في ذاكرة الفن العربي، تتلألأ أسماء قليلة استطاعت أن تنحت لنفسها مكانة فريدة تجمع بين روحانية الإنشاد الديني وعبق الأصالة الشعبية، ووحده يقف عاليًا على قمة هذا الجبل الشامخ، إنه الفنان الذي لم يكتفِ بأن يكون صاحب صوت متفرد يردد الأناشيد، لكنه صار رمزًا لمنظومة فنية متكاملة امتزجت فيها البداوة بالحضر، والدين بالفن، والأصالة بالتجديد إنه المنشد والفنان شيخ المداحين محمد الكحلاوي.
والشيخ محمد الكحلاوي، ظاهرة فنية نادرة جمعت بين عدة مواهب في آنٍ واحد، فهو المنشد الذي أطرب القلوب بمدائحه النبوية، والمغني البدوي الذي أتقن لهجات الصحراء وإيقاعاتها، والفنان الشعبي الذي لامس وجدان البسطاء، والممثل الذي أضاء شاشة السينما، ورجل الأعمال صاحب الرؤية الذي أسس ثاني شركة إنتاج في الوطن العربي.
ما يميز الكحلاوي هو قدرته على صهر كل هذه المواهب في بوْتَقَة واحدة، فلم تطغَ موهبة على أخرى، لكنها تكاملت جميعها لترسم صورة فنان شامل ومبدع استثنائي، رحلته من موظف بسيط في السكة الحديد إلى أيقونة من أيقونات الفن العربي، تحكي قصة إصرار وشغف وموهبة فطرية صقلتها التجربة والترحال.
وفي شهر أكتوبر المجيد، ولد ورحل عنا «شيخ المداحين» ومداح الرسول وصانع السينما البدوية محمد الكحلاوي، ونستحضر معه اليوم إرثًا فنيًا ثريًا لا يزال يتردد صداه في القلوب، وصوتًا ملائكيًا لا يزال يرتقي بالأرواح نحو المعاني السامية، ونموذجًا ملهمًا لفنان آمن برسالته فخلّد نفسه في ذاكرة الأمة.
الميلاد والنشأة.. يتيم عانقته الموهبة
ولد الشيخ محمد الكحلاوي في 1 أكتوبر من عام 1912م، بمركز منيا القمح في محافظة الشرقية، وتوفيت والدة «الكحلاوي» أثناء ولادته ولحق بها أبوه وهو لا يزال طفلا، وتولى رعايته خاله الفنان محمد مجاهد الكحلاوي، فكان لملازمته لخاله في حفلاته الأثر الكبير إذ تعلم منه فنون الغناء.
الصدفة وطريق الشهرة… حفلة غيرت المصير
كان الفتي محمد الكحلاوي يقضي وقته بين الغناء ولعب كرة القدم التي تميز فيها حتى أصبح في وقت لاحق كابتن فريق نادي السكة الحديد، كما كان يلازم نادي الزمالك ونادي الترسانة في كل سفرياتهم، غير أن لعبت دورها عندما كان يعمل كومبارس في فِرْقَة «عكاشة»، و تأخر مطرب الفِرْقَة زكي عكاشة في ذلك الوقت، فطلب منظم الحفلة من «الكحلاوي» الغناء لتسلية الجمهور الذي تجاوب معه لدرجة أفزعته فهرب من الحفل.
ثماني سنوات في بلاد الشام
سافر «الكحلاوي» في بداية حياته الفنية مع فِرْقَة «عكاشة» لبلاد الشام دون علم خاله، وكان لا يزال طفلًا وعادت الفِرْقَة بعد شهرين وتخلف هو هناك لثماني سنوات في بلاد الشام، تنقل فيها بين بلادها ليتعلم الغناء العربي الأصيل ويتقن خلالها اللهجة البدوية وإيقاعاتها وغناء الموال وأصوله والعتابة وطرح الجول، ثم عاد إلى مصر شابًّا يافعًا في العشرين من عمره، خرج من بيته بحوالي عشرين قرشًا وعاد ومعه حوالي 38 ألف جنيه وهي ثروة ضخمة وقتها.
واستكمل حياته الفنية في إنشاد المواويل الشعبية، قبل أن يترك وظيفته ليلتحق بفرقة «عكاشة» والتي بدأت منها مسيرته الغنائية، ثم عمل بالإذاعة من نشأتها في عام 1934م، وكانت بدايته في السينما في العام التالي من خلال المشاركة في فيلم «عنتر أفندي» عام 1935م.
واتجه الفنان الشاب إلى الغناء البدوي الذي تعلمه جيدًا أثناء سفره فكوّن في بداية حياته ثلاثية جميلة مع الشاعر بيرم التونسي بالكتابة وزكريا أحمد بالتلحين وهو بالغناء و بدأ محمد الكحلاوي التمثيل نجمًا فكان أول أفلامه من إنتاج «أولاد لامة» وبطولة كوكا وسراج منير الذي تصدر أفيشاته رغم أنه لم يظهر سوى في مشاهد معدودة.
صاحب ثاني شركة إنتاج في الوطن العربي
قام بإنشاء ثاني شركة إنتاج في الوطن العربي وهي «شركة إنتاج أفلام القبيلة» والتي تعد ثاني شركة إنتاج في الوطن العربي، وأراد بها صناعة سينما بدوية فتخصصت في الأفلام العربية البدوية مثل «أحكام العرب» عام 1947م وقام ببطولته و أنتج أفلام «يوم في العالي» و«أسير العيون» و«بنت البادية»، وغيرها والتي شارك فيها بالتمثيل واعتبرت هذه الأفلام بداية لعملية تمصير الفيلم العربي والذي كان يعتمد من قبل على النصوص الأجنبية المترجمة، وقدم في هذه التجربة نحو 40 فيلمًا.
مشاركات متميزة في السينما المصرية.. 40 فيلما خالدًا
ومشاركات محمد الكحلاوي في السينما: «بنت البادية» (1958)، «كابتن مصر» (1955)، «خليك مع الله» (1954)، «الصبر جميل» (1951)، «أنا وأنت» (1950)، «مبروك عليكى» (1949)، «أسير العيون» (1949)، «ابن الفلاح» (1948)، «أحكام العرب» (1947)، «يوم في العالي» (1946)، «المغني المجهول» (1946)، «الزلة الكبرى» (1945)، «حسن وحسن» (1945)، «ابنتى» (1944)، «طاقية الإخفاء» (1944)، «رابحة» (1943)، «جوهرة» (1943)، «عايدة» (1942)، «بحبح في بغداد» (1942)، «عريس من استانبول» (1941)، «حياة الظلام» (1940)، «العزيمة (الحارة)» (1939)، «تيتاوونج» (1937)، و«عنتر أفندي» (1935).
المنشد البارع ..مداح الرسول
ركز «الكحلاوي » اهتمامه منذ الستينيات في القرن الماضي، على الإنشاد الديني والأغنية الشعبية، ورفض «الكحلاوي» التغني لأي إنسان إلا لسيد الخلق أجمعين محمد، فلم يغنّ لملك ولا رئيس مثلما فعل كل المطربين ولم يكن «الكحلاوي» يؤمن بفكرة الفن للفن، بل كان يرى أن الفن لابد أن يساير الأحداث والمواقف الإنسانية؛ لذا فحين بدأت حرب 1948م وهجرة اليهود وأحدقت المخاطر بفلسطين كان أول من نادى بالوحدة وأنشد العديد من الأغاني الوطنية باللهجة العربية البدوية، ومن هذه الأغاني «على المجد هيا يا رجال»، «وين يا عرب»، «خلي السيف يجول» و«كريم جواد» و«يا أمة الإسلام»، وغيرها.
ستمائة لحن في حب النبي
كانت مرحلة محمد الكحلاوي الأخيرة بالغناء الديني التي مثلت حوالي نصف إنتاجه الفني، فقد لحّن أكثر من 600 لحن ديني من مجمل إنتاجه الذي قارب 1200 لحن، ولم تكن الأغنية الدينية تعرف بمفهومها الحالي؛ إذ اقتصرت في ذلك الوقت على التواشيح الدينية، ولكنه وضع أسسها وأصبحت الأغنية الدينية تغنى بنوتة موسيقية وفرقة كاملة وقد تلون في غنائه بين الإنشاد والغناء والسير والملاحم والأوبريتات، فقد قدم «سيرة محمد» و«سيرة السيد المسيح» و«قصة حياة إبراهيم الخليل» وغيرهم.
لمع «الكحلاوى» نجمًا عاليًا في الغناء الديني ولاقت أغانيه حفاوة عند جمهوره وأصبحت تذاع في كل المناسبات الدينية، ومن أشهر أغانيه «لاجل النبي»، «يا قلبي صلِّ على النبي»، «خليك مع الله»، «نور النبي»، «ناوي أتوب»، «يا أمة التوحيد»، «حي على الصلاة». وغيرهم.
«الكحلاوي» بروح إيمانية جارفة
وانتابت «الكحلاوي» روح إيمانية جارفة وهو الذي أدى فريضة الحج 40 مرة متواصلة فلم يقطع الحج أربعين عامًا متواصلة، حيث هجر عمارته المطلة على النيل في حي الزمالك، وبنى مسجدًا يحمل اسمه وسط مدافن الإمام الشافعي وبنى فوقه استراحة وسكنها وبنى كذلك مدفنه فيه!. وبدأت خلواته في جامعه ثم امتدت معه في أوقات قضائه للعمرة التي أدى مناسكها عشرات المرات.
أنجب مداح الرسول الشيخ محمد الكحلاوي خمس بنات هن:«الداعية الإسلامية الشهيرة الراحلة عبلة الكحلاوي، عليا، رحمة، فاطمة، عزة، وولدان هما الفنان أحمد الكحلاوي الذي سلك طريق والده في الإنشاد ومدح الرسول، والدكتور محمد الكحلاوي أستاذ الآثار الإسلامية والأمين العام لاتحاد الآثاريين العرب.
ثمار الرحلة .. ورحيل وأثر باق
نال محمد الكحلاوي، العديد من الجوائز والتكريمات، فقد حصل على جائزة التمثيل عن دوره في فيلم «الزلة الكبرى»، وجائزة الملك محمد الخامس، وحصل في عام 1967 على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، ثم حصل على جائزة الدولة التقديرية، إضافة إلى العديد من الأوسمة والنياشين، وسعى ابنه الفنان أحمد الكحلاوي لإنشاء متحف لأبيه يضم أوسمته وملابسه وصوره النادرة التي سيضمها المتحف الذي سيقام بجوار مسجده بمنطقة الإمام.
من الزمالك إلى مدافن الإمام
ورحل كبير المداحين عن عالمنا في الخامس من أكتوبر عام 1982 م عن عمر يناهز الـ 70 عاما تاركًا خلفه مشوارًا حافلًا بالجهد والعطاء، وتراث من روائع الغناء والإنشاد المتميز وسيبقى في عالمنا بأثره ما حيينا.