رأت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية أن مفاوضات إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تبدو في أوج نشاطها هذه الأيام؛ فخلال أسابيع قليلة فقط، تمكنت الولايات المتحدة من إبرام اتفاقات تجارية مع أربع دول من رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، وهي: كمبوديا وماليزيا وتايلاند وفيتنام. كما وضعت اللمسات الأخيرة على تفاصيل تعهدات الاستثمار التي قدمتها اليابان للبيت الأبيض في يوليو الماضي.
وأشارت المجلة الأمريكية إلى أن جوهر هذه الاتفاقات بسيط، ففي مقابل خفض الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب أو هدد بفرضها، قبلت تلك الاقتصادات بسلسلة غير معتادة من المطالب الأمريكية، سواء من حيث حجمها أو مضمونها.
وأوضحت المجلة أن بنود الاتفاقات الأخيرة بين واشنطن ودول آسيا تكشف عن تنازلات كبيرة قدمتها تلك الدول من أجل التوصل إلى اتفاق، وأن هذه الاتفاقات تقدم دليلا على الكيفية التي حول بها ترامب تهديداته الجمركية إلى أداة ضغط مكّنته من إجبار الشركاء على الاستثمار داخل الولايات المتحدة، ودفعهم إلى تقليص ارتباطهم الاقتصادي بالصين.
وأكدت "فورين بوليسي" أنه انطلاقا من خلفياته كرجل أعمال، جعل ترامب من التعهدات الاستثمارية الأجنبية أولوية في الاتفاقات التجارية التي تسعى واشنطن لإبرامها حول العالم.
ووفقا للمجلة، يعد الاتفاق الأمريكي الياباني أبرز الأمثلة على ذلك، إذ يتضمن التزاما من طوكيو بضخ 550 مليار دولار في الاقتصاد الأمريكي بحلول يناير 2029، وهو مبلغ يعادل نحو 15 بالمئة من الناتج المحلي الياباني أو ما يعادل قيمة صادرات اليابان إلى الولايات المتحدة خلال فترة رئاسية كاملة.
ونوهت المجلة إلى أن تفسير الاتفاق يختلف بين واشنطن وطوكيو. فوفقا للبيت الأبيض، وافقت الحكومة اليابانية على استثمار 550 مليار دولار في الولايات المتحدة، فيما وصف ترامب المبلغ بأنه "حافز توقيع" مثل الذي يحصل عليها لاعبو البيسبول المحترفون. كما يشير مسؤولون أمريكيون إلى أن أي مشروع استثماري تموله شركات أمريكية بنسبة 40 بالمئة يمكن استكمال تمويله بأموال من دافعي الضرائب اليابانيين.
أما اليابان، فتنفي هذا التفسير بشدة؛ فقد أوضح كبير مفاوضيها أن "إطار الاستثمار" البالغ 550 مليار دولار يشمل مزيجا من الاستثمارات والقروض والضمانات التي تقدمها مؤسسات مالية مدعومة من الحكومة اليابانية.
وتؤكد فورين بوليسي أن هناك ثلاث حقائق مؤكدة بخصوص الاتفاق الأمريكي الياباني، وهي: أن طوكيو ستنفق أموالا عامة لتمويل استثمارات خاصة على الأراضي الأمريكية، وأن الولايات المتحدة ستحصل في النهاية على النصيب الأكبر من العوائد، وأخيرا، إذا لم تفِ اليابان بتعهدها، يحق للبيت الأبيض إعادة فرض الرسوم الجمركية على الصادرات اليابانية.
وترى المجلة الأمريكية أنه يصعب تفسير الدافع الياباني وراء قبول هذه الشروط؛ فحتى لجنة الاستثمار التي ستقرر المشروعات الممولة تتألف بالكامل من أمريكيين، ويملك ترامب الكلمة الفصل فيها، كما أن تمويل المشروعات بأموال عامة يشير إلى أن المستثمرين من القطاع الخاص لم يجدوا فيها جدوى اقتصادية، ما يثير مخاطر على أموال دافعي الضرائب اليابانيين.
وعلى النقيض وبالنسبة لكوريا الجنوبية، صرح الرئيس الكوري لي جاي ميونغ بأنه "قد يُعزل من منصبه" إذا وافق على اتفاق مماثل. ومع ذلك، يبدو أنه يسير على خطى اليابان، إذ تضغط واشنطن عليه لتقديم حزمة استثمارية بقيمة 350 مليار دولار. وتجلى ذلك في تصريح وزير التجارة الأمريكي هوارد لوتنيك: "إما أن يقبل الكوريون الصفقة أو يدفعوا الرسوم".
وبالعودة إلى دول رابطة آسيان، شددت المجلة على أنه بعد أن ضمنت واشنطن التعهدات اليابانية والكورية، التفتت إلى أولوياتها الثانية التي تتمثل في إلزام اقتصادات رابطة آسيان بتبني الإجراءات التنظيمية الأمريكية؛ فعلى سبيل المثال، في الاتفاق مع ماليزيا، وافقت كوالالمبور على "التقيد بالقيود التصديرية الأمريكية الأحادية" إذا طلبت واشنطن ذلك.
ولم تتوقف المطالب الأمريكية عند هذا الحد، إذ وافقت ماليزيا أيضا على تقييد تعاملاتها مع الأفراد والشركات المدرجين على قوائم العقوبات الأمريكية أو "قائمة الكيانات" الخاصة بوزارة التجارة الأمريكية.
كما شمل الاتفاق بنودا تتعلق بالقطاع الرقمي، حيث تعهدت ماليزيا بعدم فرض أية ضرائب على الخدمات الرقمية، علاوة على التشاور مع واشنطن قبل توقيع أي اتفاقات رقمية مع دول أخرى.
أما الاتفاق مع كمبوديا فيعكس أولوية أمريكية تتعلق بفك الارتباط مع الصين، فقد التزمت "بنوم بنه" بمطابقة رسومها الجمركية مع الرسوم الأمريكية على أي دولة ثالثة (ويقصد هنا الصين)، وإلا ستفرض على صادراتها إلى الولايات المتحدة رسوما عقابية بنسبة 49 %.
كما وافقت "بنوم بنه" على تزويد واشنطن بمعلومات حول المستثمرين الأجانب، في إشارة واضحة إلى الشركات الصينية التي تمثل نصف الاستثمارات الأجنبية في كمبوديا.
وتوقعت مجلة "فورين بوليسي" أن تتزايد الضغوط الأمريكية بشأن ما يسمى "إعادة الشحن"، أي تمرير الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة عبر دول وسيطة مثل فيتنام أو المكسيك للالتفاف على الرسوم الأمريكية.
ودلّلت المجلة على ذلك بالإشارة إلى أن واشنطن تركت هذا البند مفتوحا في اتفاقها مع ماليزيا لتضيف لاحقا صيغة تمنع منح هذه السلع معاملة جمركية تفضيلية، ما قد يهدد نموذج الأعمال الذي تعتمد عليه اقتصادات آسيوية كثيرة كمراكز وساطة تجارية بين الصين والولايات المتحدة.
وأخيرا، وبينما يتأمل المسؤولون الأوروبيون هذه التطورات، قد يشعرون ببعض الارتياح. فالاتحاد الأوروبي لم يقدم في اتفاقه مع واشنطن ما قدمته اليابان وكمبوديا وماليزيا وغيرها. ومع ذلك، يبقى السؤال: لماذا قبلت الحكومات الآسيوية بهذه الشروط المقيدة؟ صحيح أن السوق الأمريكية تمثل شريانا حيويا لتلك الاقتصادات، وأن المظلة الأمنية الأمريكية لا تزال أساسية لليابان وكوريا الجنوبية، وربما تراهن بعض العواصم الآسيوية أن ترامب لن يراقب تنفيذ بنود هذه الاتفاقيات بدقة كما في ولايته الأولى، لكن أيا من هذه التفسيرات لا يبدو كافيا. لذا، سيكون من الحكمة أن يستعد الأوروبيون لاحتمال أن تنسخ واشنطن مطالبها الآسيوية لتفرضها في مفاوضاتها المقبلة مع أوروبا.