يعيش الشرق الأوسط واحدة من أخطر التحولات التاريخية والمعاصرة، فمن شرق أوسط هادئ مستقر، يعاني من شيخوخة سياسية، إلى ساحة مفتوحة للصراعات الدولية بدأت منذ أحداث الربيع العربي وتوالت تبعاتها حتى وصلنا إلى الانفجار الكبير الذي أحدثه طوفان الأقصى في كامل أركان الشرق الأوسط، والذي لم ولن تسلم أي من دوله من آثاره.
ومع كل تلك التطورات لم يكن لهدوء الشرق الأوسط، الذي كان يعاني من شيخوخة سياسية سنوات ما قبل الربيع العربي، إلا أن فتح الباب لمزيد من التغول الإخواني في العمل السياسي، حتى وصلوا إلى تأثير سياسي في دول عديدة.
طموح الإخوان ما قبل ثورات الربيع العربي وأحداث 25 يناير 2011 مثل تمهيدًا مهمًا لقفزتهم التاريخية الكاشفة والفاضحة بعدها، إذ استطاعوا عبر المشاركة السياسية في تلك الحقبة الوصول بكتلتهم في برلمان مصر دورة 2005 إلى 88 نائبًا في مجلس الشعب، كما أفسحت لهم الدولة المجال فسيطروا على النقابات المهنية، الأمر الذي فتح شهيتهم ليصبحوا ذلك الوقود الذي غذى مطامع الربيع العربي في مصر. وهو الأمر الذي يصل بنا إلى ذلك الفشل الكبير لجماعة الإخوان التي صُنفت جماعة إرهابية في العديد من دول العالم، حتى تلك الدول الكبرى التي شاركت في صناعة الجماعة عبر التاريخ وكم وظفتها لخدمة أغراضها الدنيئة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. فكما كانت إسرائيل ولا تزال كيانًا غريبًا في مجتمعاتنا العربية والشرق الأوسط يسعى لزعزعة الأمن والاستقرار كيد طولى للغرب في الشرق الأوسط، كذلك كانت ولا تزال جماعة الإخوان تلك اليد القذرة التي نالت من كافة التجارب الديمقراطية على مر التاريخ في مصر وكافة البلدان العربية، وكيان يرى حدوده تفوق حدود الأوطان وتفرط في أمنها وسلامتها. لكن، وكما اصطدمت كثير من الدول الغربية بإسرائيل على مقصلة أزمة غزة الكاشفة، كذلك سقط الإخوان ودعت عدد من الدول، التي كانت معاقل تاريخية للجماعة، الآن لمراجعة مواقفها من الجماعة وأذرعها الدولية، ولاسيما فرنسا وأمريكا وحتى بريطانيا.
وعودة إلى الإخوان في مصر، فكما كانت مصر بلد المنشأ في صعود الجماعة، كانت ذلك النموذج في إسقاط الجماعة والقضاء عليها. فمن الطمع في الحكم، إلى ممارسات فاشية صبت جميعها في صالح الجماعة وتنظيمها الدولي عبر فرض حكم فاشي، ذلك الحكم الذي لم يجاوز العام، فسقطت الجماعة التي أحسنت استغلال ظاهرة "الشعب المتدين بطبعه" وتلبيس الدين بالسياسة، فسيطرت على الهوى السياسي العام ما بعد ثورة يناير، ثم برلمان 2012، ثم انتخابات الرئاسة. لكن ذلك الشعب الذي استغلوه هو نفسه الذي خرج مجددًا لتصحيح مساره الثوري وأسقط مشروعهم بمعاونة القوات المسلحة التي حمت الشعب والثورة في 2013، لكن تلك الجماعة الإرهابية لم تكن لتتخلص يومًا من سقوطها المتجذر في بئر الخيانة. فمن زعم أنهم الأشد تعاطفًا مع القضية الفلسطينية إلى نشر الفكر المتطرف في مصر، وتحويل سيناء إلى مستنقع دولي للجماعات الإرهابية المتطرفة، واتخاذها منطلقًا لفتح السجون في مصر إبان ثورة يناير، ثم التهديد بهم في 2013، ثم توظيفهم في دعم ارتكاب أعمال العنف التي صاحبت ثورة الثلاثين من يونيو حتى تغلبت مصر وجيشها وشعبها على كل تلك المكائد.
الجديد في تلك أن الجماعة الإرهابية فجرت بدلة التظاهر أمام السفارات المصرية بالخارج باتفاق وتعاون مع دولة الاحتلال والصهيونية العالمية.
ففي الوقت الذي هاجم فيه التنظيم الدولي للإخوان مصر باتهامات من بينها غلق المعبر والمساهمة في التضييق على الفلسطينيين، ونحو ذلك من أكاذيب، لتتكشف خيوط اللعبة مع تلك السقطة التاريخية للتنظيم الدولي للإخوان الذي يسبح في آبار الخيانة للدين وللأوطان، إذ قادت «الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني» ـ أحد أفرع التنظيم الدولي لجماعة الإخوان الإرهابية ـ ظهور وجوه مألوفة تتصدر المشهد وكأنها أبطال تهتف ضد مصر، وكان في مقدمتهم رائد صلاح، القيادي بالحركة الإسلامية في فلسطين، متظاهرًا على أرض تل أبيب في تعاون واضح وصريح مع إسرائيل، ليصبحوا بحق «إخوان الصهاينة». إذ تظاهروا بموافقة مباشرة من حكومة الاحتلال الإسرائيلي المسؤولة عن حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، وبموافقة مباشرة من أشد وزراء الحكومة تطرفًا بن غفير، وزير الأمن الداخلي، وجاءوا إلى المظاهرة في ناقلات إسرائيلية، وتظاهرت فتيات الإخوان المحجبات في تل أبيب برفقة المجندات الإسرائيليات اللاتي كنّ يحمينهن، تحت ظل العلم الإسرائيلي. لتبقى المفارقة الأكبر هنا أن حكومة نتنياهو سمحت للحركة الإسلامية بقيادة رائد صلاح بالتظاهر أمام سفارة مصر في تل أبيب رغم أنها مصنفة كحركة محظورة وسبق أن اعتقل قادتها عدة مرات، وهو ما يعكس ـ بلا مجال للشك ـ حجم التنسيق والارتباط بين الكيان المحتل وقادة الحركة الذين ظهروا في قلب تل أبيب يهتفون ضد القاهرة.
العجيب في الأمر أنه وقت المظاهرات التي شهدها حرم سفارة مصر في تل أبيب، التي أثارت حالة من الدهشة والاستغراب لدى الرأي العام المحلي والدولي، والزعم بأن مصر هي سبب أزمة الجوع في غزة، كانت طائرات القوات المسلحة المصرية تُسقط صناديق المساعدات الإنسانية فوق القطاع، وتعبر شاحنات المؤسسات المصرية معبر رفح متجهة إلى معبر كرم أبو سالم محملة بالأغذية والأدوية لسكان غزة. ولم تكتفِ القاهرة بذلك، بل خرج الرئيس عبدالفتاح السيسي مناشدًا قادة العالم بوقف الحرب على غزة بعدما تجاوزت كل الحدود الإنسانية ومواثيق العدالة والرحمة.
العجيب في الأمر ما قاله رائد صلاح، رئيس الحركة الإسلامية في إسرائيل، والمسؤول عن تنظيم مظاهرات أمام السفارة المصرية في تل أبيب: "أليست مصر هي صاحبة السيادة الوحيدة على معبر رفح؟ أليست مصر هي التي تملك القرار الوحيد؟ بناءً عليه أليس من حقنا أن نتساءل: ما بال معبر رفح مغلق؟.. المشهد واضح ما دام معبر رفح مغلقًا، ها هم أهل غزة يموتون جوعًا". وما قاله تصريح مضلل، إذ إنه وفق اتفاقية المبادئ المتفق عليها بشأن معبر رفح في إطار الانسحاب الإسرائيلي من غزة بالعام 2005، فإن البضائع الواردة لغزة من مصر لا تدخل مباشرة عبر معبر رفح، بل يجب أن تمر عبر معبر كرم أبو سالم، الواقع تحت الإشراف الإسرائيلي الكامل، ومن ثم ظلت سلطة إدخال البضائع لغزة تحت السيطرة الإسرائيلية الفعلية من الجانب الآخر وليست لدى مصر سلطة مطلقة. وكذا نصت الاتفاقية على أن السلطة الفلسطينية تدير الجانب الفلسطيني من معبر رفح، بينما تدير مصر الجانب المصري فقط من المعبر، تحت إشراف بعثة الاتحاد الأوروبي، وليست مصر من تملك السيادة الوحيدة على معبر رفح كما ادعى صلاح. وفي أعقاب طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، سيطرت إسرائيل فعليًا على الجانب الفلسطيني من معبر رفح، وأغلقت المعبر بالكامل، ومنعت أي حركة مرور، بحسب الأمم المتحدة وتقارير مستقلة. والمعبر خاضع منذ اتفاق 2005 لنظام تشغيل متعدد الأطراف، ولا تملك مصر وحدها سلطة الفتح أو الإغلاق. ونصت اتفاقية المبادئ المتفق عليها بشأن معبر رفح في إطار الانسحاب الإسرائيلي من غزة، الموقعة في 15 نوفمبر 2005، بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، على أن تُدير السلطة الفلسطينية معبر رفح من جانبها، وتدير مصر المعبر من جانبها، وفقًا للمعايير الدولية، ووفقًا للقانون الفلسطيني، وبموجب شروط هذه الاتفاقية. وكذا نصت الاتفاقية على أنه "سيقوم مسؤولو الجمارك في السلطة الفلسطينية بتخليص البضائع الواردة (من معبر رفح) في كرم أبو سالم تحت إشراف موظفي الجمارك الإسرائيليين".
وبحسب تقرير متابعة للاتفاقية، صادر عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة في نوفمبر 2016، فإنه منذ 25 يونيو 2006 أغلقت السلطات الإسرائيلية معبر رفح في 86% من الأيام لأسباب أمنية، وأورد التقرير أن السلطات الإسرائيلية تمنع فتح المعبر من خلال منع وصول بعثة المراقبة الأوروبية إلى رفح عبر معبر كرم أبو سالم. وفي أعقاب طوفان الأقصى، وتحديدًا في 7 مايو 2024، أعلن الاحتلال الإسرائيلي أنه سيطر بالكامل على الجانب الفلسطيني من معبر رفح.
ففي الوقت الذي مارس التنظيم الدولي للإخوان كل الخطايا ضد مصر، تعالت القاهرة فوق الصغائر وترفعت عن الخلافات الأيديولوجية التي وصلوا فيها إلى حد الخيانة للدين والأوطان، ولا تنظر القاهرة يومًا للإخوان ولا للانتماءات الأيديولوجية، لكن عينها ستبقى دومًا على القضية الفلسطينية، وسيبقى التاريخ شاهدًا على سقطات الإخوان التاريخية، من خيانات الأوطان، لتبقى خيانتهم العظمى في القضية الفلسطينية التي امتطوها قديمًا بشعارات "على القدس رايحين .. شهداء بالملايين"، وحين وصلوا السلطة كان الشعار الكاشف "عزيزي بيريز"، والترجمة الفعلية التظاهر ضد مصر تحت ظل العلم الإسرائيلي.