زرت المتحف المصري الكبير ثلاث مرات قبل افتتاحه رسمياً مع أصدقاء أجانب يعملون في مناصب قيادية ثقافية وتعليمية، وكل مرة كنت أقف مبهورًا ومزهوا أمام الواجهة المهيبة للمتحف المصري الكبير عند هضبة الأهرامات. لم أشاهده كمبنى أثري ضخم، بل اختزالًا بصريًا لخمسة آلاف عام من التاريخ الإنساني. إنه ليس مجرد فضاء عرضٍ أو مخزنًا آمنًا للمقتنيات الأثرية، بل مشروعٌ ثقافي ووطني ووَسَطيّ بين الماضي والمستقبل، يترجم طموحًا مصريًا لتقديم حضارته للعالم بطريقة علمية ومتحفية معاصرة. تتقاطع في هذا الصرح عناصر متعددة: الإرث التاريخي، الإبداع المعماري، التكنولوجيا المتطورة، والرؤية الثقافية التي جعلت من المتحف مركزًا للبحث والترميم والتعليم والسياحة الثقافية.
فكرة المتحف المصري الكبير ليست وليدة اليوم، بل نمت عبر عقودٍ من النقاش والتخطيط، وتحولت إلى مشروعٍ رسمي طموح يهدف إلى توحيد مجموعاتٍ أثرية هائلة كانت موزعة في عدة متاحف ومخازن. يقدّم المتحف رؤية شاملة لعرض التاريخ المصري، من عصور ما قبل الأسرات وحتى الحقبة الرومانية، بما يُسهِّل تقديم سردٍ متكاملٍ للزائرين والباحثين. لا يقتصر دور المتحف على العرض فقط، بل يمتد إلى إنشاء معامل ترميم وبحوث تؤمِّن التعامل العلمي مع الآثار، واستخدام تقنيات التحليل الرقمية والطيفية للحفاظ عليها وفهمها بصورةٍ أدق.
الحيّز المتحفي الداخلي صُمم بأسلوب يهدف إلى إشراك الزائر في رحلة زمنية؛ فالترتيب الموضوعي، والإضاءة الطبيعية المهيأة، والوسائط السمعية والبصرية، كل ذلك يصنع تجربة معرفية وحسية تتيح قراءةً معقدة للوقت والتاريخ. بهذا يصبح المتحف منصةً تعليمية، ومركزًا بحثيًا، ومقصدًا سياحيًا ثقافيًا، يربط بين التعليم الأكاديمي واللقاء الجماهيري.
لماذا يهمُّ العالمُ بهذا المتحف؟
أولًا، لأن المتحف المصري الكبير يضمّ كنوزًا لا مثيل لها على مستوى العالم. من أبرزها مجموعة توت عنخ آمون — التي تُعد واحدة من أغنى المجموعات الملكية المكتشفة — والتي تُعرض لأول مرة في سياقٍ متحفي موحَّدٍ يتيح للباحث وعامة الجمهور قراءةً متكاملة لحياةٍ وطقوسٍ وموتٍ. عرضُ هذه المقتنيات في موطنها يُعيد قراءة المادة الأثرية ضمن سياقها الحضاري الطبيعي، ويمنح الجمهور فرصة التأمل في قصة حضارةٍ كانت رائدةً في مجالاتٍ متعددة مثل العمارة، والفن، والسياسات الرمزية.
ثانيًا، لأن المتحف سيعمل كمركزٍ عالمي للتعاون العلمي بين المؤسسات الأثرية والمتحفية حول العالم. المختبرات العلمية، وقواعد البيانات الرقمية، ومشروعات التوثيق ثلاثي الأبعاد يمكن أن تتحوّل إلى بنيةٍ تحتيةٍ علمية يستخدمها باحثون دوليون لدراسة القضايا الكبرى مثل تطور الحضارة المصرية، والتبادل الثقافي مع الشرق الأدنى القديم، وتقنيات التصوير والترميم الحديثة.
ثالثًا، يمتلك المتحف بعدًا دبلوماسيًا وثقافيًا. فالمتاحف الكبرى تاريخيًا هي منابر تأثيرٍ ثقافي «ناعمة» — تعبر من خلالها الدول عن ثقتها الحضارية وقدرتها على إدارة تراثها. وجود متحفٍ بهذا الحجم يعزّز من مكانة مصر كفاعلٍ ثقافي إقليمي ودولي، ويتيح فرصًا للتعاون الثقافي، للمعارض المشتركة، ولبرامج التبادل الأكاديمي والفني.
لا يقتصر تأثير المتحف على المجال الثقافي فقط؛ إذ يفتح آفاقًا اقتصادية عبر تنمية قطاع السياحة الثقافية، وخلق فرص عملٍ في مجالات التشغيل المتحفي، والإرشاد السياحي، والحرف اليدوية، وإدارة الفعاليات. إلى جانب إدماجه في خارطة التنمية، يمكن أن يسهم المتحف في تجديد الحرف التقليدية المحلية عبر برامج تعاونٍ مع الحرفيين وصانعي المنتجات الثقافية.
كما أن تشغيل برامج تعليمية للشباب والمدارس والجامعات سينتج عنه جيلٌ مثقفٌ أكثر وعيًا بتاريخ بلده، ما ينعكس إيجابًا على الاندماج الاجتماعي والهوية الوطنية. وهنا ينسجم المتحف مع أهداف التنمية المستدامة التي تربط الثقافة بالاقتصاد والاجتماع والبيئة.
العمارة في المتحف لا تتعامل مع المادة فحسب، بل مع المشهد العام وفي مقدمته الأهرامات. فالتصميم، الذي سعى إلى أن يكون امتدادًا بصريًا لمنظر الهضبة، يتيح للحوار بين الحجر القديم والواجهات الحديثة أن يحدث بشكلٍ لا يمسّ قدسية المكان، بل يعيد تأويلها. الفضاءات الواسعة، وساحات العرض المفتوحة، وغرف العرض المحكمة، كل ذلك يسهم في خلق تجربة متحفٍ عصري لا تُخفي روحانية المواقع التاريخية بل تؤكِّد عليها.
لا يمكن قراءة مسيرة المشروع دون الاعتراف بالدور البارز الذي لعبه الفنان والسياسي فاروق حسني. بصفته وزيرًا للثقافة لسنواتٍ طويلة، حمل حسني رؤيةً مفادها أن الثقافة والتراث يجب أن يكونا في قلب خطة الدولة للتحديث والتفاعل مع العالم. تبنّى المشروع، ودافع عنه، ونجح في حشد دعمٍ حكومي ودولي له. كما وضع رؤيةً واضحة لتحويل المتحف إلى منصةٍ متعدّدة الاستخدامات: بحثية، تعليمية، وسياحية. فاروق حسني لم يرَ المتحف كإنجازٍ إنشائي فحسب، بل كاستثمارٍ معرفي وثقافي طويل الأمد يعزز الهوية الوطنية ويضع مصر في موقعٍ قيادي عالمي.
رغم العظمة، لا يخلو المشروع من تحدّياتٍ حقيقية: إدارة عمليات الحفظ لمجموعاتٍ ضخمة، المحافظة على معايير العرض والترميم، تأمين تمويلٍ مستدامٍ للعمليات التشغيلية، وتدريب الكفاءات المحلية على أحدث الممارسات المتحفية. كما ثمة تحدٍّ في جعل المتحف فضاءً حيًا متجددًا يُجذب الجمهور المحلي بصورةٍ مستمرة وليس فقط الزائر الدولي. يتطلب ذلك برامجَ ثقافيةً مدروسة، وتعاونًا مع الجامعات، ومشروعات شراكةٍ مع القطاع الخاص.
الطريقة الأمثل لضمان استدامة المتحف هي تحويله إلى منظومةٍ متكاملة تشمل البحث، والتعليم، والسياحة، والصناعات الثقافية. ذلك يستلزم سياساتِ إدارةٍ رصينة، وشراكاتٍ دوليةٍ ذكية، ومشروعاتٍ محلية تُشرك المجتمع المدني. المتحف هنا لا ينبغي أن يكون حصنًا للنخبة، بل بيتًا ثقافيًا للجميع: مدارس، وجامعات، وفنانين، وباحثين، وزوارٍ يبحثون عن معرفةٍ وجمال.
المتحف المصري الكبير هو أكثر من مبنى؛ إنه رسالةٌ حضارية تقول إن مصر لا تزال تقدم للعالم ما يستحق من عرضٍ متحفي متميز. إنه تحدٍّ إداري ومعرفي، لكنه أيضًا فرصةٌ تاريخية لإعادة ربط المجتمع المصري بتراثه، وربط العالم بالحقيقة التاريخية في موطنها. وبجهود روّاد الفكر والثقافة، يتأتى للمشروع أن يكون علامةً فارقة في مسيرة الثقافة المصرية المعاصرة — ليس فقط كحارسٍ للزمن، بل كحاضنةٍ للإبداع والمعرفة، وبوابةٍ حقيقية للعالم لقراءة تاريخٍ غنيٍّ بمعانيه ورسائله.