يتزامن افتتاح المتحف المصري الكبير مع فوز المرشح المصري د. خالد العناني – وزير السياحة والآثار الأسبق – بمنصب مدير عام منظمة اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة) في باريس، كأول مصري وعربي، وثاني شخصية أفريقية، تفوز بهذا المنصب الرفيع، منذ تأسيس المنظمة عام 1945.
ولا نستطيع أن نفصلَ الحدثين عن بعضهما البعض ذلك أن منظمة اليونسكو قد شاركت بطريقة أو بأخرى في تأسيس أو إنشاء المتحف المصري الكبير، حيث أعلنت الدولة المصرية في عام 2002، وتحت رعاية منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) والاتحاد الدولي للمهندسين المعماريين، عن مسابقة معمارية دولية لأفضل تصميم للمتحف، وقد فاز التصميم المُقدم من شركة هينغهان بنغ للمهندسين المعماريين بأيرلندا، والذي اعتمد تصميمه على أن تُمثل أشعة الشمس الممتدة من قمم الأهرامات الثلاثة عند التقائها كتلة مخروطية هي المتحف المصري الكبير.
ولا شك أن المتحف المصري الكبير كان حلمًا من أحلام الشعب المصري، استطاع أن يجسده ويبلوره الوزير الفنان فاروق حسني في تسعينيات القرن الماضي، وعرضه على الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك، فوافق على الفور، وتم البدءُ في بناء مشروع المتحف في مايو 2005، حيث تم تمهيد الموقع وتجهيزه. وفي عام 2006، أُنشئ أكبر مركز لترميم الآثار بالشرق الأوسط، خُصص لترميم وحفظ وصيانة وتأهيل القطع الأثرية المُقرر عرضها بقاعات المتحف.
وأعتقد أن مشروع المتحف المصري الكبير لا يقل أهمية عن مشروع السد العالي الذي قال عنه الشاعر عزيز أباظة (كان حُلماً فخَاطِراً فاحتِمَالاً ثمَّ أضحَى حقِيقةً لا خيَالَاً) وهكذا كان المتحف المصري الكبير الذي انتظر الملايين من المصريين – وغير المصريين - يوم افتتاحه ليشاهدوا تاريخًا قديمًا لا يزال ينبض بالحياة والعظمة والكبرياء والثقافة والتنوع الحضاري على مدى آلاف السنين.
إن المتحف المصري الكبير الذي يستوعب زيارة أكثر من 5 ملايين زائر سنويا، يقع على مساحة 500 ألف متر مربع أو 117 فدانًا، ويضم أكثر من 100 ألف قطعة أثرية من العصور الفرعونية، أو المصرية القديمة، واليونانية والرومانية. وتشغل مساحة المباني 100 ألف متر مربع من المساحة الإجمالية، وتشتمل هذه المباني على مكتبة متخصِّصة في علم المصريات، ومركز للمؤتمرات، ومركز أبحاث، ومعامل ترميم بلغت 19 معملا، منها معمل أخشاب، ومعمل خزف وزجاج ومعادن، ومعمل أحجار، ومعمل ميكروبيولوجي، ومعمل ميكروسكوب إلكتروني، ومعمل مومياوات، وغيرها من المعامل. كما تضمُّ المباني سينما ثلاثية الأبعاد، ومسرحًا، وفندقًا، ومتحفًا للطفل، بالإضافة إلى مباني الخدمات التجارية والترفيهية والمطاعم والمقاهي والحديقة المتحفية.
لقد زرتُ من قبل عددًا من المتاحف في العالم مثل متحف اللوفر في باريس، والمتحف البريطاني في لندن، وبعض متاحفنا المصرية بالداخل مثل المتحف المصري بميدان التحرير، والمتحف القومي للحضارة المصرية بالفسطاط، ومتحف الفن الإسلامي، والمتحف القبطي بالقاهرة، والمتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية، ومتحف الإسكندرية القومي، ومتحف النوبة في أسوان، وغيرها من المتاحف. ولكن الأمر يختلف مع المتحف المصري الكبير الذي يُعد أكبر متحف في العالم متخصص لحضارة واحدة، هي الحضارة المصرية القديمة.
ومنذ أن تناهى إلى سمعي خبر إنشاء متحفٍ مصري كبير إلا وحلمتُ بأن يكون هذا المتحف أكبر من متحف اللوفر وأوسع من المتحف البريطاني، ذلك أن آثار مصر، أو قطعها الأثرية التي أراها معروضة ومكدَّسة في العديد من الأماكن داخل مصر وخارجها، تؤكد حاجتنا لمساحات متحفية شاسعة لعرض مثل هذه القطع الكثيرة والتي أعتقد أن المخزون منها حتى الآن، أكثر من المعروض بكثير.
هل الأمر يتعلق فقط برؤية القطع الأثرية معروضةً بالمتاحف، أم يجب العودة إلى قراءة تاريخنا المصري القديم وفهم حقيقته، خاصة بعد أن نجح عالم الآثار الفرنسي جان فرانسوا شامبليون (1790 – 1832) في فك رموز حجر رشيد عام 1822، وبعد أن وضع علماء الحملة الفرنسية على مصر (1798 – 2001) كتابهم الكبير "وصف مصر".
في حقيقة الأمر أنه منذ أن بدأت عمليات فكِّ طلاسم اللغات المصرية القديمة، وخاصة الهيروغليفية والديموطيقية، إلا وانفتحت أمامنا أبواب كثيرة لمعرفة الكثير عن التاريخ المصري القديم. وبدأ تأسيس ما يعرف باسم "علم المصريات" Egyptology، (الذي يعد د. خالد العناني أحد أساتذته في جامعة حلوان) فبدأ علماء التاريخ والآثار في العالم الاهتمام بالتاريخ المصري، ربما بطريقة أكثر من اهتمام المصريين أنفسهم به، وبدأت حركة التأليف والترجمة والنشر تتزايد في هذا الاتجاه.
وقد لاحظ كاتبنا الكبير نجيب محفوظ (1911 – 2006) أن التاريخ المصري القديم تاريخ مبعثر، وقال: "أدركتُ أن الحضارة الفرعونية تاريخ مبعثر، كل يوم اكتشافات، ممكن يطلع اكتشاف يغير كل شيء، مما يعني أنه تاريخ غير ثابت"، لكنه كان يدرك أن حضارة مصر كانت أقدم وأعرق من حضارة كل من غزاها.
وقد اهتم محفوظ بهذا التاريخ ووضع عنه ثلاث روايات في بداية حياته الروائية وهي: عبث الأقدار، ورادوبيس، وكفاح طيبة. وقبلها ترجم كتاب "مصر القديمة" للكاتب البريطاني جيمس بيكي (1866 – 1931) عام 1932. الذي قال: "في الوقت الذي كانت بريطانيا جزيرة مجهولة مسكونة بالمتوحشين والهمج .. كانت مصر أمة متمدينة كثيرة المدن العظيمة، عديدة المعابد والهياكل والقصور، وكان سكانها من أعقل الرجال وأعظمهم علمًا".
ولعل وجود المتحف المصري الكبير يثبت – بما لا يدع مجالا للشك – صحة مقولة هذا الكاتب البريطاني، الذي لم تقتصر مؤلفاته على كتاب "مصر القديمة" فحسب، ولكن له كتب أخرى مشهورة منها: "عصر العمارنة"، و"حياة الشرق القديم"، و"الحفريات الأثرية في أرض الفراعنة"، و"قصة الفراعنة"، وغيرها من الكتب في المصريات والفلك.
إن فكرة البحث في تاريخ مصر القديمة، والكتابة عنها، شغلت الكثيرين في العالم، كما شغلت الكثيرين في مصر، وقد اجتذبت شخصية أخناتون ودعوته للتوحيد الكثيرين من المفكرين والأدباء والمثقفين وعلماء الدين في العالم، وربما يعد أخناتون من أكثر ملوك مصر القديمة الذين تم تناولهم أدبيًّا وفلسفيًّا وفكريًّا ودينيًّا، فقد كتب عنه نجيب محفوظ روايته "العائش في الحقيقة"، كما تناوله – مرة أخرى - في كتابه "أمام العرش" وفي بعض قصصه القصيرة في مجموعة "همس الجنون"، كما كتب عنه عادل كامل روايته "ملك من شعاع"، وكتب عنه محمد المنسي قنديل روايته "يومٌ غائم في البر الغربي"، وكتب عنه الروائي الأردني صبحي فحماوي روايته "أخناتون ونفرتيتي الكنعانية"، وكتبتْ عنه الكاتبة الإنجليزية أجاثا كريستي مسرحيتها "أخناتون" التي صدرت مترجمة عن دار الهلال بالقاهرة، وكتب عنه الشاعر أحمد سويلم مسرحيته الشعرية "أخناتون"، وكتب عنه الشاعر علي أحمد باكثير مسرحيته الشعرية "أخناتون ونفرتيتي". وكتب مهدي بندق مسرحية "آخر أيام أخناتون"، وكتب السيد حافظ مسرحية "ليلة اختفاء أخناتون" ورواية "قهوة سادة قهوة زيادة". وكتب عنه الكاتب الأقصري بكري عبدالحميد روايته للأولاد والبنات "أخناتون فرعون التوحيد". وكتب عنه أحمد عثمان كتابه "غريب في وادي الملوك"، كما كتب عبدالمنعم أبوبكر كتابه "أخناتون" الذي صدر عن سلسلة المكتبة الثقافية عام 1961. وكتب عالم المصريات الألماني إريك هورنونج كتابه "أخناتون وديانة النور"، وهناك بحث إيمان شمخي جابر المرعي "عقيدة آتون في الفكر الأخناتوني المميزات والصفات والأناشيد”, وكتب عنه الروائي الفرنسي من أصل مصري جيلبرت سينويه رواية "أخناتون الإله اللعين"، ترجمة عبدالسلام المودني، وفي تقديم الرواية نقرأ: "يعد الانكباب على سيرة أخناتون تحديًّا كبيرًا ومغامرة حقيقية، فالأعمال المتخصصة الكثيرة التي تناولته، جعلتنا إزاء حقيقة لا مراء فيها، وهي أننا نعرف الشيء القليل فقط عنه، وحتى هذا النزر الذي وصلنا عن أخناتون، يبقى مثار نقاش وجدال واسعين في صفوف المتخصصين، وكل محاولة مشابهة هي بمثابة مجابهة لغز محير، عدا بعض الاستثناءات القليلة ..".
وكتب عنه د. محمد بيومي مهران كتاب "اخناتون: عصره ودعوته"، وكتب عالم الآثار د. حسين عبد البصير كتابًا صغيرًا للنشء والشباب بعنوان "أخناتون الملك الفيلسوف"، وكتب د. خالد عاشور "أخناتون في الأدب"، وكتب د. سيد كريم كتابًا بعنوان "أخناتون" ذهب فيه إلى أن أخناتون يُعد حفيدًا للنبي يوسف عليه السلام من ناحية الأم. فأثار جدلا واسعًا. كما كتب عالم المصريات الإنجليزي سيريل ألدريد كتابًا بعنوان "أخناتون". وعن "أخناتون واختراع التوحيد" كتب عالم الاجتماع الألماني فرانتس ماشيفيسكي ترجمة أيمن شرف. كما كتب الكاتب البريطاني آرثر إدوارد بيرس ويجال كتابًا بعنوان "حياة وعصر إخناتون". وغير ذلك من الكتب العربية والأجنبية التي كُتبت عن هذا الملك المصري المثير للجدل حتى الآن، منها ما وصل إلينا، ومنها ما لم يصل بعد.
ولم يكن أخناتون وحده المثير للجدل في تاريخ مصر القديمة، أو مصر الفرعونية، ولكن هناك عشرات الملوك الآخرين في حضارة مصر القديمة يجذبون الاهتمام ويتوقف علماء المصريات عندهم، لعل من أشهرهم "توت عنخ آمون" الذي كان اسمه عند الولادة "توت عنخ آتون"، وقيل إنه ابن الملك أخناتون من زوجة أخرى، وليس من زوجته نفرتيتي (الجميلة التي أتت) والتي بدورها تُعد علامة غامضة أخرى في التاريخ المصري القديم، وقد قيل إنه عندما توفي زوجها الملك أخناتون أرسلت خطابًا إلى ملك خيتي (الأناضول أو تركيا الآن) "شوبيليوليوما" تطلب منه أن يرسل إليها أحد الأمراء من أولاده ليكون بجانبها زوجًا لها، وليتولى عرش مصر؛ معلِّلة ذلك بقولها: "زوجي مات وليس لدي ابن" (أنجبتْ ست بنات)، وتطلب منه أن يرسل أحد أبنائه ليتزوجها ويتولَّى عرش مصر. وكتبتْ ما نصُّه: "مات زوجي، وليس لدي ابن. لكنهم يقولون: لديكَ أبناءٌ كثيرون. إذا أرسلت لي أحد أبنائك، فسيصبح زوجي. لا أريد أن آخذ خادمًا لي وأجعله زوجي. أنا خائفة! لم أكتب إلى أي أرض أخرى، بل كتبتُ إليكَ! يقولون إن لديك أبناءً كثيرين: أعطني أحدهم؛ سيكون لي زوجًا، وفي أرض مصر سيكون ملكًا!".
وعندما سمع شوبيليوليوما هذا، استدعى كبار رجاله للمشورة (قائلا): "لم يحدث لي مثل هذا من قبل!". ثم استجاب الملك شوبيليوليوما لهذه الدعوة، وأرسل بالفعل أحد أبنائه، هو الأمير زينانزا، الذي لم يكد يصل على مقربة من الحدود المصرية حتى داهمه بعض المصريين وقتلوه، وقضوا على تلك المؤامرة أو الخيانة العظمي لمصر. مما آثار غضب والده فهاجم القوات المصرية في منطقة أمكي التي وصل إليها النفوذ المصري (جزء منها يقع في لبنان، وجزء آخر خارجه). في حين أن هذا التصرف من نفرتيتي كان بمثابة صفعة دنيئة على وجه مصر والمصريين. وقد صمتت الآثار المصرية عن هذا الحادث، ولم تذكره وثيقة ما. ولكنه ورد في إحدى الوثائق الحيثية التي عثر عليها في أطلال بوغاز كوي (العاصمة القديمة لدولة الحيثيين)، والذي قام بتسجيله الملك مورسيل الثاني ابن شوبيليوليوما الذي أكَّد المحتوى نفسه. والغريب أن الملكة نفرتيتي تختفي عند هذه النقطة من مسرح التاريخ، ولا يُسمع عنها شيء بعد ذلك، ولا نعلم كيف كانت نهايتها، وأين دُفنت؟ وقد كتبت الروائية صوفي عبدالله (1925 – 2003) كتابًا عن نفرتيتي حمل عنوان "ربَّة الجمال والتاج"، وصدر عن سلسلة "كتاب الهلال" مايو 1952، وحمل الرقم 13 في السلسلة. وكتب عنها الكاتب السعودي سلطان موسى الموسى رواية بعنوان "المرأة الكاملة".
فهل سيسمح المتحف المصري الكبير المتخصص في حضارة واحدة أن يسهم في تطوير علم المصريات، للوقوف على بعض الحقائق التاريخية التي وقف أمامها المؤرخون عاجزين عن إثبات صحتها أو خطئها، ومنها حقيقة الملكة نفرتيتي نفسها التي شغلت الدنيا، ولفتت انتباه الناس، وهل هي مصرية أم ميتانية أم كنعانية أم خيتية؟ وهل فعلا أرسلت طلبًا للزواج من أحد أبناء الملك الخيتي؟.
لا شك أن وجود المتحف المصري الكبير في حياتنا سيكون حافزًا على البحث والدراسة والتمحيص والترجمة والغوص أكثر في علم المصريات، ربما نستطيع أن نحسم بعض الحقائق المتعلقة بالحضارة المصرية القديمة والتاريخ المصري القديم الذي قال عنه محفوظ إنه "تاريخ مبعثر".