«أنا الملك حزين على عرشي، وقلبي مفعم بالكآبة لتأخر النيل عن فيضانه المعتاد سبع سنوات».. بذلك الخطاب عبر الملك آنذاك عن حزنه من تأخر النيل عن فيضه المعتاد، منذ فجر الحضارة المصرية، لم يكن نهر النيل مجرد مجرى مائي يروي الأرض، بل كان روح الحياة وشريانها الأزلي، يقدسه المصريون القدماء ويحيطونه بالأساطير.
واليوم، ونحن نحتفل بـ عيد وفاء النيل، يتجدد العهد مع هذا الشريان الخالد، الذي منح مصر عبر العصور الحياة والرخاء، وبقي شاهدًا على حضارة صنعت على ضفافه أبهى فصول التاريخ.
ومن دموع الإلهة إيزيس التي فجرت فيضه حزنًا على أوزوريس، إلى أنشودة أخناتون التي تغنت بعطائه، ظل النيل رمزًا للخصب والوفاء، وعنوانًا لعلاقة أبدية بين الإنسان والنهر، لا تنقطع ما دامت الحياة على ضفتيه.
دموع إيزيس
إيزيس التي سرت دموعها حزنا وكمدًا على زوجها وحبيبها أوزوريس لتفيض وتغمر وتروي النيل، لتوثق بذلك العلاقة الفريدة التي نشأت في رحاب ضفافه وتكون شاهدة على أسطورة الغدر والوفاء.
وكان النيل يقف شاهدا على تلك الجريمة التي ذبحت قلب امرأة تعشق زوجها، وابكته دعا أفاض من عينيها ليروي النيل حزنا على فراقه، كما وجد في بعض النصوص المصرية القديمة أن النيل يبتدأ فيضانه في أول السنة المصرية والتي توافق ظهور النجم سوتيس أو سوثيس في فصل الصيف في السنة المصرية القديمة.
الزراعة على ضفاف النيل
طالما عرف المصريين القدماء بقدرهم العالي من الذكاء، حيث ازدهرت الزراعة حول نهر النيل في منطقة الدلتا ذات التربة الخصبة، والتي تكونت بفعل التقاء روافد النيل، مما أدى لتراكم طبقات من التربة الغنية على ضفافه، وهو الأمر الذي تنبه له المصريون القدماء وعرفوا فوائده فاستغلوه في الزراعة.
الفيضان الكبير
كان المصريون القدماء ينتظرون الفيضان الكبير الذي كان يحدث مرة في العام، وسجلوا أيامه وراقبوا ارتفاع وانخفاض منسوب مياهه، الذي ارتبطت به قيمة الضرائب التي كانت تجبى من المزارعين، فحين كانت تغطى حقولهم بالمياه والطمي كان يبدأ موسمهم الزراعي، فبنوا السدود حول النهر وحفروا الترع من أجل الري، كالترعة الطويلة التي كانت تُجر منها مياه النهر إلى منطقة الفيوم المعروفةُ باسم «بحر يوسف»، وقد عرفوا «الشادوف» واستخدموه لنقل مياه النيل وري أراضي المناطق البعيدة.
أعتاد قدماء المصريين على اعتبار النيل المورد الأول لحياتهم وأرزاقهم، فإذا تأخر الفيضان امتلئت المعابد بمن يؤدون الصلوات والتضرع، ثم تقدم القرابين للآله على أمل أن يجود النيل عليهم بفيضه المعتاد.
خطاب الملك عن النيل
حيث كان يخاطب الملك رجال بلاطه قائلًا: «أنا الملك حزين على عرشي، وقلبي مفعم بالكآبة لتأخر النيل عن فيضانه المعتاد سبع سنوات، فأصبحت ثمرات الأرض نادرة، وجفَّت الخضرة، واستحال كل شيء على وجه الأرض، إني أفكر كثيرًا فيما مضى، وأتضرع معكم إلى إمحوتب ليمنحنا جميعًا الشفاعة والإغاثة بفيضه سريعًا».
أنشودة أخناتون
أما أخناتون وهو أحد فراعنة الأسرة الثامنة عشرة فقد الًف أنشودة دينية جميلة يخاطب فيها الإله آتون ويتغنى بها بنهر النيل قائلًا:
أنت خلقت النيل في العالم الأرضي
نقش عُثر عليه في مقبرة رمسيس الثالث (مقبرة 11) في وادي الملوك يظهر فيه حابي (في الوسط).
وأنت تخرجه بأمرك فتحفظ به الناس
يا إله الجميع حين يتسرب إليهم الضعف
يا رب كل منزل أنت تُشرق من أجلهم
أنت الذي خلقت في السماء نيلًا
لكي ينزل عليهم ولهم
يتساقط الفيضان على الجبال كالبحر الزاخر
فيسقي مزارعهم وسط ديارهم