السبت 6 سبتمبر 2025

مقالات

المتمرد والمغامر صنع الله إبراهيم أحد أوائل رواد التجريب في الرواية العربية

  • 6-9-2025 | 14:29
طباعة

تستحق ظاهرة كُتَّاب جيل الستينيات المزيد من التأمل والدراسة؛ إذ يرجع إليهم الكثير من الفضل في وضع أسس الأدب المصري والعربي الحديث، وقد ظهر تأثيرهم ليس فقط على من بعدهم، بل امتد ليلقي بظلاله على من قبلهم؛ حتى إن البعض يرى أن نجيب محفوظ تأثر بكتاباتهم في مجموعته القصصية خمارة القط الأسود المنشورة عام 1969، والتي تناولت هزيمة 67 بشكل رمزي، وتراوحت قصصها بين الأمل والحلم واليأس والحزن، فيما يعد خروجًا واضحًا من عباءة أعماله الواقعية السابقة.

حمل جيل الستينات راية التجريب والمغامرة، وخاصة في أعمالهم الروائية والقصصية، وكون لنفسه صوتًا مميزًا يختلف من أديب لآخر، فتخلى السرد عن التقليدية ونهجها المتعارف عليه لدى الكتاب والقراء معًا، ولجأوا إلى نهج يصعب تلمس شكله وهيئته.
نلمس هذه النزعة التجريبية في رواد هذا الجيل أمثال: جميل عطية إبراهيم، وإدوار الخراط، ومحمد حافظ رجب، ويحيى الطاهر عبد الله، وبهاء طاهر، وإبراهيم أصلان، وجمال الغيطاني، وغيرهم، حيث وضع كل واحد منهم بصمته الخاصة بارتياد عوالم مختلفة من التجريب. فنجد مثلًا أن يحيى الطاهر عبد الله تمرد على أشكال السرد الموروثة، وكانت لغته أقرب إلى السرد الشفاهي، بينما خلط محمد حافظ رجب السريالي بالواقعي في مجموعتيه القصصيتين الكرة ورأس الرجل ومخلوقات براد الشاي المغلي. أما جمال الغيطاني فاستلهم التاريخ ووظف التراث كما في رواية الزيني بركات، واستخدم أساليب سردية جديدة، إضافة إلى مزج الواقعية بالصوفية والفانتازيا في أعماله.
ويأتي في مقدمة هؤلاء الروائيين المغامر الكبير صنع الله إبراهيم، الذي ترك الأنساق الروائية المألوفة، ولعب دورًا ملموسًا في تاريخ تطور الرواية العربية. كان دائم البحث عن شكل يوائم الواقع العربي المعيش ويكشف تناقضاته في مواجهة التحديات التي تقابله، ويفضح الفجوة بين المأمول والمتحقق.
وحيث تمثل الكتابة التجريبية فضاءً آسراً من الاستكشاف الأدبي، فإنها توسّع آفاق السرد وتتحدى الأعراف الراسخة، من خلال زعزعة اللغة والشكل، واستخدام أدوات عديدة مثل الكولاج، والتناص مع التاريخ، والتجريب البصري والوسائط المتعددة، والسرد القصصي التفاعلي، ومشاركة القارئ.
كذلك تتحدى الكتابة التجريبية حدود السرد القصصي التقليدي، متبنية تقنيات وهياكل مبتكرة، تسعى إلى تغيير توقعات القارئ ودعوته إلى التفاعل مع الأدب بطرق جديدة ومثيرة. وغالبًا ما يتحدى هذا النوع من الكتابة المعايير الراسخة للحبكة وتطور الشخصيات والسرد القصصي الخطي، بالإقدام على تجربة هياكل غير تقليدية، وسرديات مجزأة وغير خطية وقفزات زمنية.
نجد أن كل هذه الألعاب السردية قد مارسها صنع الله إبراهيم في أعماله من لغة وسرد وتقنيات وأدوات مستخدمة في الكتابة التجريبية؛ من أجل الخروج بتجربة جديدة تفارق ما سبق تقديمه، يخوضها بقلب مغامر لا يخشى لومة لائم. ولو كان أحد آخر غيره لا يتحلى بالثقة فيما يكتبه، لتعرض للإحباط وترك ميدان الكتابة تمامًا؛ خاصة عندما هاجم الأديب الكبير يحيى حقي روايته الأولى تلك الرائحة قائلاً:
«ما زلتُ أتحسَّر على هذه الرواية القصيرة التي ذاع صيتها أخيرًا في الأوساط الأدبية، وكانت جديرةً بأن تُعَد من خيرة إنتاجنا لولا أن مؤلِّفها زلَّ بحماقة وانحطاط في الذوق؛ فلم يكتفِ بأن يُقدِّم إلينا البطل وهو منشغل بجلد عميرة (لو اقتصر الأمر على هذا لهان)، لكنه مضى فوصَف لنا أيضًا عودته لمكانه بعد يوم، ورؤيته لأثَر المني المُلقَى على الأرض. تقزَّزتْ نفسي من هذا الوصف الفيسيولوجي تقزُّزًا شديدًا، لم يَبقَ لي ذرة من القدرة على تذوُّق القصة رغم براعتها. إنني لا أهاجم أخلاقياتِها، بل غلظةَ إحساسها وفجاجته وعاميته. هذا هو القبح الذي ينبغي محاشاته وتجنيب القارئ تجرُّع قُبحه». 
تتميز الكتابة التجريبية بقابليتها للمنهج التحليلي القائم على مفهوم الانحراف عن المعايير الراسخة أو المعروفة؛ فمصطلح "تجريبي" يستلزم العمل ضد نموذج سائد؛ ويمكن أن تتخذ هذه الانحرافات أشكالاً متعددة: لغوية على مستوى الخطاب (اللبنات اللغوية للنص)، أو سردية (على مستوى بنية القصة أو الرواية: وهي الوسائل التي ينقل بها الكاتب "موضوع" القصة إلى القارئ)، أو عن طريق الشكل أو المحتوى، أو أي مخططات سردية محددة مسبقًا؛ يستدعيها القارئ من خلال تجاربه السابقة في القراءة.
من هنا يتجلى التجريب واضحًا مع أول رواية لصنع الله إبراهيم "تلك الرائحة" التي قدمها يوسف إدريس منبهرًا بها: «إن تلك الرائحة ليست مجرد قصة، ولكنها ثورة، وأولها ثورة فنان على نفسه، وهي ليست نهاية، ولكنها بداية أصيلة لموهبة أصيلة، بداية فيها كل ميزات البداية، ولكنها تخلو من عيوب البدايات لأنها أيضًا موهبة ناضجة، وإنني شديد الاعتزاز بصنع الله إبراهيم الفنان، وسعيد حقيقة، وأنا أحس أنه آن الأوان لتقرأه الحركة الفنية والأدبية في كتاب كامل، في قصة من أجمل ما قرأت باللغة العربية خلال السنوات القليلة الماضية».
ولنعرض بعض مظاهر التجريب في رواية "تلك الرائحة"؛ ومنها الجرأة حيث تطرح الرواية مواضيع حساسة ومحرمة؛ مثل الجنس والسياسة بصورة مباشرة وصريحة، بلغة حادة متقشفة خالية من المحسنات والزخرفة، بتقنية التداعي الحر، المحملة بالسخرية أو النقد الاجتماعي، كما أنها تستخدم السرد المجتزأ، والقفزات الزمنية.
ويرى البعض في روايته "اللجنة" أنها أول رواية ديستوبيا متكاملة في الأدب العربي، استطاع أن يمزج فيها بين السرد الفني والنقد الاجتماعي والفلسفي، مما جعلها وثيقة إنسانية تفضح تحولات النظام العالمي وهيمنة الرأسمالية وآليات الاستلاب. ويتضح جليًا في الرواية تمرد الكاتب على كل القواعد التي سجن نفسه في حدودها طوال السنوات الماضية، وتُعبر عن رغبته القوية في مقاومة رتابة الكتابة، حيث دعم سردها بأدوات تجريبية مبتكرة مثل قصاصات الصحف ومقتطفات من المقالات والإعلانات الإشهارية؛ ليلقي عليها إحساسًا من الواقعية والموضوعية، واستفاد من كونه صحفيًا في استخدام أسلوب الريبورتاج التسجيلي الصحفي، والصور الكاريكاتورية القائمة على السخرية والمفارقة، وكذلك استفاد من تقنية التناص مع التاريخ القديم والمعاصر؛ المصري القديم والتوراتي، وتميزت الرواية ببنائها الدائري، تبدأ من لحظة دخول البطل للمثول أمام اللجنة وتنتهي بلحظة خروجه بعد فشله في إقناع اللجنة ببحثه؛ لتتركه عرضة للتآكل والانهيار الداخلي.
في مشهد عبثي يتم التحقيق مع البطل بواسطة لجنة غامضة حول قضايا لا تُعرف ماهيتها، مستخدمًا ما يسمى باللغة المقاومة؛ التي لا تخضع للقواعد المتعارف عليها، لغة جافة تصدم القارئ، وتعيد ترتيب علاقته بالعالم، متجاوزة حدود السرد التقليدي؛ لتصبح نصًا فلسفيًا يطرح أسئلة حول كيفية استخدام الخطاب الأدبي لتكريس الهيمنة أو فضحها، إنها تقترب من عوالم جورج أورويل وكافكا العبثية، ما يضعها في مصاف الروايات العالمية الكبرى التي تناقش قضايا الإنسان المعاصر مثل "1984م" و"المحاكمة".
ويعد صنع الله إبراهيم أول من استخدم الكولاج في الأدب العربي، وهو في الأصل مصطلح مستحدث من الفن التشكيلي، يقوم على تجميع أشكال من خامات مختلفة لتكوين عمل فني جديد، مما كان له تأثير جذري بين أوساط الفنانين في القرن العشرين؛ كنوع من الفن التجريدي، وترجع تسميته إلى الفنانين جورج براك الفرنسي وبابلو بيكاسو الإسباني.
لقد طغت تقنية الكولاج على معظم أعمال صنع الله إبراهيم؛ استخدم الخبر الصحفي والوثيقة والإعلان والتحليل الخبري والبحث والدراسة العلمية واليوميات في نصه الروائي، والتي وظفها كما ذكرت سالفًا في رواية "اللجنة"؛ عارضًا ظروف وملابسات بناء الأهرامات، وأيضًا في رواية "بيروت بيروت" حيث ضفر صنع الله علاقة البطل الجسدية مع امرأة لبنانية بمقتطفات وثائقية مختلفة عن الحرب الطائفية الأهلية في لبنان. أما في رواية "شرف" فقد غادر مصر والوطن العربي إلى المكسيك وحضاراتها: الأزتيك والمايا والإنكا، وقصة الأهرامات المكسيكية القديمة، المبنية منذ أربعة آلاف سنة، وتعرضه لتاريخ بلدان أمريكا اللاتينية وأحوالها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لتنتصر أفكاره للفقراء والمسحوقين والمهمشين في كل مكان. ونرى في رواية "وردة" الأخبار المقتطفة من الصحف والمجلات والدوريات ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وعرضه للمجازر المرتكبة بحق الشعب الكردي في العراق، وأيضًا جبهة تحرير ظفار.
ومن عناصر التجريب عند صنع الله إبراهيم في رواياته: التناص مع نصوص أخرى، سواء أكانت أدبية أو تاريخية، لخلق حوار ثري بين مختلف النصوص، وإثراء المعنى المراد، حيث يتماهى التخيلي مع التاريخي، ويستدعي أحداثًا وشخصيات تاريخية، لكنه لا يلتزم بالرواية التاريخية التقليدية التي تنقل الأحداث كما هي بصورة فوتوغرافية، بل يعيد تشكيلها وتقديمها من خلال رؤيته الفنية الخاصة بالرواية، والتي تمتاز بعمقها الحضاري. ونلمس هذا الاستدعاء للتاريخ في روايات: "بيروت بيروت"، التي سبق أن تحدثت عنها، ورواية "التلصص" التي تدور أحداثها في مصر عام 1948، حيث يركز السرد على طفل صغير يراقب ويعلق على الأحداث الجارية في القاهرة من حوله، مما يعكس الوضع السياسي والاجتماعي في تلك الفترة.
لقد مثَّل عام 1948 فترة هامة في تاريخ مصر، إذ شهد توترات سياسية واجتماعية متزايدة، إضافة إلى حرب فلسطين، كما عكست الرواية جوانب من فساد النظام الملكي وانشغاله بالملذات، بينما كان الشعب يعاني من الفقر والظلم. كما تطرقت الرواية إلى التأثيرات البريطانية والفرنسية على العادات والتقاليد في البلدان العربية.
أما رواية "العمامة والقبعة" فتتجاوز الواقع المتخيَّل؛ لتستكشف الواقع التاريخي الموثق، مستندةً إلى استشراف المستقبل، وتتناول الحوار بين الشرق والغرب، والتفاعل والصراعات بين الثقافات المختلفة، ويمكن قراءتها كعمل روائي أو عمل تاريخي صرف. وتدور في فترة الحملة الفرنسية على مصر، وتعتمد الرواية على كتاب "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" لعبد الرحمن الجبرتي، مما يعمق البعد التاريخي لها. وكذلك روايته "نجمة أغسطس"، التي تُعد من أهم رواياته التجريبية، إذ يمزج فيها بين التاريخ والواقع، وتتناول قصة بناء السد العالي في أسوان، وتقدم شهادة سردية عن تلك الحقبة وتحولات المجتمع والسياسة في ذلك الوقت. وتجمع الرواية بين الجانب التوثيقي والبنية الفنية التجريبية، حيث توثق حياة العمال والمهندسين والقرى النوبية المتضررة من بناء السد.
وأود في النهاية أن أختم المقال باعتراف صنع الله إبراهيم بتمرده على الكتابات السائدة وافتتانه بمغامرة التجريب؛ إذ يقول في شهادة له عن تجربته الروائية ألقاها في ملتقى الرواية العربية في مدينة فاس عام 1979: "منذ البداية كانت لعبة الشكل تستهويني، فالحرية التي يتعامل بها الكتَّاب المعاصرون مع مادة الرواية كانت تثيرني للغاية. كل رواية تصبح مفاجأة تامة ومغامرة مثيرة جديدة، لا تكرار فيها أو ابتذال، ولم يكن الأمر متعلقًا بالحرفة، بالتكنيك وحسب، وإنما كان يشمل أساسًا وجهة النظر، الرؤية، ما تريد أن تقوله. كنت قد بدأت حركتي من موقع التمرد على ما كان يعرف في ذلك الحين بالواقعية الاشتراكية. فقد شعرت، أنا وكثيرون غيري، أنها تزيف الواقع وتزوقه، وقدرت أن هذا الخداع لا يساعد الإنسان بل يضلله. ثمة صخرة يمكن الاستناد إليها، كل شيء يخضع لما تريد أن تقوله، وهي مقولة قديمة جدًا يثبت تجددها كل يوم. لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فلا بد من أقصى حرية في الخيال، وأقصى معرفة ممكنة بحقائق الحياة والعلم وقوانين المجتمع والتطور، والتراث العالمي والتجارب المعاصرة، وأقصى جرأة على التجريب وكسر القواعد البالية واستحداث قواعد جديدة، ولا بد أساسًا، وقبل كل شيء، من الصدق".

الاكثر قراءة