الأربعاء 3 سبتمبر 2025

مقالات

حول "عبقرية محمد" درة عبقريات العقاد

  • 3-9-2025 | 09:00
طباعة

ونحن نقترب من الذكرى العطرة لخاتم الأنبياء، سيدنا محمد –صلوات ربي وسلامه عليه– نتذكر عملاً فذًّا لعملاق الأدب والفكر العربيين، الأستاذ عباس محمود العقاد (28 يونيو 1889 – 13 مارس 1964)، وهو بعنوان عبقرية محمد. وحينما نتذكر هذا العمل ونتذكر صاحبه، فإنما نستعيد عصرًا من الاحتفال والاحتفاء بالأصالة والمعاصرة في وقت معًا؛ الأصالة التي تتمثل في تراثنا الخصب، هذا المقوِّم المهم من مقومات شخصيتنا ومحدِّدات هويتنا، والمعاصرة التي نتصالح بها مع الحياة المتجددة والواقع المتطور الذي لا يمكن تجاهله. فحينما غاص العقاد في كنوز التراث، ربطه بمستجدات العصر وأدبياته، وهكذا كتب عبقرياته بروح عصرية أتى فيها بالجديد والمفيد.

افتتح الأستاذ العقاد سلسلة كتبه عن العبقريات الإسلامية بكتابه الخالد عبقرية محمد، درة عبقرياته جميعًا، والذي صدر سنة 1942، ثم أتبعه بـ عبقرية عمر في العام نفسه، وبعد ذلك بعام (1943) أصدر عبقرية الصديق وعبقرية الإمام علي– كرم الله وجهه.
ويذكر الأستاذ عباس خضر –رحمه الله– في كتابه ذكرياتي الأدبية أن بداية فكرة كتابة العقاد للعبقريات، أو بدء تنفيذها –على حد قوله– قد تزامنت مع نشر العقاد لمقال بعنوان "عبقرية محمد العسكرية" في العدد الخاص من مجلة الرسالة الصادر في عيد الهجرة، والذي كان نواة كتابه عبقرية محمد، ثم تلته بقية العبقريات.
والصحيح أن العقاد كتب هذا المقال بالذات في ذلك الوقت متأثرًا بأجواء الحرب العالمية الثانية، ثم أتبعه في الأسبوع التالي مباشرة بفصل آخر تحت عنوان "عبقرية محمد السياسية"، واتّبعه بمقال ثالث حول "عبقرية محمد الإدارية".
وصحيح أن معظم ما جاء في هذه المقالات أورده العقاد في كتابه عبقرية محمد؛ ولكننا حينما نعود إلى مقدمة الكتاب، نرى أن فكرة الكتابة في العبقريات الإسلامية، لاسيما ما كتبه العقاد حول عبقرية نبي الإسلام، قد حرّكتها ملابسات أخرى في وقت سبق كتاب عبقرية محمد، وكتابة هذه الفصول التي نشرها في الرسالة بنحو ثلاثين عامًا –كما ذكر العقاد نفسه– حينما اجتمع يومًا بمجموعة من أصدقائه ومحبيه، وكان محور الحديث يدور حول الكاتب الإنجليزي توماس كارلايل، حيث يقول:
"تعود بنا هذه المقدمة ثلاثين سنة، إلى اليوم الذي سمعت فيه أول اقتراح بتأليف كتاب عن محمد –عليه الصلاة والسلام–". ثم جعل يسرد القصة التي انتهت بتساؤل الرهط المجتمعين: ما بالنا نقنع بتمجيد كارلايل لنبي الإسلام وهو كاتب غربي لا يفهمه كما نفهمه نحن؟ ثم سألني بعض الأصدقاء: "ما بالك أنت –يا فلان– لا تضع لقراء العربية كتابًا عن محمد –صلى الله عليه وسلم– على النمط الحديث؟".
ـ قلت: "أفعل… وأرجو أن يتم ذلك في وقت قريب".
ثم يعلق العقاد: "ولكنه لم يتم في وقت قريب… بل تم بعد ثلاثين سنة! وشاءت المصادفة العجيبة أن تتم فصوله في مثل الأيام التي سمعت فيها الاقتراح لأول مرة… فكتبت السطر الأخير فيه يوم مولد النبي –صلى الله عليه وسلم– على حسب الشهور الهجرية، واتفقت هذه المصادفة على غير تدبير مني ولا من أحد؛ لأنني لم أُدبّر لنفسي أوقات الفراغ التي هيأت لي إتمام فصوله، وتقسيم العمل فيه يومًا بعد يوم".
كتاب للمسلمين وغيرهم:
حينما أراد العقاد أن يؤلف كتابه الرائع عبقرية محمد، وضع مقياسًا لم يسبقه إليه مؤلف آخر، وهو تقويم عبقرية النبي محمد –صلى الله عليه وسلم– بالميزان الذي لا يختلف عليه إنسان، سواء أكان مسلمًا أو يدين بدين آخر غير الإسلام، أو حتى إن كان علمانيًا يدير ظهره لجميع الأديان. وكما يقول العقاد نفسه: هذا الكتاب تقدير "لعبقرية محمد –صلى الله عليه وسلم– بالمقدار الذي يدين به كل إنسان، ولا يدين به المسلم وكفى، وبالحق الذي يبث له الحب في قلب كل إنسان، وليس في قلب كل مسلم وكفى، فمحمد هنا عظيم… لأنه قدوة المقتدين في المناقب التي يتمناها المخلصون لجميع الناس… عظيم لأنه على خُلُق عظيم" صلى الله عليه وسلم وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
كان الرسول –صلوات ربي وسلامه عليه– مثالًا نادرًا فريدًا في كل خصلة من خصاله وكل صفة من صفاته؛ باطنه كظاهره، وسره كعلنه، ليس لديه ما يمكن أن يداريه أو يخشى عليه من أن ينكشف للناس لعيب فيه، فهو نموذج ومثل أعلى للكمال والجمال والرفعة والروعة التي تأخذ بمجامع الألباب، بحيث لا يملك المُنصف المحايد إلا أن يُسلّم بعظمته، ورفعة منزلته التي لا تطاولها منزلة أخرى مهما سمت وارتفعت وعَلَت. فهذا "مايكل هارت" Michael Hart (1932 – ؟) عالم الفلك والفيزياء الأمريكي، في كتابه الخالدون مائة: أعظمهم محمد –صلى الله عليه وسلم– لا يملك إلا أن يذكر هذه الحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان في كل زمان ومكان، وهو أنه –صلى الله عليه وسلم– أعظم الخلق طُرًّا، أو قل أعظم العظماء كما قرر المؤلف في كتابه، بل وحتى في عنوان هذا الكتاب.
من أصداء الكتاب:
كانت للكتاب عند صدوره أصداء هائلة على الساحتين الأدبية والدينية على حد سواء. فهذا هو عميد الأدب الدكتور طه حسين، لا يملك بعد قراءته للكتاب إلا أن يُعجب به، فيحمله هذا الإعجاب على إرسال رسالة عجلى رقيقة لمؤلفه –ريثما يكتب عنه تفصيلًا– فيقول:
صديقي الأستاذ الكبير،
فرغت الساعة من قراءة كتابك الممتع عبقرية محمد، ولست أكتب إليك الآن لأصور لك رأيي في هذا الكتاب، أو إعجابي به، فما أنت في حاجة إلى هذا الرأي، وما أنت في حاجة إلى هذا الإعجاب.
ثم يُردف قائلًا: أرى فيك ما كان المبرد يراه في البحتري –إن صدقتني الذاكرة– حين قال له: "أبى الله إلا أن تكون عظيمًا في كل جوانبك".
أما عميد المسرح العربي توفيق الحكيم، فحينما قرأ هذا الكتاب كتب عنه في مجلة الثقافة يقول:
من الفصل الأول أدركت أن الأستاذ العقاد لديه ما يقوله، وأن الكلام الذي عنده يُرغمنا على أن نصغي إليه، وأن كل ما عُرف من قبل عن النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – لن يغنينا عما عند العقاد… لأن العقاد قد درس وفكر واستنتج لنفسه، ثم صنع للنبي صورة لا يمكن أن نرى نظيرها على هذا التمام في صفحات مثل صفحات كتابه… إنه لم يكتب سيرة كما فعل الذين سبقوه، ولم يروِ لنا قصة، ولم يسرد تاريخًا، ولو أنه فعل ما كان قد أتى بجديد، ولكنه رسم ملامح، وخطّ قسمات أبرزت ذلك الوجه الشريف الجليل، وعكست ما في أعماق تلك النفس الرحبة العظيمة… لقد تقصّى أثر محمد في مختلف نواحيه… في الحق أن أظهر ظاهرة في هذا الكتاب هي قوة الاستنتاج العقلي التي تستولد من الحوادث الصماء خصائص ومقومات تلك الشخصية الإنسانية الكاملة…".
ويعبّر شيخ الجامع الأزهر، الأستاذ الأكبر محمد مصطفى المراغي –رحمه الله تعالى– بعد اطلاعه على هذا الكتاب عن مدى رضائه عنه وإعجابه به في رسالة مقتضبة، بيد أنها واضحة الدلالة، بعث بها للأستاذ العقاد، ولم ينس الشيخ الجليل أن يدعو للكاتب أن يتبع هذا الكتاب بأمثاله (فجاءت بعده سلسلة العبقريات يتبع بعضها بعضًا)، يقول الشيخ في رسالته:
حضرة الأستاذ عباس محمود العقاد،
لقد شفيت بكتابك عبقرية محمد صدور قوم مؤمنين، وأقمت الحجة على الشاكّين والجاحدين، وفتحت للناس طريقًا جديدًا في البحث عن الشمائل المحمدية، وكنت صادق الإيمان، قوي البرهان، ناصع الأسلوب، مشرق الديباجة.
وإذا اجتمعت لمؤلف هذه الصفات فقد كملت وسائله، ودانت له مطالبه. وأسأل الله أن يُمكّن لك حتى تطلع للقارئين بأمثاله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محمد مصطفى المراغي.
ولا نرى أفضل مما قاله حول الكتاب أستاذنا الكبير الدكتور محمد رجب البيومي –رحمه الله– لنختم به هذا المقال، حيث يصف الأسلوب الذي انتهجه العقاد في تأليفه لهذا الكتاب بقوله:
"وهو حديث يكاد يكون جديدًا في بابه، فهو يدهشك دهشة بالغة، وعلى الرغم من أن الكتاب لطيف الحجم إذا قيس بنظائره، فإن حجمه اللطيف لم يحُل دون رصانته الدقيقة، وعمقه المتأمل، وغوره العويص، مع رفرفة طائرة في مواقف التأثير الوجداني، تلك التي تلطف سطوة الإقناع الملزِم، وبأس الإفحام الصارم، لمن يسلك سبيل العناد فيركب رأسه أمام عظمة نبي هو سيد الأنبياء دون استثناء". ويخلص أستاذنا الدكتور البيومي إلى أن الحق الذي لا تجوّز فيه أن هذا الكتاب (عبقرية محمد) هو التفسير الملهم المحكم لقول الله تعالى لنبيه الكريم: "وإنك لعلى خُلُق عظيم" [القلم: 4].

أخبار الساعة

الاكثر قراءة