الأربعاء 3 سبتمبر 2025

مقالات

محمدٌ مؤسس الأمن البشري.. المدينة المنورة صورة مشرقة لوثيقة الأخوة الإنسانية والمواطنة

  • 3-9-2025 | 08:56
طباعة

الحمدُ لله الذي علَّم بالقلم، وألهمنا نوابغ الكلم، وجعل العلمَ نورًا نهتدي به إلى الحق وشكر النِّعم. والصلاة والسلام على خير الرسل، الخاتم المتمم للرسالات والرسل، سيدنا محمد 

وتشرُف هذه المقالة بالكتابة عن خير الرسل، فشرف الكلام من شرف محتواه.
ونُحدد تناولنا عنه في مجموعةٍ من النقاط المضيئة في تاريخ الإسلام والبشرية، قاصدين من تلك الوقفة أن ننال شرف الحديث عنه صلى الله عليه وسلم، وتوضيح بعض المحطات العظيمة في تاريخ الشعر العربي عند المسلمين وغيرهم، ممن تناولوا سيرته العطرة شعرًا وكتابة، توثق الدور العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم، وكيف لاحت شخصيته في المديح النبوي عند أمير الشعراء أحمد شوقي في دُرته الخالدة "قصيدة نهج البردة"، وننعطف تجاه أحد الشعراء المسيحيين في لبنان وسوريا، الذي تناول شخصيته الفريدة في مدائحه.
وقد كان لي وقفة علمية في الإشراف على رسالة دكتوراه تحت عنوان: "صورة النبي محمد صلى الله عليه وسلم عند بعض الشعراء المسيحيين في لبنان وسوريا". ولنا وقفة معها في حينها.
ونتناول في المقالة أيضًا أول عاصمة في التاريخ الإسلامي للرسول الكريم، وهي المدينة المنورة، وما حدث فيها من طفرةٍ كبيرة على كلّ المستويات: على مستوى البناء والتشييد، وعلى مستوى التآخي بين الجميع دون تفرقةٍ بين أحد، وهو الرابط الجيني الذي أسس أبهى صور التعايش والاستقرار بين الناس تحت مظلة الحب والتعاون والتعايش السلمي.
المدائح النبوية منذ البعثة الشريفة إلى نهج البردة
ظهر الإسلام في شبه الجزيرة العربية نورًا أشرقت به الدنيا ودان به العرب والعجم، لأنه دين يقبله العقل والمنطق في نظرته للإنسان وحقوقه، وفي التأصيل لعقيدة التآخي بين الجميع واحترام الآخرين.
ومع ظهور الدعوة المحمدية تنوعت الاتجاهات بين موافقٍ ومعارضٍ، واتبع الإسلام في البداية مجموعة قليلة من المسلمين الذين أخفوا إيمانهم خوفًا من بطش المشركين.
وقد كانت العرب في ذلك الوقت في أوج ازدهارها اللغوي والبلاغي، فدارت المسابقات بين الشعراء في أسواق العرب، وأصبحت الكلمة ومنطقها ومنطوقها صورة قوية على بلوغ العرب شأنًا كبيرًا في الشعر بخاصة، فتنوّعت أغراض الشعر بين المدح والفخر والهجاء والوصف، وبرز الفحول الذين شيّدوا المعلقات والدُّرر الفريدة المحبوكة لغة وفصاحة.
وجسد الشاعر العربي المخضرم حسان بن ثابت الأنصاري صورة هامة في تاريخ الشعر العربي في العصرين الجاهلي والإسلامي، وكان بارزًا بقوةٍ في الذود عن أصحابه قبل أن يُسلم، وعندما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم وانتشرت دعوته في مكة وغيرها، طلب المشركون منه أن يهجو رسول الله وأجزلوا له في العطاء.
ووقف حسان بن ثابت رضي الله عنه متخفيًا منتظرًا خروج النبي صلى الله عليه وسلم، وفور أن رمقه بعينه، قال:
لما رأيتُ أنوارَه سطعت وضعتُ من خيفتي كفّي على بصري
خوفًا على بصري من حسن صورته فلستُ أنظره إلا على قدري.
وتُعد قصائد حسان بن ثابت رضي الله عنه من أهم ما قيل في المديح النبوي، ولم يكن حسان بن ثابت من مدح الرسول الكريم وحده؛ بل كان أبرزهم وأكثرهم غزارة في المدائح النبوية.
ويستمر غرض المدائح النبوية عبر عصور الأدب العربي إلى أن نأتي للعصر الحديث، لنرى التميز والإبداع في ديوان "الشوقيات"، وما خصّ به أمير الشعراء أحمد شوقي حضرة النبي صلى الله عليه وسلم في دُرته المشهورة "قصيدة نهج البردة".
فتتألق في سماء المديح النبوي قصيدة شوقي مُعبرة بحسها الراقي وصورها البلاغية في الوصف الذي استهل به القصيدة على غرار القصيدة العربية، ثم التنقل بين أغراضها ليصل إلى شخصه الشريف صلى الله عليه وسلم، ليمدحه بأعذب الكلمات وأشرفها، فسبحان من أجرى على لسانه هذه الدرة الفريدة المنظَّمة بقوةٍ بلاغية وتراثية ثمينة، حاكى فيها بردة البوصيري، وقد أطلق شوقي على قصيدته "نهج البردة" تأدبًا من شاعرٍ عظيمٍ في مكانة أحمد شوقي، حتى يُعرف أنها على نهجها، يسير على خُطاها، وينظر إليها متأثرًا بها.
ويعود اختيار الاسم للبردتين: بردة البوصيري، وبردة شوقي، إلى موقف النبي صلى الله عليه وسلم وحكايته المعروفة مع الشاعر كعب بن زهير.
فعندما جاءه كعب بن زهير معتذرًا عن هجائه له، وأجلسه صلى الله عليه وسلم بين يديه، وبعد الانتهاء من مدح الذات الشريفة، خلع الرسول الكريم بردته وأعطاها له. يقول زهير في مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليومَ متبولُ متيمٌ إثرها لم يُفدَ مكبولُ
وما سعادُ غداةَ البين إذ رحلوا إلاّ أغنُّ غضيضُ الطرف مكحولُ
ثم ينتقل بعد هذه البداية التي جرت في الشعر العربي، فيقول:
أُنبئتُ أن رسولَ الله أوعدني والعفو عند رسولِ الله مأمولُ
والبردة: هي الغطاء الذي كان فوق جسده الشريف وأعطاه لكعب بن زهير، وسميت بعد ذلك بهذا الاسم. ومن القصائد الشعرية التي مدحته صلى الله عليه وسلم وسميت بالبردة: بردة البوصيري، وهو محمد بن سعيد حماد، قالها البوصيري عندما أُصيب بداءٍ عضال، فقرر أن يستغفر طالبًا الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم، فرأى حلمًا يغطيه الرسول ببردته، فشُفي مما أصابه، فقال بردته:
مولاي صلِّ وسلِّم دائمًا أبدًا على حبيبك خيرِ الخلق كلهمُ
أمِنْ تذكّرِ جيرانٍ بذي سلمٍ مزجتَ دمعًا من مقلةٍ بدمِ
بدأها الإمام البوصيري بنهج العرب في مقدمةٍ تجمع بين الغزل والعتاب، ثم تناول بعد ذلك المديح النبوي.
وجاء في الشعر الحديث "نهج البردة" لأحمد شوقي، نظمها في مائةٍ وستين بيتًا من الشعر العربي، متمثّلًا طريق البوصيري، متخذًا من مطلع القصيدة العربية منهجًا له، وهو ما أُطلق عليه في الشعر الحديث القصيدة الكلاسيكية، التي كان شوقي من روادها، وممن حافظوا على القالب الشعري القديم في مقدماتهم الغزلية التي تطول بالقصيدة وصولًا إلى الغرض الرئيسي فيها.
يقول شوقي في مطلعها:
ريمٌ على القاعِ بين البانِ والعلمِ أحلّ سفكَ دمي في الأشهر الحرمِ
رمى القضاءُ بعيني جؤذرٍ أسدٍ يا ساكنَ القاعِ أدرك ساكنَ الأجمِ
بدأت بردة شوقي بما جرت عليه المقدمة في الشعر العربي القديم بالوصف والغزل في الظبية: الريم، ثم استمر في ذلك المشهد الطلي، إلى أن جاء الغرض الرئيسي للقصيدة وهو مدح خير البرية صلى الله عليه وسلم.
يقول الشاعر أحمد شوقي:
محمدٌ صفوةُ الباري ورحمته وبغيته في خَلقٍ وفي نَسمِ
وصاحبُ الحوضِ يومَ الرسلِ سائله متى الورودُ وجبريلُ الأمينُ ظمي
سناؤهُ وسنا الشمسِ طالعةً فالجِرمُ في فلكٍ والضوءُ في عَلَمِ
لما رآهُ بحيرا قال عرفتهُ بما حفِظنا من الأسماءِ والسيمِ
محبةً لرسولِ الله أشربها قعائدُ الدير والرهبانُ في القممِ
صلى الله عليه وسلم، وما أجمل من وصف شوقي لحضرته، وتسجيله للقطات هامة في طفولته وشبابه، ومعرفة الراهب بحيرى له من وسمه ووصفه.
واتجه شوقي إلى وصف صفاته وكيف أنه كالشمس والأقمار في طلوعها وجمالها.
تميزت قصيدة شوقي بوصفها الرائع لخير البرية، وهي من أبرز قصائد المديح النبوي في الشعر الحديث.
لم يمدح الرسول الكريم شعراء من المسلمين فقط؛ بل مدحه من غير المسلمين أيضًا، نظروا إليه كشخصيةٍ متفرّدة في ذاتها، تدعو للحب والسلام، وما أحوج البشرية إلى هذا.
لقد جسدت مفاهيمه روح الحياة والإنصاف لكلّ إنسان يعيش على الأرض.
وضع أسس بناء الإنسان والدولة في سياقٍ متناغمٍ، يحدد الحدود في كلّ شيء، لذلك أنصف غير المسلمين لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم الكاتب الأمريكي "مايكل هارت" الذي كتب عن شخصية الرسول في كتابه: "الخالدون مائة أعظمهم محمد".
وكتب بعض الشعراء المسيحيين في لبنان وسوريا عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم الشاعر السوري "جاك شماس" الذي يمثل مفاهيم الحب والأخوة بين المسيحية والإسلام، ويعبر عن ذلك الفيضان من المشاعر الإنسانية التي تؤلف بين البشر. وله قصائد متنوعة، كما ورد عنه في مدح الرسول الكريم قصيدته "خاتم الرسل".
وقد تناولته هو ومجموعة أخرى في رسالة دكتوراه، كان هدفها الأسمى تجسيد معاني التسامح بين الأديان وخاصة المسيحية والإسلام، والتأكيد على نبع الحب بيننا والدائم إلى ما شاء الله تعالى، فيقول:
ماذا أُسطر في نبوغ محمد أنا يا محمد من سلالة يعرب
دينٌ تجلّى في شذى الغفران وشمائلٌ تشدو بسيب أغان
أغدقت للعرب النصارى عزةً ومكانةً ترقى لشمّ معان
إنه محمدٌ يا سادة، هو النبي لا كذب، هو ابن عبد المطلب، جاء بالرسالة الخاتمة المتممة، القائمة على دعائم الأمن والسلام لكل البشرية، وأبرز هذه الدعائم الحفاظ على النفس الإنسانية واحترام الإنسان.
وفي خطبته الأخيرة "خطبة الوداع" يوم عرفة، وكانت الناس تتوافد عليه، عبّر فيها عن ميثاق الأخوة الإنسانية، الذي تصدّر الآن في العديد من المؤتمرات العالمية، وهدفه الأمن والسلم المجتمعي والعالمي، فقال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع:
"أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا"، ثم يقول صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، اتقوا الله واستوصوا بالنساء خيرًا".
بدأها المصطفى بالنداء إلى الناس جميعًا، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: "أيها المسلمون"، لكنه جمع النداء ليكون ميثاقًا للإنسانية بكلّ أديانها وطوائفها: "أيها الناس".
ولم تكن خطبة الوداع هي الخطبة الوحيدة التي بدأت بهذا النداء، فعندما هاجر من مكة إلى المدينة المنورة، كانت أولى كلماته تخرج من هذا السياج النوراني، الذي نظر بعين البصيرة المحمدية العادلة إلى الناس جميعًا، لأنه أرسل للناس كافة.
نعم، يُعد هذا النداء المطلق وثيقة إنسانية للسلم والإخاء بين البشر جميعًا حتى يسير ركب العمران البشري، الذي لا يوجد إلا بالمحبة واحترام الآخر.
ويتجلى في هجرته الشريفة إلى المدينة المنورة هذه الصورة النورانية الصادقة، فكان التآخي بين الأنصار وبين الأوس والخزرج صورة مشرقة ناصعة على صفحات التاريخ الإسلامي.
فقدمت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم تأسيسًا واقعيًا لبناء الدولة بشكلٍ رشيدٍ، يمتلك بصيرة نافذة، جمعت كلّ أهل المدينة بأطيافها المختلفة للتعمير والارتقاء والتقدم.
وضربت المدينة المنورة خير مثالٍ على العمران والأنشطة الاقتصادية البارزة، بفضل التعاون والإخلاص في العمل بين كلّ الطوائف المختلفة، وبفضل النظرة العميقة للبناء والتعمير والتعايش في ظلّ الأمن والسلم، فيعمل الجميع من أجل التعمير والاستخلاف.
ووضع صلى الله عليه وسلم القواعد بين المسلمين وغيرهم في التعاملات، لتصبح المدينة المنورة عاصمة حضارية للإسلام والعمران، بفضل التآخي والمحبة، والإحساس بالأمن في ظلّ رعاية كبيرة من الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتستمد جلّ الدراسات الحديثة عن معاني السلم المجتمعي من هذا النموذج الإيجابي قواعده وأُسسه في التعاون بين الجميع من أجل عجلة التطور والاستقرار البشري.
صلى عليك الله يا علم الهدى ورسول الإنسانية، يا معلم البشرية سبل الحياة والتعايش والحب، وكأنك ترى مستقبل البشر ومدى احتياجهم إلى التعايش، فوثقتَ في تاريخ البشرية والحضارة الإسلامية نبْعًا للحب والأخوة لا ينضب.
تنصب كلّ هذه المعاني في معاني الوطنية ومفاهيم المواطنة التي تتأسس على تبادل الحقوق والواجبات بين الفرد والمجتمع في ظلّ التعايش الآمن.
ونحن في بلدنا العظيمة مصر نرى أعظم الشواهد على تلك الوطنية والمواطنة، فنرى التآخي بيننا وبين المسيحيين بصفةٍ خاصة، لأنهم أشقاء الوطن، وربما غيرهم، فديننا الحفاظ على الإنسان واحترامه، وتقدير مقدراته.
لنرى الوطنية والمواطنة، فما الوطنية إلا حبّ الوطن، وما المواطنة إلا آليات التعامل المتبادل المنظم في الواجبات والحقوق بين الفرد وبلده.
إنه المثال النبوي الشريف الذي ترك لنا مواثيق الحب والتعاون والبناء والتعمير من أجل استخلاف الإنسان في الأرض.
حفظ الله مصرنا الغالية وكلّ بلداننا العربية...

أخبار الساعة

الاكثر قراءة