أسس الروائي البريطاني والكاتب المسرحي هنري فيلدنج مكانته كأحد أعمدة الأدب الإنجليزي، إلى جانب معاصريه، فمزج بين الفكاهة والعمق، وانتقد النفاق الأخلاقي، ورسم شخصيات لا تزال حيّة في ذاكرة الأدب حتى اليوم.
كان فيلدنج، الذي تحل وفاته اليوم الأربعاء 8 أكتوبر، كاتباً وقاضياً ومصلحاً اجتماعياً، رأى في الأدب وسيلة للوعظ، وفي العدالة أداة لإصلاح النفوس، ليستطيع الجمع بين روح الفكاهة وصرامة القانون، بين السخرية اللاذعة، والنقد الاجتماعي الجريء، ويساهم بقلمه في رسم ملامح الرواية الواقعية الحديثة.
ميلاده ونشأته
وُلد فيلدنج عام 1707 في سومرست بإنجلترا، ونشأ في كنف أسرة تنتمي إلى طبقة النبلاء، لكن انغماسه في الحياة العامة وتجاربه المتنوعة، من العمل ككاتب مسرحي إلى تقلده مناصب قضائية، منحته قدرة استثنائية على تفكيك البنية الاجتماعية والسياسية لعصره، وتحويلها إلى مادة سردية ساخرة، نابضة بالحياة والصدق.
حياته الأدبية
بدأت شهرة فيلدنج ككاتب مسرحي، لكنه ما لبث أن اصطدم بالرقابة السياسية بعد أن سخر في إحدى مسرحياته من رئيس الوزراء آنذاك، روبرت والبول، الذي فُرض قانون رقابة على المسرح عام 1737، ما دفع فيلدنج إلى التوجه نحو الرواية، فكانت نقطة التحول الأهم في مسيرته الأدبية، وتحولًا مفصليًا في تاريخ الأدب الإنجليزي.
"توم جونز"
وفي عام 1749، نشر فيلدنج روايته الأشهر "توم جونز"، التي تُعد واحدة من أوائل الروايات المكتملة بنيويًا في الأدب الغربي. امتازت الرواية ببنية سردية محكمة، وشخصيات معقدة تعكس الصراع بين الفضيلة والفساد، والحب والمصلحة، لكن ما ميّزها فعلاً هو أسلوب فيلدنج الساخر، الذي لم يتردد في كسر الجدار الرابع والتحدث مباشرة إلى القارئ، بأسلوب يمزج بين الجد والفكاهة، النقد والتأمل.
ولأنه كان ناقدًا اجتماعيًا سخر في روايته، من الطبقات الأرستقراطية، وانتقد الفساد، كما قدّم صورة إنسانية حقيقية للفقراء والمهمشين، لكنه لم يقع في فخّ المثالية، وقدّم أبطاله بضعفهم الإنساني وأخطائهم، ما جعلهم أقرب إلى القرّاء وأكثر صدقًا من أبطال الروايات التي سبقته.
وعلى الرغم من أنه عاش حياة قصيرة، حيث توفي عام 1754 عن عمر ناهز 47 عامًا، فإن تأثيره امتد لقرون، فمهّد الطريق أمام كبار الروائيين مثل شارل ديكنز، وجين أوستن، ووليام ثاكري، وأعاد تعريف الرواية، لا بوصفها مسلية، بل كأداة فكرية ونقدية تحمل مسؤولية اجتماعية.
وبعد ما يزيد عن قرنين ونص على وفاته لا يزال صدى سخريته العاقلة يتردد في صفحات الأدب، شاهداً على عبقريته التي سبقت زمنها.