي توسعي. ويبدو لي أن مقارنة حمدان تركيا العثمانية بمصر المملوكية منطوية على مبالغة كبيرة ولعلها غير جائزة أصلا، فلا يمكن أن نقارن ما توفر لتركيا العثمانية من شغف الصعود والفتح والغزو، وخبرات متراكمة في فنون القتال، وما تراكم لديها من ثروات وشعوب وقدرات وخبرات، كل ذلك لا يمكن مقارنته بما توفر للمماليك في مصر، وما هم عليه من تمزق وصراع وظلم للناس، فضلا عن قناعتهم بجائزة مصر الكبرى دون غيرها، تلك الجائزة التي كفتهم وأشبعتهم! ويجيب حمدان تقريبا على نفسه حين يكتب سطرين عن توسع العثمانية شرقا نحو إيران.
فحين ضم العثمانيون العراق وجدوا مقاومة فارسية قوية. صحيح أن العراق سقط في النهاية في 1552 لكن تركيا لم تفلح في أن تتوغل شرقا لأن قوة فارس استطاعت أن تصمد لها بل وتصبح ندا عنيدا لزمن طويل ولا سيما ما نشأ بينهما من صراع على مناطق متنازع عليها شملت أرمينيا الشرقية والقوقاز وزاجروس. موقف حمدان من العثمانية بعض القراء الإسلاميين الذين يحبون جمال حمدان يأخذون عليه ويغضبون منه بسبب تقييمه للتوسع العثماني في العالم العربي وغزو مصر، يقول حمدان ما نصه: "جاء الأتراك في مسوح الدين الإسلامي وتحت قناعه، وكان هذا في عصر الدين لا القومية، وفي وهج ذكريات الصليبيات، مما سهل عليهم الفتح بلا ريب. ويعد الوجود التركي نوعا خاصا – ومحيرا ربما - من الاستعمار هو الاستعمار الديني، ولولا القناع الديني لعد مماثلا للغزو المغولي الوثني الذي سبقه". ويضع حمدان مصير التخلف الذي آلت إليه الدول العربية في رقبة العثمانية فيقول: "" لقد انتهت الدولة العربية على يد الغزو التركي وليس على يد الغزو الصليبي". يمضي حمدان مفسرا موقفه من السيطرة العثمانية على العالم العربي ومصر قائلا:
" كل مظاهر الاستعمار الاستغلالي الابتزازي لا تنقص العثمانية: فقد كانت تركيا تعتصر موارد الولايات التابعة لها وتنهب خيراتها بلا مواربة لتحشد حشدا في مركز العثمانية. بل لقد قيل إن الأتراك طبقوا في حكمهم السياسي طريقتهم الاستبسية في معاملة الحيوان، فهم ما انتقلوا من رعى قطعان الحيوان إلا إلى رعى قطعان الإنسان". وقد يظن البعض أن تأثر حمدان هنا جاء من الترجمة عن المراجع الأجنبية والعداء المتفشي لتركيا في المؤلفات الغربية، لكن الحقيقة أن عددا من المفكرين المصريين في النصف الأول من القرن العشرين – لا سيما صبحي وحيدة وحسين فوزي – كتبوا ما هو أقسى من ذلك عن العثمانية، ولم يكن موقفهم من تراجم بقدر ما كان من مصادر مصرية لمؤرخي فترة الحكم العثماني.