تضم القاهرة، عاصمة مصر لأكثر من ألف عام، عددًا كبيرًا من الشوارع والميادين التاريخية التي يعود تاريخها إلى قرون وتعد هذه الأماكن مقصدًا للعديد من السياح، لما تحمله من طابع جمالي وأهمية ثقافية وتاريخية، مما يجعلها من أبرز معالم القاهرة السياحية والتاريخية.
هذه الشوارع التاريخية ليست مجرد معابر، بل تحكي حكايات ملوك ومفكرين وفنانين، ويقصدها الزوار من داخل مصر وخارجها للاستمتاع بجمالها وعبقها التراثي، فهي من أبرز معالم القاهرة، تجمع بين سحر الماضي ونبض الحاضر، وتشكل عنصرًا أساسيًا في خريطة السياحة الثقافية للمدينة، ومنها شارع الجاحظ.
والجاحظ هو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني الليثي، وُلد في البصرة، وسُمّي بـ"الجاحظ" لجحوظ عينيه، نشأ يتيمًا فقيرًا، فعمل في صغره ببيع السمك والخبز، لكنه كان شغوفًا بالعلم منذ طفولته، فحفظ القرآن وتعلم مبادئ اللغة، وسرعان ما ظهرت موهبته وذكاؤه الفطري.
نشأ الجاحظ في عصرٍ ازدهرت فيه العلوم العربية والإسلامية، وبلغت فيه اللغة العربية أوج مكانتها، فانتعشت حركة الترجمة، وازدهرت المنتديات والأسواق الأدبية التي كانت منابر للشعر والأدب والبلاغة. في هذا المناخ الثقافي الثري، أحب الجاحظ العلم والأدب، فتتلمذ على أيدي كبار علماء البصرة، منهم الأصمعي وأبو عبيدة والأخفش، كما تلقى علوم الحديث على يد حجاج بن محمد وأبي يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة. تأثر الجاحظ بفكر المعتزلة وتتلمذ على يد النظّام، فجمع بين الثقافة الدينية والفلسفية، واطلع على الفلسفة اليونانية ليواجه خصوم الإسلام بالحجة والعقل.
كان مولعًا بالقراءة إلى حدٍ استثنائي، حتى أنه كان يستأجر دكاكين الورّاقين ليبيت فيها للقراءة، وكانت الكتب في عصره نادرة وغالية، فكان يعتمد على مكتبات العلماء وأصدقائه. جمع الجاحظ بين العلوم المختلفة، فدرس المنطق والفلسفة والرياضيات والطبيعيات والسياسة والأخلاق والفراسة، وأبدع في جميعها، وانتقل إلى بغداد حيث ازداد علمًا واتصالًا برجال الدين والأدب والفكر.
عُدّ الجاحظ من أغزر الكتّاب إنتاجًا في التاريخ العربي، إذ ألّف في الأدب واللغة والدين والسياسة والفلسفة والاجتماع والعلوم الطبيعية، وتناول في كتاباته موضوعات شتى، منها العصبية، وتأثير البيئة، والطبائع الإنسانية، والتاريخ، والطب، والفلك، والموسيقى، والغناء، والنساء، والعشق، والجواري، والشطرنج.
أسلوبه الأدبي
امتاز أسلوب الجاحظ بثراء اللغة وسهولة العبارة وسحر البيان، فجمع بين الجزالة والطرافة والوضوح. كان يميل إلى الاستطراد في موضوعاته، فينتقل من فكرة إلى أخرى بسلاسة ثم يعود إلى الأصل، مما يعكس غزارة علمه وسعة ثقافته. تميزت كتاباته أيضًا بالسخرية الذكية، والنقد الاجتماعي، والمزج بين الجد والهزل، وهو أول من ابتكر هذا الأسلوب في النثر العربي. وكان يرى أن المزاح لون من ألوان الحكمة والسهولة في إيصال الفكرة.
كان الجاحظ أيضًا شاعرًا وناقدًا أدبيًا، وقد رأى أن الشعر يقوم على أربعة أركان: الصبغة، والصياغة اللفظية، والوزن، والتصوير، وكان ناقدًا دقيق النظر، واسع الفهم لمعاني الفن وجماليات اللغة.
مؤلفاته
تُعد مؤلفات الجاحظ من أهم المراجع في الأدب والفكر العربي، ويُقال إنه خلّف نحو 360 كتابًا تناولت شتى ميادين المعرفة. ومن أبرز مؤلفاته:
الحيوان: موسوعة ضخمة في سبعة أجزاء تناول فيها طبائع الحيوانات وما يرتبط بها من أخبار وقصص وتجارب.
البيان والتبيين: من أهم كتب البلاغة العربية، تناول فيه فنون القول والخطابة وعيوب النطق وأسرار البيان.
البخلاء: تحفة أدبية ساخرة، وصف فيها المجتمع العباسي بدقة وذكاء، وكشف طبائع الناس بأسلوب يجمع بين الطرافة والعمق.
التاج في أخلاق الملوك: عرض فيه أخلاق الخلفاء وآداب الملوك مستلهمًا التراث الفارسي والإسلامي.
رسائل الجاحظ: مجموعة من الرسائل الأدبية والفكرية في موضوعات متنوعة، تبرز عبقريته في التحليل والاستدلال.
ومن كتبه الأخرى: البرصان والعرجان والعميان والحولان، الخسران المبين، المحاسن والأضداد، مفاخرة الجواري والغلمان.
وفاته
عاش الجاحظ أكثر من تسعين عامًا قضاها في طلب العلم والكتابة والتأليف، حتى أصيب بالمرض في أواخر أيامه. وتُوفي عام 255 هـ / 868م، ويُروى أنه مات تحت كتبه التي انهارت عليه، في مشهد يليق بعاشقٍ للعلم قضى حياته بين الأوراق والمجلدات