تتواصل أعمال تطوير القاهرة الخديوية، التي تضم أبرز المناطق التاريخية في قلب العاصمة، بهدف تحويلها إلى متحف مفتوح يعكس عراقة الحضارة المصرية بمختلف مراحلها، وبما يحقق تنمية شاملة للبنية التحتية ويحافظ في الوقت نفسه على التراث من الاندثار.
وتقع القاهرة الخديوية في وسط مدينة القاهرة، حيث تمتد من منطقة القلعة شرقًا إلى الأزبكية وميدان العتبة غربًا، وتستهدف الدولة المصرية إحداث نقلة نوعية في هذه المنطقة عبر تحسين صورتها البصرية وتعظيم شخصيتها المعمارية، من خلال الحفاظ على واجهات مبانيها المميزة وإزالة التشوهات التي لحقت بها على مر السنين.
وخلال جولة أجراها الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، أمس، في القاهرة الخديوية، أكد أن أعمال الإحياء الجارية تستهدف الحفاظ على الطابع المعماري والعمراني للمنطقة التاريخية دون المساس بتركيبتها الحضارية، مشددًا على أهمية متابعة تلك المشروعات لما تمثله هذه المناطق من جزء أصيل في تاريخ الدولة المصرية.
الحفاظ على تاريخ مصر
وعلى الصعيد التاريخي، يؤكد الدكتور شريف شعبان، الباحث في الآثار، أن مشروع تطوير القاهرة الخديوية يمثل خطوة محورية في الحفاظ على جزء أصيل من تاريخ مصر الحديث والمعاصر، موضحًا أن هذه المنطقة العريقة ليست مجرد شوارع ومبانٍ، بل هي مرآة تعكس ملامح الهوية العمرانية التي ارتبطت بمرحلة مهمة من تاريخ البلاد.
وأشار شعبان، في تصريحاته لـ"دار الهلال"، إلى أن القاهرة الخديوية شهدت أولى محاولات التطوير العمراني في عهد الخديوي إسماعيل، الذي أراد آنذاك أن يجعل العاصمة المصرية مدينة تضاهي كبرى العواصم الأوروبية، فقام بتجميل وجه القاهرة وتخطيطها على نسق فني ومعماري متميز.
وأضاف أن الدولة تسعى اليوم عبر مبادرة تطوير القاهرة الخديوية إلى الحفاظ على طابعها المعماري الفريد، بما يعيد إليها بريقها الثقافي والحضاري، لافتًا إلى أن المنطقة تضم أحياء بارزة مثل وسط البلد، وعابدين، وباب اللوق.
وأوضح الباحث أن الوقت قد حان للحفاظ على الوجه الحضاري للعاصمة، وإعادة إحيائه بنفس الروح التي ظهرت في القرن التاسع عشر، مبينًا أن الطراز المعماري الذي شُيدت به القاهرة الخديوية يُعد من الطرز الفريدة التي لم تتكرر في كثير من مدن العالم.
وتابع قائلًا: "هذا النمط العمراني يرسخ هوية المنطقة ويبرز قيمتها التراثية، حيث تمتاز مبانيها بالطابع التاريخي، الأمر الذي يعزز من مكانتها السياحية ويدعم قدرتها على جذب الزوار من مختلف دول العالم".
ولفت شعبان إلى أن الاهتمام بهذه المنطقة يبعث برسالة واضحة للسائحين مفادها أن مصر حريصة على صون تراثها المعماري والحضاري عبر العصور، بدءًا من مصر القديمة قبل آلاف السنين، وصولًا إلى القرن التاسع عشر والعشرين.
وشدد على أن منطقة القاهرة الخديوية تُعد نموذجًا عالميًا لا يتكرر، فبرغم أن تصميمها مستوحى من العاصمة الفرنسية باريس، فإن الأخيرة خضعت لتغيرات عمرانية كبرى أفقدتها الكثير من ملامحها القديمة، بينما احتفظت القاهرة الخديوية بخصائصها الأصلية حتى اليوم.
المحافظة على التراث العمراني
وفي السياق العمراني، قال الدكتور سيف الدين فرج، خبير التخطيط العمراني، إن مشروع تطوير القاهرة الخديوية يمثل محطة محورية في تاريخ مصر الحديث، موضحًا أن الدولة منذ عام 2014 وضعت نصب أعينها الحفاظ على التراث العمراني والمعماري باعتباره ركيزة أساسية لإبراز الوجه الحضاري لمصر وإعادة وضعها على الخريطة السياحية العالمية.
وأضاف فرج، في تصريحات لـ"دار الهلال"، أن مصر بما تمتلكه من مقومات تاريخية وسياحية قادرة على منافسة دول مثل تركيا والمغرب، مشددًا على أن القاهرة التاريخية، وخاصة القاهرة الخديوية والفاطمية، تعد من أبرز الوجهات التي يجب أن تحظى بالاهتمام والتنمية لتكون واجهة حضارية تليق بمكانة مصر.
وأوضح خبير التخطيط العمراني أن أهمية تطوير القاهرة الخديوية لا تقتصر على إعادة إحياء طابعها التراثي فحسب، بل تتجسد أيضًا في مساهمتها المباشرة في دعم قطاع السياحة، مؤكدًا أن بعض التجارب السابقة في تطوير شوارع بعينها أثبتت نجاحًا كبيرًا، وهو ما شجع الدولة على التوسع في تنفيذ مشروعات أوسع نطاقًا في هذا الإطار.
وأشار فرج إلى أن المشروع يسهم كذلك في خلق فرص عمل جديدة، وهو ما يساعد في تقليل معدلات البطالة ورفع مستوى معيشة المواطنين، مؤكدًا أن كل توسع في هذا النوع من المشروعات ينعكس إيجابيًا على المجتمع بأسره.
وفي رده على تساؤلات بعض المواطنين حول جدوى المشروع بالنسبة لهم، أكد أن العائد لا يقتصر على تنشيط السياحة والاقتصاد فحسب، بل يمتد إلى المواطن المصري بشكل مباشر، من خلال توفير فرص عمل متنوعة في مجالات السياحة والخدمات والأنشطة المرتبطة بالمشروع.
ولفت إلى أن تشغيل العمالة المصرية داخل هذه المشروعات يعزز الدخل القومي، ويمنح الأسر المصرية استفادة حقيقية من عوائد التنمية، فضلًا عن انعكاس ذلك على تحريك عجلة الاقتصاد الوطني.
واختتم الدكتور سيف الدين فرج حديثه بالتأكيد على أن مشروع تطوير القاهرة الخديوية ليس مجرد خطة عمرانية أو معمارية، بل هو رؤية متكاملة لإحياء التراث، ودعم السياحة، وخدمة المواطن، وبناء اقتصاد مستدام يليق بمكانة مصر وتاريخها العريق.