وقعت أوروبا بين شِقي رَحى باعتمادها المزدوج على الخدمات الرقمية الأمريكية من جانب وعلى صناعة تشغيل المعادن الأساسية الصينية في الجانب الآخر؛ لتصبح القارة باستثماراتها في التكنولوجيات الفائقة، "أكثر هشاشة وأكبر الخاسرين في الحرب الدائرة بين قطبي التجارة العالمية"، على حد تعبير الكاتب ميشا جلينيا في صحيفة "فاينانشيال تايمز".
ويرى جلينيا، عميد معهد العلوم الإنسانية في فيينا، أن الحروب التكنولوجية بين الغرب والشرق ليست بالأمر الجديد، فخلال الحرب الباردة، خاضت الولايات المتحدة وحلفاؤها تنافسا مع روسيا في مجالات استكشاف الفضاء ونظم التسليح.
وفي الآونة الأخيرة، استعر التنافس بين الولايات المتحدة والصين، ومن المفارقات، فإن هذه المرة تقف أوروبا كأكبر الخاسرين في هذا الصراع.
ويقول عميد معهد العلوم الإنسانية في فيينا ميشا جلينيا، "خلال الـ30 عاما الماضية، أصبحت الصين رائدا عالميا في مجال تشغيل غالبية الـ54 معدنا، التي تصنفها "هيئة المسح الجيولوجي" الأمريكية كمعادن حرجة بالنسبة للصناعة في الولايات المتحدة، بما فيها قطاع الصناعات الدفاعية.
وفي الوقت الراهن، بمقدور الصين من الناحية العملية، تشغيل أية نوعية من المعادن بتكلفة أرخص 30 في المئة من منافسيها، وللتنافس مع ذلك الوضع، فإن الحكومات الغربية سيكون لزاما عليها تقديم دعم لصناعاتها المحلية.
وبينما تستفيد الصين من احتكارها للمعادن الأرضية النادرة، فإن واشنطن تستخدم نفوذها لتحجيم وصول الصين إلى أكثر المعالجِات الإلكترونية الدقيقة قوة ودقة (على الرغم أن الغالبية العظمى منها تنتج فعليا بواسطة شركة "تي إس إم سي" في تايوان، حسب مقال "فاينانشيال تايمز".
ويعتبر عميد معهد العلوم الإنسانية "أن القيود الصينية الأخيرة على صادرات معادن الأرض النادرة والمنتجات التي تحتوي عليها دخلت بعدا أكثر اتساعا للحرب التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين، فكلا الحكومتين تعتقد أن مَن يفوز بالسباق في الصناعات الرئيسية وبالذات الذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيات الصواريخ، والحوسبة الكمومية (الكوانتم)، والروبوتات، والمسيّرات - سيتمتع بميزة حاسمة في التنافس الاقتصادي والعسكري خلال الـ30 عاما المقبلة".
مع ذلك، فقد توصل مجموعة من الخبراء الأكاديميين، الذين التقوا في مؤتمر حول الخامات الأولية الحيوية عُقد في فيينا مطلع هذا الأسبوع، إلى أن الخاسر الأكبر في كل ما يحدث ليس الصين ولا والولايات المتحدة، بل هي أوروبا، حسب قول جلينيا.
فالولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب يمكنها أن تدير ظهرها للطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لكن تكنولوجيات الطاقة المتجددة تُعتبر محورية بالنسبة لهوية أوروبا في القرن الحادي والعشرين، فالشركات الأوروبية كانت في الطليعة بالنسبة للطاقة الشمسية وطاقة الرياح، فيما شرعت تدريجيا في زيادة حصتها في قطاع السيارات الكهربائية عالميا، لكن الصين باتت تهيمن حاليا على الصناعات الثلاث، بالتوازي مع سيطرتها على إنتاج بطاريات الليثيوم المتأين.
وبينما تعيد الولايات المتحدة بناء صناعتها في مجال المعادن الأرضية النادرة، وتمارس نفوذها على منتجي غيرها من المعادن الحرجة مثل أمريكا الجنوبية التي تتمتع باحتياطيات ليثوم ضخمة، فإن أوروبا لا تكاد تُرى في هذا السباقات.. فواقع الحال، يؤكد أن بروكسل طورت استراتيجية لـ"الخامات الأولية الحيوية" (التي يُطلق عليها المعادن الحرجة في أمريكا)، لكن محاولات استغلال مواردها التعدينية الرئيسية تواجه مقاومة قاسية من الجماعات البيئية.
ويختتم جيلينا مقاله في "فانينانشيال تايمز" معتبرا أن "الاعتماد المزدوج لأوروبا على الخدمات الرقمية الأمريكية وتشغيل المعادن الحرجة الصينية، يتركها أكثر هشاشة حيال الضغوط الخارجية.
ويضيف" أن استثمارات الاتحاد الأوروبي في الصناعات التكنولوجية الفائقة مثيرة للضحك، مقارنة بالتريليونات التي تضخها كل من الصين والولايات المتحدة في هذا القطاع، وما لم تتمكن بروكسل من حشد الدول الأعضاء في أقرب وقت ممكن، فإن الاتحاد الأوروبي سينتهي به الحال تابعا بصفة دائمة إما للصين وإما للولايات المتحدة، أو لكليهما".