السبت 16 اغسطس 2025

كنوزنا

من زينب إلى زقاق المدق

  • 16-8-2025 | 11:09

د. سهير القلماوي

طباعة
  • د. سهير القلماوي

من خلال طائفة من الشخصيات والمواقف، استطاع نجيب محفوظ أن يُحرّك حياة كاملة تجري على صفحة الزمان، حياة تمثل فترة وتجسد فكرة وتصف معاناة النفس البشرية في محاولة تناغم مع الحياة من حولها. وليست كفترات التغيير الجذري في شكل المجتمع وأنماطه مادة تعكس أزمات الإنسان في محاولة استبدال قيم بقيم، ونمط حياة بنمط حياة آخر. ولقد حاول الروائيون المصريون من قبل أن يبحثوا عن البيئة الملائمة التي يمكن أن ينعكس عليها موضوع التغيير وأزماته، فجعلوها مرة بين المدينة والريف، ومرة في الريف، وثالثة في بيئة البورجوازية المتوسطة، ولكن نجيب محفوظ باختياره الزقاق الذي يعيش أهله فيه - في وسط القاهرة - وكأنهم ليسوا منها، وُفِّق أكثر من غيره في اختيار خلفية الأحداث التي يصورها في روايته. إنه زقاق قديم لا نعرف منذ متى وُجد، وهو يعيش في شبه عزلة عما حوله، ولكن الحياة التي تصطخب فيه أو تضج فيه كانت، كما يصفها نجيب محفوظ، «حياة تتصل بجذور الحياة الشاملة وتحتفظ إلى ذلك بقدر من أسرار العالم المنطوي».

هي إذن حياة أصيلة، ولكنها منفصلة عما حولها بحكم اللحظة الحضارية التي يختارها الزقاق في أول أحداث الرواية.

في مثل هذه البيئة يمكن أن تقوم معركة التغيير ومأساة الإنسان الذي يأتيه التغيير مقتحمًا حياته بتدفق وقوة، وهو غير معدٍّ له. لقد صدم التغيير، الذي حتمه الاتصال المباشر بالغرب، الصفوة من الحكام ومن المثقفين أوائل القرن التاسع عشر، ولكن الشعب ظل بعيدًا، معزولًا عن هذه التغييرات، إلى أن دقَّت الباب عليه في عنف إمارات الحضارة ومنجزات العلم المكتشفة أسراره.

لذلك نرى نجيب محفوظ يسجل الجديد يدق باب الزقاق بواسطة “راديو”، هذه الآلة الرهيبة التي لم تعرف البشرية قبلها أداة تُقرِّب بين الناس وتصل بينهم. جاء الراديو في قهوة المعلم كرشة ليحل محل الشاعر، والشاعر مضطر، في ألم يثير الشفقة من حوله، أن يترك محله للمذياع أو الراديو.

ولت أيام وجاءت أيام، والجديد لا بد مقتحم حياتنا مهما كنا قائمين بها راضين بمنزلتها.

وانهزام الشاعر في أول فصل من فصول الرواية إيذان بانهزام حميدة وعباس وحسين، وكل من خرج من الزقاق يريد أن ينعم بالجديد الذي يجذبه إلى الخارج.

إن الزقاق لم يكن معدًّا لتقبل ما وُلِد عليه من جديد، ولم يكن أحد قد عني بأن يجعله صلب العود بحيث يتصدى لهذا الجديد مالكًا لإرادته، يختار ويترك كيفما شاء، وإنما الزقاق، كالشعب، دهمه الجديد وهو بعد في غيبوبة العزلة وطغيان الاكتفاء بالذات. وكان إغراء الجديد قويًّا جارفا، فأين المذياع من الشاعر؟! كذلك انجرف في تياره أبطال الزقاق، وخاضوا مأساة الشعب كله في حيرته وتخبطه وضِيقه بالقديم المتعفن، وعدم وضوح رؤيته للجديد الذي سينقذه من الظلم والذل.

والرواية لا تخفى فيها رؤية المؤلف وحكمه على المشكلات، ولكنه لا يخاطبنا مباشرة بهذه الرؤية، إنه ينتهج في ذلك أحد أمرين، فهو إما أن يطل من خلال شخصياته ومشكلاته ومأساة الواقع الذي يعيش فيه وآمال المستقبل الذي يتطلع إليه، ولكن قليلين جدًّا هم الذين وقعوا ووقفوا مبرَّرا وعلى عجل أمام الفن الروائي لنجيب محفوظ. كيف يركب أحداثه، ويهندس الوصول إلى الذرى والنهايات؟ كيف رسم أشخاصه وتفاعلهم مع الأحداث؟ كيف يختار نماذجه، وكيف يمحو نمطيتها في أتون الأحداث المتلاحقة؟ كيف ينحت من الواقع شخوصه، ويعدِّد جوانب الشخصية الواحدة في مرايا مختلفة، من زوايا متعددة؟ ماذا بنا نلقاه هو - مثلًا - في كل رواية من رواياته وأبان فترة من حياته دون أن تستوعب شخصية واحدة قدرًا كبيرًا من شخصيته الواقعية؟ وبخلاف كمال عبدالجواد لا نكاد نرى في وضوح نجيب محفوظ في أبطاله، مع أن قطعًا منه موجود في كل منهم رجالًا ونساء.

وهناك نواحٍ فنية لم تُدرس، كالأسلوب. وأعني بالأسلوب لا الجمل والكلمات والصور فحسب، وإنما أعني - وهذا هو الأهم - تتابع الحدث واختياره، وإيجاده للعلاقات السابقة واللاحقة في الرواية.

إن النقلة التي تصادفنا في زقاق المدق عميقة وضخمة، إن ما بين عودة الروح وزقاق المدق أوسع وأعمق مما بين زينب وعودة الروح. من الرومانسية إلى التجريد مسافة أقل مما نجد من التجريد إلى الواقع المهموس الرامز. بل إن نجيب محفوظ نفسه ينتقل من مرحلة إلى مرحلة، ولكنها نقلة ليست ضخمة ولا بعيدة الأثر مثلما نجد النقلة التي حققها لنا بين عودة الروح وزقاق المدق.

وفي زقاق المدق، على كل هذا، ما يستحق الوقوف أمامه لنتساءل: أهذا فعلًا هو خير ما يمكن أن يُقدَّم في هذا المقام بالذات؟ إن اطلالات نجيب محفوظ الشخصية من خلال الأبطال، والتحليل الطويل لنفسية حميدة بعد أن قررت الفرار من الزقاق، وخاصة فيما يتعلق بعلاقتها بفرج إبراهيم، وأحاسيسها نحوه، وردود الفعل التي كانت تمارسها إزاء تصرفاته معها، كل هذه أمور لم يُوفَّق فيها نجيب محفوظ كل التوفيق، ولكن هل إذا استقامت له هذه الأمور وأصبحت الرواية تطابق فعلًا مقاييس النقد في عمومها أو خصوصها، يؤدي ذلك إلى تأثيرها أكثر مما تؤثر فينا الآن؟ لا أظن.

إن الرواية، كشكل، هي أكثر الأشكال تمردًا على القواعد وعلى الأصول. ومع ذلك نجد نجيب محفوظ، وهو يتقدم في فنه، يقترب من الأصول والقواعد دون أن يقصد إلى ذلك.

يكفي نجيب محفوظ في الزقاق أنه استطاع أن يُحطِّم بطولة الأشخاص ليبرز لنا بطولة الجماعة أو الحي الصغير. حيٌّ يحيا في عزلة، ومع ذلك تموج في جنباته الحياة، ويعج بنماذج بشرية لا يمكن أن تُنسى. ومن منا قرأ زقاق المدق ولا يذكر “زيطة” صانع العاهات؟! إنها شخصية منفِّرة، ولكنه يصرخ ببشاعة بمأساة الفقر، وبأعلى نبرة يمكن أن يستوعبها الفن الرفيع. شخصية رُسمت بإتقان، وقالت كلمتها في روعة ووضوح، وتثبتت فينا في أعماق القلوب، لتستثير في الإنسان ثورة واقفة عارمة مَدَوِّية. إن زيطة، بمهنته التي برع في وصفها نجيب محفوظ، تمثل لنا أبشع ما يمكن أن يتردى إليه البشر إذا استشرى فيهم داء الفقر، ونام الناس عن بعضهم البعض، ولهى الحكام في فسادهم، وتخلى عن المحرومين الإخوانُ والحكامُ على حد سواء.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة