يعد الحديث عن تطوير منظومة التصدير المصرية خطوة نوعية في مسار التحول الاقتصادي الذي تستهدفه الدولة خلال السنوات الأخيرة خاصة في ظل سعيها إلى تعزيز مكانة المنتج المصري في الأسواق العالمية لذا فإن البيان الوزاري المشترك الذي تناول إطلاق مشروع لتطوير بيئة العمل في إجراءات التصدير بالموانئ لا يمثل مجرد إعلان إداري بل يعكس رؤية استراتيجية متكاملة تهدف إلى إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمصدرين على أسس من الكفاءة والشفافية والرقمنة.
وفي جوهر هذا التوجه تبرز الفكرة الأساسية المتمثلة في محاكاة التجربة الناجحة لمراكز الخدمات اللوجستية الخاصة بالاستيراد ولكن في الاتجاه المعاكس أي في خدمة المصدرين فكما أسهمت مراكز الخدمات اللوجستية في تقليل زمن الإفراج الجمركي وتسهيل دخول السلع إلى السوق المحلية تأتي الآن خطوة بناء منظومة تصدير متكاملة لتضع حركة السلع الخارجة من مصر إلى العالم على المسار ذاته من التنظيم والفعالية وإن هذه المقاربة المتوازنة بين الاستيراد والتصدير تضمن تدفقا تجاريا أكثر اتزانا وتؤسس لمفهوم جديد في إدارة التجارة الخارجية يعتمد على دورة متكاملة تبدأ من المصنع وتنتهي بالمستهلك الخارجي دون عناء بيروقراطي أو تأخير ويكتسب هذا المشروع بعدا إضافيا مع إعلان زيادة مخصصات دعم التصدير إلى 45 مليار جنيه في موازنة العام المالي الحالي وهذه الزيادة الكبيرة تعكس إدراك الدولة أن القدرة التنافسية لا تبنى فقط بالإنتاج الجيد بل أيضا بالسياسات المساندة التي تخفض التكلفة وتسرع الإجراءات وتشجع الشركات الصغيرة والمتوسطة على دخول السوق العالمية فالتحفيز المالي في ذاته لا يكون ذا قيمة ما لم يترافق مع منظومة إجرائية مرنة وسريعة تمكن المصدر من الوفاء بالتزاماته التعاقدية في الوقت المحدد وبأقل تكلفة ممكنة.
ومن هنا تأتي أهمية تطوير بيئة العمل بالموانئ باعتبارها النقطة الأكثر حساسية في سلسلة التصدير فالميناء ليس مجرد محطة شحن بل هو مركز تجاري ولوجستي متكامل يجب أن يعمل وفق أعلى معايير الكفاءة البيئية والتكنولوجية لذا فإن إطلاق وحدات "كشف ومعاينة متطورة" داخل ساحات التصدير يمثل تحولا عمليا نحو مفهوم الميناء الذكي القائم على الفحص السريع باستخدام تقنيات رقمية ما يقلل فترات الانتظار ويحد من الهدر الزمني والمالي وإضافة إلى ذلك فإن تصميم هذه الوحدات لتكون صديقة للبيئة وقابلة للتوسع ينسجم مع التوجه العالمي نحو الاقتصاد الأخضر ويضع مصر في موقع متقدم بين الدول التي تسعى إلى تحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية والاستدامة البيئية.
أما الجانب الأكثر إلهاما في المشروع فهو الإشارة إلى إعادة هندسة إجراءات التصدير إلكترونيا والاعتماد على الذكاء الاصطناعي لتيسير الدورة المستندية وتقليل التكاليف وهذه الخطوة تمثل نقلة نوعية من الإدارة الورقية إلى الإدارة الذكية حيث يمكن للأنظمة الرقمية تحليل البيانات وتوقع حجم العمل وتوزيع الموارد البشرية بشكل أمثل بل والتنبؤ بالمشكلات المحتملة قبل وقوعها وإن التحول إلى منظومة إلكترونية متكاملة لا يسرع الإجراءات فحسب بل يبني ثقة المستثمر والمصدر في الجهاز الإداري للدولة إذ تصبح كل خطوة قابلة للتتبع والرقابة وكل تأخير مبررا ومحدود الأثر وفي الوقت ذاته يتيح الذكاء الاصطناعي قراءة الاتجاهات السوقية ومواسم الطلب العالمي ما يمكن الحكومة من تخطيط سياساتها التصديرية استنادا إلى بيانات واقعية وليس إلى تقديرات عامة أو اجتهادات شخصية ومن زاوية أخرى يمكن القول إن هذا المشروع يأتي في لحظة فارقة تمر بها الاقتصادات الناشئة حيث تتسابق الدول على بناء بنية تحتية لوجستية قادرة على المنافسة عالميا فالمصدر اليوم لا يبحث فقط عن حوافز مالية بل عن بيئة أعمال متكاملة تقلل من التعقيدات وتمنحه ميزة السرعة والمرونة في التعامل مع الأسواق الخارجية وإذا نجحت مصر في استكمال هذا المشروع كما هو مخطط له فستتحول من دولة مصدرة تقليدية إلى مركز إقليمي للتجارة والتوزيع مستفيدة من موقعها الجغرافي وشبكة موانئها الحديثة لكن النجاح هنا يتوقف على قدرة التنفيذ والمتابعة فالتجارب السابقة تظهر أن كثيراً من المبادرات الإصلاحية تتعثر حين تصطدم بالبيروقراطية أو غياب التنسيق بين الجهات المعنية لذا لا بد أن يكون تطوير منظومة التصدير مشروعا شاملا تشارك فيه كل الجهات من الجمارك والموانئ إلى البنوك والجهات الرقابية تحت إدارة موحدة ورؤية رقمية متكاملة وفي المحصلة يعكس هذا التوجه تحولاً في فلسفة الإدارة الاقتصادية للدولة من إدارة تقليدية إلى إدارة تعتمد على البيانات والرقمنة والتكامل المؤسسي ويمكن القول إنه مشروع لإعادة بناء الثقة بين الدولة والقطاع الخاص وتأكيد أن التصدير لم يعد مسئولية فردية بل قضية وطنية تمس قدرة الاقتصاد على تحقيق النمو المستدام وإذا كان الاستيراد هو بوابة دخول السلع إلى البلاد فإن التصدير هو بوابة خروج القيمة المضافة المصرية إلى العالم والموازنة بينهما هي التي تصنع اقتصادا متوازنا وقادرا على الصمود في وجه الأزمات.