ملك من طراز خاص، جمع بين قوة المحارب، وحكمة الدبلوماسي، وعبقرية المعماري، وحكم مصر لأكثر من ستة عقود في واحدة من أزهى فترات تاريخها، وترك بصمة لا تنسى في السياسة، والعمران، والدين، وهو الملك الذي خلد اسمه في المعابد، وتعامدت عليه الشمس في مشهدٍ فلكي لا يزال يُبهر العالم حتى اليوم، لُقِّب بـ«الجد الأعظم» والذي ظل اسمه مرادفًا للعظمة آلاف السنين، إنه الملك رمسيس الثاني.
تولى «رمسيس» الحكم شابًا في العشرينيات من عمره عام 1279 ق.م، ليُحوّل مصر إلى إمبراطورية لا تُقهر، وقاد جيشًا من 100 ألف مقاتل، وخاض معارك أسطورية أشهرها معركة «قادش» ضد الحيثيين، ثم أبرم أول معاهدة سلام في التاريخ عام 1258 ق.م، ليؤكد أنه محارب شجاع ودبلوماسي حكيم في آنٍ واحد.
ولم يكن سيف رمسيس الثاني هو السلاح الوحيد الذي غيّر به وجه التاريخ، فقد كان أعظم بنّاء عرفته مصر القديمة، أقام من المعابد والمعالم ما يفوق أي فرعون آخر: الرامسيوم في طيبة، معابد الكرنك والأقصر، المسلات الشاهقة، ومدينة «بي رمسيس» في الدلتا، وفوق كل ذلك، نحت في صخور النوبة تحفته الخالدة - معبد أبو سمبل - حيث تحرس أربعة تماثيل عملاقة له المدخل، كل منها يعلو 20 مترًا، في مشهدٍ يخطف الأنفاس ويُخلّد عظمته إلى الأبد.
احتفل «رمسيس» بأربعة عشر عيدًا للتجديد الملكي، وأنجب أكثر من مئة ولد وبنت، وحكم مصر حتى شيخوخته، وعندما رحل عن عالمنا، ترك إرثًا لا يُمحى: حضارة في أوج قوتها، آثارًا تتحدى الزمن، واسمًا محفورًا في ذاكرة الإنسانية كرمزٍ للعظمة والخلود.
واليوم، بعد أكثر من 3,200 عام، لا تزال مومياء «رمسيس الثاني» تستقبل الزوار في المتحف القومي للحضارة المصرية، ولا تزال آثاره تُبهر العالم، ولا يزال اسمه يتردد كلما ذُكرت العظمة والمجد.
تعامد الشمس على وجه رمسيس
وفي لحظةٍ تتوقف فيها عقارب الزمن إجلالًا لعظمة الماضي، وتنحني فيها السماء تقديرًا لمجد الحضارة المصرية القديمة، تخترق أشعة الشمس الذهبية أعماق الصخر لتُضيء وجه الفرعون الخالد «رمسيس الثاني»، في ظاهرةٍ فلكيةٍ تتكرر مرتين فقط في العام، وكأنها موعدٌ أزليٌّ بين السماء والأرض، بين الإله «رع» والملك الذي حمل اسمه في قلب لقبه الملكي.
وتشهد مصر والعالم كله ظاهرة طبيعية متفردة، لتؤكد رسالةٌ محفورةٌ في الحجر منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، تُذكِّرنا بأن المصريين القدماء لم يكونوا مجرد بُناة معابد، لكنهم مهندسي الكون، يُسخِّرون حركة النجوم والكواكب لتخليد ملوكهم في معادلةٍ هندسيةٍ فلكيةٍ تُبهر العقول حتى اليوم.
رمسيس الثاني.. أعظم حكام الإمبراطورية المصرية
حكم رمسيس الثاني مصر لمدة 67 عامًا (1279-1213 ق.م)، وهو ثالث فراعنة الأسرة التاسعة عشرة وأحد أعظم حكام الإمبراطورية المصرية على الإطلاق، نُصِّب وليًا للعهد وهو في الرابعة عشرة من عمره، وتولى الحكم في أوائل العشرينيات من عمره، ليقود مصر خلال عصرٍ ذهبيٍّ من القوة العسكرية والازدهار الثقافي والعمراني الهائل.
عاش رمسيس حوالي 90 عامًا، واحتفل بأربعة عشر عيد «سِد» (عيد التجديد الملكي)، متفوقًا بذلك على أي فرعون آخر في التاريخ المصري القديم، لُقِّب بـ«الجد الأعظم» من قبل خلفائه، وظل اسمه رمزًا للقوة والمجد لآلاف السنين.
الفاتح والمحارب
قاد رمسيس الثاني حملاتٍ عسكريةٍ إلى بلاد الشام والنوبة وليبيا، وخاض معركة قادش الشهيرة عام 1274 قبل الميلاد، ضد الحيثيين - إحدى أعظم المعارك في التاريخ القديم.،
وبعد سنواتٍ من الصراع، أبرم رمسيس الثاني أول معاهدة سلام في التاريخ مع الملك الحيثي خاتوشيلي الثالث عام 1258 ق.م، مُظهرًا براعته الدبلوماسية إلى جانب قوته العسكرية، وبلغ الجيش المصري في عهده حوالي 100,000 مقاتل - قوةٌ هائلةٌ استخدمها لتوسيع نفوذ مصر وحماية حدودها.
رمسيس الثاني البنّاء الأعظم
لم يترك أي فرعون آثارًا بكميةٍ وضخامةٍ تُضاهي ما تركه رمسيس الثاني، من الرامسيوم في طيبة إلى مدينة «بي رمسيس» في الدلتا، من معابد الكرنك والأقصر إلى التحفة الخالدة - معبد أبو سمبل - كل حجرٍ نُقش عليه اسمه يروي حكاية مجدٍ لا يُمحى.
أقام المسلات الشاهقة (إحداها في ميدان الكونكورد ب«باريس» مدينة النور اليوم)، وبنى المعابد المهيبة، ونحت التماثيل الجبارة التي لا تزال تُبهر العالم بعد أكثر من 3,200 عام.
معبد أبو سمبل.. تحفة العمارة والفلك
المعبد الكبير: عرش الآلهة.. منحوتٌ في قلب الجبل على الضفة الغربية لنهر النيل في النوبة، يقف معبد أبو سمبل الكبير شاهدًا على عظمة الحضارة المصرية، وتحرس مدخله أربعة تماثيل عملاقة لرمسيس الثاني جالسًا، يصل ارتفاع كل منها إلى أكثر من 20 مترًا، في مشهدٍ يُخطف الأبصار ويُذهل العقول.
بُني المعبد تخليدًا لذكرى انتصار رمسيس في معركة قادش، وكُرِّس لعبادة الإله آمون-رع إله الشمس، ورع-حور آختي، وبتاح إله الحِرَف، إلى جانب رمسيس الثاني المُؤلَّه.
المعبد الصغير.. حب يتحدى الزمن
بجوار المعبد الكبير، نحت «رمسيس» معبدًا أصغر كرَّسه لزوجته المحبوبة الملكة نفرتاري والإلهة «حتحور»، تُزيِّن واجهة المعبد ستة تماثيل ضخمة، منها أربعة لرمسيس واثنان لنفرتاري، يصل ارتفاع كلٍّ منها إلى حوالي 10 أمتار - وهو تكريمٌ نادرٌ يُظهر المكانة الاستثنائية التي تمتعت بها الملكة.
إنقاذ الخلود
في ستينيات القرن العشرين، هدد بناء السد العالي بإغراق هذه التحفة الفنية تحت مياه بحيرة ناصر، لكن في واحدةٍ من أعظم عمليات الإنقاذ الأثرية في التاريخ، قامت منظمة اليونسكو والحكومة المصرية بنقل المعبدين بالكامل إلى موقعٍ يعلو 64 مترًا ويبعد 180 مترًا عن مكانهما الأصلي، في عمليةٍ هندسيةٍ معقدةٍ استغرقت سنوات وحافظت على سر التعامد الشمسي العجيب.
ظاهرة التعامد الشمسي.. معجزة الهندسة والفلك
مرتان في كل عام - في 22 فبراير و22 أكتوبر، تخترق أشعة الشمس عند شروقها ممر المعبد الذي يمتد لأكثر من 60 مترًا في عمق الجبل، لتُضيء قدس الأقداس في نهاية المعبد، حيث تجلس أربعة تماثيل منحوتة في الصخر: آمون-رع، رع-حور آختي، رمسيس الثاني المُؤلَّه، و«بتاح».
لمدة 20 دقيقة فقط، تُضيء الشمس وجوه الآلهة الثلاثة الأولى، بينما يبقى تمثال «بتاح»- إله الظلام والعالم السفلي - في الظل، في دقةٍ فلكيةٍ وهندسيةٍ تُثير الدهشة حتى اليوم.
وعلماء المصريات أقروا أن التاريخين يُمثلان: 22 فبراير: ذكرى ميلاد رمسيس الثاني أو يوم تتويجه، 22 أكتوبر: ذكرى تتويجه أو حدثٍ مهمٍ آخر في حياته.
وهذا التعامد ليس مصادفة، لكنه نتيجة حساباتٍ فلكيةٍ دقيقةٍ أجراها الكهنة والمهندسون المصريون القدماء، الذين صمموا المعبد بزاويةٍ وموقعٍ محددين ليتزامن مع حركة الشمس في هذين اليومين بالتحديد.
مرحلة ما بعد النقل
وبعد نقل المعبد في الستينيات، تغيَّر موعد التعامد ليصبح يومًا واحدًا متأخرًا (23 فبراير و23 أكتوبر)، بسبب التغيير الطفيف في الموقع الجغرافي والارتفاع، لكن الظاهرة ما زالت تحدث بالروعة والدقة نفسها.
شهادات الزوار والخبراء .. لقاء مع الخلود
يتوافد آلاف السياح والعلماء والباحثين من جميع أنحاء العالم، لمشاهدة هذه اللحظة الفريدة، والتي يصفها الزوار بأنها «تجربةٌ روحيةٌ» و«رحلةٌ عبر الزمن» و«لقاءٌ مع الخلود».
يقول علماء الآثار إن هذه الظاهرة تُمثل قمة المعرفة العلمية والدينية في مصر القديمة، حيث دمج المصريون علم الفلك بالعمارة بالدين في تناغمٍ مثاليٍّ لم تشهد البشرية له مثيلًا في ذلك العصر.
رمسيس الثاني: إرث لا يموت لحضارة خالدة
توفي رمسيس الثاني عن عمرٍ يُناهز 90 عامًا، ودُفن في مقبرةٍ في «وادي الملوك»، نُقلت مومياؤه لاحقًا إلى الخبيئة الملكية حيث اكتُشفت عام 1881م، وهي الآن معروضةٌ في المتحف القومي للحضارة المصرية بالقاهرة.
وأنجب رمسيس أكثر من 100 ولد وبنت من زوجاتٍ عدّة، وخلفه على العرش ابنه الثالث عشر «مرنبتاح» بعد أن توفي معظم أبنائه الأوائل في حياته، ومنهم «خعمواس» الابن المفضل الذي كان مُرشحًا لولاية العهد.
تمثال رمسيس الثاني ونقله لمقره الأخير
وتم نقل تمثال رمسيس الثاني هذا الشاهد بقوة على رحلة هذا الملك الخالد في بداية عقد الخمسينيات بالقرن الماضي، ووضع بأشهر ميادين القاهرة (ميدان باب الحديد) الذي تغير اسمه إلى «ميدان رمسيس»، وفي 25 أغسطس عام 2006م تم نقله من ميدانه الشهير الذي يقع في وسط القاهرة أمام محطة السكة الحديد وتم وضعه في منطقة الأهرامات بمحافظة الجيزة لإجراء الترميمات عليه لمدة عام ولحين الانتهاء من إنشاء المتحف المصري الكبير.
ويقف الآن تمثال «رمسيس الثاني» الملك الخالد شامخًا في بهو المتحف المصري الكبير ليستقبل الزوار عند المدخل الرئيس، بارتفاعه المهيب الذي يصل إلى 11 مترًا ووزنه الذي يناهز 80 طنا، ليؤكد على عظمة المصري القديم الذي قاد مصر قبل أكثر من ثلاثة آلاف ومئتي عام وينتظر زوراه من كل العالم في افتتاح المتحف المصري الكبير هذا الحدث الجلل في مطلع نوفمبر المقبل لعامنا 2025.
إرث خالد يتحدى الزمن
وفي الختام نؤكد ونشهد دوما ما حيينا، ومن بعدنا الجميع، أنه عندما تتعامد الشمس على وجه رمسيس الثاني في معبد أبو سمبل، فإنها لا تُضيء مجرد حجرٍ منحوت، بل تُضيء حضارةً عظيمةً، وعبقريةً إنسانيةً، وإرثًا خالدًا يتحدى الزمن.
إنها لحظة تذكرنا بأن مصر وطننا الغالي ليست مجرد بلد، لكنها ستبقى دومًا هي مهد الحضارة الإنسانية، وأن رمسيس الثاني ليس مجرد ملكٍ من ملوك التاريخ، لكنه رمزٌ للعظمة والخلود، وسيبقى وفي كل عامٍ، عندما تُقبِّل أشعة الشمس جبين الفرعون الأكبر، تُولد الأسطورة من جديد، وتُروى الحكاية مرةً أخرى، حكاية أعظم حضارةٍ عرفتها البشرية.