ارتبط مفهوم الحب الإلهي في تاريخ الفكر العربي الإسلامي بالصوفيّة، والواقع أن مفهوم الحب الإلهي لم يكن إبداعاً صوفيّاً من حيث المبدأ، فقد ورد مفهوم الحب الإلهي أول ما ورد في القرآن الكريم، حيث خاطب الله عباده المخلصين بقوله: “يحبهم ويحبّونه”، وقد وردت العديد من الآيات في القرآن الكريم تؤكّد حب الله للمؤمنين بحيث يشمل هذا الحب جميع مجالات الحياة التي يحياها المؤمن، قال تعالى: “والله يحبّ الصابرين”، وقال: “والله يحب المحسنين”، وقال: “فإن الله يحب المتقين”. وهذا بعض مما ورد في القرآن الكريم، والذي يبيّن أن الله تعالى هو الذي بدأ بمخاطبة المسلمين ليبيّن لهم طبيعة العلاقة التي يجب أن تكون بين الله وعباده، وهي علاقة تقوم على مبدأ الحب الذي يمنحه الله لعباده إذا كانوا من الصّابرين ومن المحسنين ومن المتقين.
كانت بداية الحب الإلهي من الله تعالى للإنسان، ولكن هل يمكن أن تكون هذه العلاقة متبادلة، أي أن يحب الإنسان الله كما يحب الله الإنسان؟ لا نستطيع القول إن طبيعة هذا الحب تحمل في جانبيها تكافؤاً من نوع ما، فإن حب الله للإنسان ليس كحب الإنسان لله، فهناك دائماً الجانب الأقوى في هذا الحب وهو الله تعالى، وهناك الجانب الأضعف وهو الإنسان.
أفرد الصوفيّون مساحات واسعة من كتاباتهم لموضوع الحب الإلهي باعتباره من أجلّ أنواع السلوك التي يتوجب على المؤمن اتباعها إذا أراد أن يحوز حب الله، وبدأت تظهر في عباداتهم وصلواتهم أشكال مختلفة من السلوك الإيماني.
قال أبو طالب المكي: "إن المحبّة أكمل مقامات العارفين.. وهي إيثار من الله تعالى لعباده المخلصين". ويقول: "فالمحبة تكون هبة من الله تعالى لأصفيائه من الأولياء، وهي أكمل أنواع المقامات التي يحققها المؤمن"، و"كل مؤمن بالله فهو محب لله، ولكن محبته على قدر إيمانه، وكشف مشاهدته، وتجلي المحبوب له على وصف أوصافه". ويقول القشيري إن الحب هو تفضيل الله لجماعة معينة من الناس هم عباد الله المخلصين، بقوله: "الحب حالة شريفة، شهد الحق سبحانه بها للعبد، وأخبر عن محبته للعبد". ويرى القشيري أن الله تعالى إذا أراد أن ينعم على عبده بصورة عامة فإن هذه النعم تدخل في باب الرحمة الإلهية، أمّا إذا تعلقت بخصوصها فإنها تسمّى رحمة.
ويقول الطوسي إن أهل المحبة في ثلاثة أحوال:
أولها: محبّة العامة، وهي ناتجة من إحسان الله إليهم وعطفه عليهم.
والثاني: يتولّد من نظر القلب إلى غنى الله وجلاله وعظمته وعلمه وقدرته، وهذا النوع من الحب يصل إليه الصّادقون والمتحقّقون.
أما النوع الثالث فهو محبّة الصديقين والعارفين، تولدت من نظرهم ومعرفتهم بقديم حب الله تعالى بلا علّة، فكذلك أحبّوه بلا علّة.
إن الحال الثالث من تصنيف المحبين عند القشيري ينطبق تماماً على الصوفيّة، لأن الصوفي إذا أحب الله فإنه لا يحبه لغرض بنفسه، فهو قد هجر الدنيا بما فيها، وتحوّل إلى حال الزهد، ولم يبق له في هذه الدنيا ما يحبها، فكان حبّ الله هو البديل الأسمى له، ومن كان سعيه لله فقد أمن على نفسه في الدنيا والآخرة.
رابعة العدويّة
كانت رابعة العدويّة (717 – 796م) أوّل من قال بحب الله بلا علّة، وهي من أقدم المتصّوفين في تاريخ التصوّف الإسلامي، فقد وصلت في بدايات حركة التصوّف إلى مرحلة متقدّمة في حب الله، ما جعلها تحمل لقب "شهيدة العشق الإلهي". فقد نذرت حياتها لحب الله، بعد أن هجرت الدنيا، واعتزلت حياة الناس. ومن أقوالها:
أحبك حبين حب الهوى * وحبّاً لأنّك أهل لذاكا
فأمّا الذي هو حب الهوى * فشغلي بذكرك عمّن سواكا
وأمّا الذي أنت أهل له * فكشفك للحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي * ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
وتحب رابعة الله تعالى لأنّه يستحق هذا الحب، بل وصل بها الأمر إلى إفراغ نفسها من أي نوع من أنواع الحب الذي يمكن أن تكون أحد أهدافه مصلحة أنيّة، أو لتحقيق رغبة دنيوية. في هذا الموقف لم يعد لها في هذه الدنيا أية مطالب سوى مطلب واحد، هو أن تعرف الله، وهذه المعرفة هي أن يكشف الله لها الحجاب حتى تراه. وكانت تحرص على أن تثبت لنفسها ولمستمعيها أنّها لا تريد من الله شيئاً، وأن حبها له ليس مرتبطاً بمصلحة تسعى لتحقيقها حتى مع الله. والبيت الرابع يبيّن أنها حتى في حال حبّها لله فليس لها فضل في ذلك، وإنّما هو لله تعالى. فالشّكر دائماً لله الذي يوجّه عباده باختياره لهم كي يحبّوه.
وعندما يصل الصوفي إلى مرحلة أن يميل بقلبه عن الجنّة التي يعرضها الله عليه، فماذا يريد أكثر من ذلك؟ إن ما تريده رابعة هو ما يريده جميع الصوفيّة: حب الله دون سبب، ودون نتيجة، بل الحب للحب، بل هو الفناء في الله، وهو أقصى ما يريده الإنسان من ربّه وما يطالب به نفسه.
فالحب لله من وجهة نظر رابعة على شكلين:
الأوّل: أنها تركت كل أشكال الحب الدنيوي.
الثاني: أن حبّها لله لم يترك في قلبها أي مكان مهما صغر لحب دنيوي، فقد شغلها حب الله عن كل حب، لأن الصوفي بالمعنى الوجودي هو ذلك الذي يعزف عن الرضا، لأنّه ينطوي على فكرة سلبية خالصة، فتراه دائماً في خوف على أعماله.
وقد وصل بها الأمر إلى مناجاة الله مناجاة الحبيب للحبيب تقرّباً إلى الله، والمبادرة بإعلان حبّها الدائم له، قائلة:
"إلهي: أنارت النجوم، ونامت العيون، وغلّقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك. إلهي هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري أقبلتَ منّي ليلتي فأهنا؟ أم رددتها علي فأعزى؟ فوعزّتك، هذا دأبي ما أحييتني وأعنتني، وعزّتك، لو طردتني عن بابك ما برحت عنه لما وقع في قلبي من محبّتك".
ابن الفارض
برز موضوع الحب الإلهي بصورة جديدة عند عمر بن الفارض (1181 – 1235م)، الذي عبّر عن حبّه لربّه عن طريق الشعر، وترك لنا ديواناً من الشعر يتنقّل من يقرأه بين الصور الجماليّة الرّائعة للحب الإلهي في أجلى صوره، وأطلق عليه لقب "سلطان العاشقين". ويصفه أبو العلا عفيفي بأنّه "أحد أقطاب العاشقين وأعظم شاعر صوفي في اللغة العربيّة على الإطلاق".
فقد أمضى حياته يعبد الله ويتقرّب إليه من خلال قصائده التي بثّ فيها صور الحب الإلهي، فقد تغنّى في كل ما هو جميل في هذا الكون، واتّخذ حبه بالنظر إلى جمال الكون من حوله ليعبّر من خلال عالم الحس المادي، ومنه إلى عالم الخلود، حيث يتجلى الله في هذا العالم من خلال معجزات الوجود التي تحيط بالإنسان. وكل علامة من علامات هذا الوجود تعني أن الله موجود، ولكن ليس على شكل المادة، فكان الحب الذي يطلبه ليس ماديّاً، بل يسمو على المادة ليصل إلى الله تعالى بما في هذا الحب من روحانيّة.
وكي يحب الإنسان الله يتوجّب عليه أن يتحرّر من سلطة المادة التي تحاصر الإنسان من كل جانب، وفكّ الحصار هذا يوجب على الصّوفي أن ينطلق في آفاق الكون باحثاً عن سرّ الوجود، وهذا لا يتم إلاّ بتحرير الروح من سطوة الجسد، وتصفية النفس، وتنقية القلب، وجلاء عين البصيرة، لتستحيل حياة الإنسان في هذه الدنيا إلى حياة روحيّة خالصة، تستعيد فيها روحه روحانيّتها الأولى وتستشعر حبها القديم الذي منحته قبل أن تهبط من عالمها العلوي وتتصل ببارئها. وإذا تمكن الإنسان أن يصل إلى هذه المرحلة فإنه يمكن القول إن الإنسان قد أصبح قريباً من الله، بل قد فنى في الله، لأن الذي يحب الله لا يعود له أدنى اهتمام بوجوده الذاتي، بل هو يستمدّ وجوده من الله، وقد نظر إلى المحبّة الإلهية باعتبارها فناء المحب عن نفسه وبقاءه بالله وحده.
وقد وصل ابن الفارض إلى مرحلة رأى نفسه فيها إمام العاشقين ومرجعهم الأوّل في كل ما يتعلق بالحب الإلهي، ويدعو الناس إلى اتباع خطواته للوصول إلى مرحلة متقدمة في حب الله وكسب معرفته، لأنّه وصل إلى الطريق التي تقوده إلى معرفة الله أكثر من غيره، فيقول:
زدني بفرط الحب فيك تحيّراً * وارحم حشى بلظى هواك تسعّرا
وإذا سألتك أن أراك حقيقةً * فاسمح ولا تجعل جوابي "لن ترى"
ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا * سرّ أرقّ من النسيم إذا سرى
وأباح طرفي نظرة أمّلتها * فغدوت معروفاً وكنت منكرا
فدهشت بين جماله وجلاله * وغدا لسان الحال عنّي مخبرا
فهو المتقدّم على الجميع في مجال الحب الإلهي لدرجة أنّه يطلب من الآخرين أن لا يبحثوا عن أسرار الصوفيّة إلا من خلاله، فهو الوحيد الذي يستحق أن يسمع، وأن يكون القدوة لغيره، ولولا استغراقه في الحب الإلهي لما وصل إلى هذه الحالة من الحب الخالص لله. ويضيف قائلاً:
كل من في حماك يهواك لكن * أنا وحدي بكل من في حماكا
فيك معنى حلاك في عين عقلي * وبه ناظري معنى حلاكا
فقت أهل الجمال حسناً وحسناً * فبهم فاقة إلى معناكا
يحشر العاشقون تحت لوائي * وجميع الملاح تحت لواكا
وفي هذه الأبيات ينصّب ابن الفارض نفسه سلطاناً للعاشقين، ويعتبر نفسه المرجع الأول والأخير، ولم يعد هناك حبّ لله إلاّ بواسطة معرفة ما قام به ابن الفارض للتعبير عن حبّه لله، وينبّه سامعيه قائلاً:
نسخت بحبّي آية العشق من قبلي * فأهل الهوى جندي وحكمي على الكل
وكل فتى يهوى فإنّي إمامه * وإنّي بريء من فتى سامع العذل
ولي في الهوى علم تجل صفاته * ومن لم يفقه الهوى فهو في جهل
ومن لم يكن في عزّة الحب تائهاً * بحب الذي يهوى فبشّره بالذل
وما فعله ابن الفارض فعله معظم الصّوفيّة الذين رأوا في العزلة وهجر الدنيا أحد أهم الشروط التي كان عليهم أن يلزموا أنفسهم بها لإرضاء الله تعالى. ولم يكن له هدف سوى محبّة الله، دون أن يسعى لتحقيق غرض دنيوي من هذا الحب.
فحديثنا عن الحب الإلهي حديث راسخ في الأذواق، ومتمكن في مدارك القوم، لا تغالبه الأحوال، ولا تهب به رياح الجذب يمناه ويسراه. وهذا ما لا يتأتّى لغير الراسخين من القوم الذين تراهم كالجبال، تحسبها جامدة وهي تمر مرَّ السحاب. فانظر كيف تتفجّر ينابيع الحب الإلهي.