السبت 18 اكتوبر 2025

ثقافة

جمال الغيطاني.. حكاء التاريخ وحارس التراث

  • 18-10-2025 | 10:57

جمال الغيطاني

طباعة
  • فاطمة الزهراء حمدي

في كل زاوية من أزقة القاهرة الفاطمية، حيث المآذن تتجاور مع القباب، وحيث الحجر ينطق بعبق القرون، تسمع صدى اسم جمال الغيطاني. لم يكن مجرد روائي يكتب عن الماضي، بل كان كاهنًا للسرد المصري، منقبًا في الذاكرة كما ينقب الأثريون في طبقات الأرض، يستخرج منها المعنى والجمال والدهشة، كان يرى في التاريخ روحًا لا تموت، وفي التراث نهرًا يجري تحت أقدام الحاضر، فغاص بقلمه في عمق الزمان، ليستخرج لنا روايات تنبض بالأسئلة، وتُضيء جوانب من الذات والهوية والوطن، ليبقى عبق قلمه منثور في أرجاء الزمان، كان يكتب من قلب الحارة المصرية، ونبض الجمالية، تتجسد  في حروفه وجوه الناس وأصوات الباعة وضجيج الأزقة، حمل القاهرة القديمة في وجدانه، وجعلها بطلة أعماله، حتى صارت حاراتها وشخصيتها وأصواتها جزءًا من نسيج الأدب العربي الحديث، وبين سطور رواياته، كانت تتقاطع حكايات السلاطين مع أحلام الفقراء، وأصوات المؤذنين مع صليل السيوف، ليكتبها بروح محارب كانت عدسته شاهدة على العزة والنصر وصوته يروي لنا شجاعة وبسالة خير جنود الأرض في حرب أكتوبر والعدو تحت أقدام جنودًا زليلًا، ليصح جمال الغيطاني المتفرد بانتاج تلك التوليفة الخالدة على مر الزمان.

وُلد جمال أحمد الغيطاني في 9 مايو 1945 بقرية جهينة في محافظة سوهاج بجنوب الصعيد، قبل أن ينتقل مع أسرته في طفولته إلى حي الجمالية بالقاهرة، حيث عاش وسط المعمار الإسلامي والأسواق القديمة، وتشرّب روح المكان بكل تفاصيله. هناك، في تلك الحارات الضيقة، وُلدت ملامح الحس الجمالي والخيال التاريخي الذي سيشكّل لاحقًا عالمه الأدبي الفريد.

تخرج الغيطاني في مدرسة الفنون والصنائع عام 1962، متخصصًا في تصميم السجاد وصباغة الألوان، وهو التكوين الفني الذي منحه حسًّا بصريًا مدهشًا في تصوير المشهد الأدبي، ووعيًا بتفاصيل التكوين والزخرفة واللون. بدأ حياته العملية رسامًا ومفتشًا لمصانع السجاد في القرى المصرية، قبل أن ينتقل إلى عالم الصحافة، فالتحق بجريدة أخبار اليوم عام 1969، حيث كانت الصحافة بالنسبة له نافذة أخرى لرؤية الواقع وتوثيقه.

لم يكن الغيطاني صحفيًا عابرًا؛ فقد شارك كمراسل حربي في حرب أكتوبر 1973، ونقل من قلب الجبهة مشاهد البطولة والتضحية، وهي التجربة التي عمّقت نظرته للإنسان والوطن والمصير، وظهرت بصماتها واضحة في أعماله الأدبية ذات النفس الواقعي والبعد الإنساني. وفي عام 1993، أسس جريدته الأشهر "أخبار الأدب" الصادرة عن مؤسسة أخبار اليوم، ليتحول من كاتب إلى صانع مشهد ثقافي جمع حوله أجيالًا من الأدباء والمفكرين.

تأثر الغيطاني بالأديب نجيب محفوظ، خاصة في التقاط تفاصيل الواقع الشعبي، لكنه سار في طريقه الخاص، باحثًا عن جذور السرد في التراث العربي والإسلامي. استخدم لغة تجمع بين البيان القديم والنَفَس المعاصر، فكان نصه الأدبي متفردًا، مزيجًا من التاريخ والأسطورة والواقع، ومن الفلسفة والحلم والوجع.

كتب الغيطاني رواياته كمن ينقش على جدار الزمن، ومن أبرزها: الزيني بركات، وقائع حارة الزعفراني، رسالة البصائر في المصائر، التجليات، الرفاعي، حكايات الغريب، أوراق شاب عاش منذ ألف عام، ذكر ما جرى، حراس البوابة الشرقية وغيرها من الأعمال التي جعلت منه أحد أعمدة السرد العربي في القرن العشرين.

رحل جمال الغيطاني في الثامن عشر من أكتوبر عام 2015، بعد صراع مع المرض أدخله في غيبوبة استمرت أكثر من ثلاثة أشهر، تاركًا وراءه إرثًا أدبيًا وإنسانيًا باهرًا، لا يزال يُقرأ وتُكتشف طبقاته كلما مرّ الزمن.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة