بقلم – حمدى رزق
بالتجربة لن يستقيم سوق تعمه الفوضى، وتحكمه الاحتكارات، وتؤمه الكارتلات، ويمسك برقبته « تجار الأرنص «، ويقينا وليس بخاف على المستهلكين، أن إجراءات الحكومة طوال الشهور الستة الماضية، لم تترك أثرا، لا أرضًا قطعت ولا ظهرًا أبقت، وأفلتت الأسعار من سيطرتها تمامًا، وتجاوزت كل السقوف، ودفعت الطبقات الضعيفة الفاتورة من لحم الحى، وسحقت طبقات، وكسرت ظهور كثير من المصريين لا يشكون، فقط لأنهم أغنياء من التعفف.
وزير التموين صاحب الخبرة الطويلة العائد إلى الوزارة بعد سنوات، الدكتور على مصيلحى للأسف فى تصريحاته الأخيرة يقطع بعدم تطبيق التسعيرة الجبرية، «لن نلجأ إلى التسعيرة الجبرية»، هكذا يقول ويبشر التجار الفجار فى مواجهة شارع يغلى ويفور من جنون الأسعار، ويضيف «سنفعّل آليات السوق»، لا أعرف عن أى سوق يتحدث، وعن أى آليات سوق يبشر.
أستغرب تماما أن يتخلى الوزير وبالتبعية الحكومة عن سلاحها فى مواجهة جشع التجار الذين يسومون المستهلكين سوء العذاب،
التسعيرة الجبرية لا هى عيب ولا هى حرام، والسوق الحر يختلف بالكلية عن فوضى الأسواق، هذه سوق فوضوية يعبث بمقدراتها احتكارات عاتية، لا ضابط ولا رابطـ، ولا يأبهون بآليات السوق التى يتحدث عنها الوزير، الدولار ارتفع اشتعلت الأسعار وقتيًا، الدولار ينخفض ولا حياة لمن تنادى، وكأننا نؤذن فى مالطة، منحنى الأسعار فى صعود دون مبرر موضوعى، إنه الجشع، والاحتكار، وفُجر التجار.
لماذا يتخلى الوزير طواعية عن سلاحه الوحيد، أقله يهدد من قبيل الوعيد، تحس إنه خايف من التجار، ويتجنب المواجهة، لماذا يبذل تطمينات حكومية مجانية لمصاصى الدماء، لماذا يتركنا هكذا عارى الظهور من حماية حكومية واجبة، لماذا تكتفى الحكومة بدور المطافي، ولا تذهب لمنع حريق الأسعار من الأصل، من الحلقة المفقودة، من الحلقات المتحلقة كالذئاب الضارية تنهش لحم المستهلكين..
التخلى عند الزحف، الحكومة تتجنب حرب الأسعار، وهى كره لها، إن لم يكن بالتسعير الجبرى، أقله بإلزام هؤلاء المضاربين بقوت الغلابة بتسجيل السعر على السلع، وهذا أضعف الإيمان، الإفصاح عن سعر السلعة حتى نعرف حقيقة أسعار السلع فى السوق، ولا يتم استنزافنا على مدار الساعة بأسعار ما أنزل بها من سلطان.
الحكومة المستحية من الحياء تخاف التجار، تنفخ فى الزبادى، تخشى من الخشية إن هى سعّرت السلع جبريا أو من المنبع، تظهر السوق السوداء، وكأنها سوق بيضاء لاشية فيها، وتختفى السلع من الأسواق، خشية يعقبها الندم، كل مظاهر السوق السوداء مستشرية فى السوق وبضراوة، لن تظهر أكثر من ظهورها الآن، أصناف تختفى، ثم تظهر بأسعار مضاعفة، وأصناف تباع بأكثر من سعر، فى الصباح بسعر وبالليل بسعر، وفى جاردن سيتى بسعر، وفى السيدة زينب بسعر وبينهما شارع قصر العينى، عبور الشارع يعنى عبور الأسعار إلى خبل تمامًا.
لا أحد يحلى البحر بإلقاء السكر، البحر مالح، السوق مالح، ضخ أطنان السلع يوميا فى المجمعات الاستهلاكية أثره محدود، ومهما ضخت الحكومة من أطنان تبتلعها الأسواق، هناك خلل هيكلى فى الأسواق المصرية، أتحدى أى خبير حكومى أن يكشف عمن يسعر الأسعار فى الأسواق، الجهة، الراس الكبير، المسعر المسعور، الأسواق السايبة تحتاج إلى تدخلات حكومية حقيقية تربطها وتوقفها عند حدودها السعرية، سكر الحكومة لا يحلى حياة الغلابة.
الرجوات الحكومية، والمقاطعات الشعبية، والاجتماعات مع الغرف التجارية حتى ساعته وتاريخه لم تنتج أثرًا، ولن تنتج أثرًا، طالما الاحتكارات تمسك بمقود الأسواق، التاجر هو السائق، هو من يجلس على مقعد القيادة، ونحن ركاب الأتوبيس، ندفع ونحن صاغرون، ولابد أن نعترف أولا بأننا نركب مع سائق مخبول تماما فى طريق تعج بالمطبات السعرية.
نعترف بحزن، نعترف بحقيقة أن الحكومة تماما فشلت فى السيطرة على الأسواق، ومن يحرك الأسواق صعودًا ليس ببعيد عن أيادى الحكومة الطيبة، والحكومة تعرفهم تاجرا تاجرا ومستوردا مستوردا، وأجرت معهم كثيرًا من المفاوضات، ولكنهم لا بيرحموا ولا بيسيبوا الحكومة ترحم، التجار بيحوروا تحويرا، فاكرين قرار استيراد الفراخ المجمدة الذى ألغى قبل أن يجف مداده تحت وطأة التجار.
كنت أتمنى على الوزير مصيلحى وهو قادم إلى وزارة خبرها تمامًا، ويعرف خريطة السوق كخريطة كف يده، أن يظهر العين الحمراء لمن لا يختشون، فقط من باب ذر الرماد فى العيون، إظهار قوة الدولة مرة، الحسم مع مصاصى الدماء مرة، كنت أظنه قادمًا لعدل الحال المايل فى السوق، ولكنه تماهى مع سياسات لم تخلّف سوى إفقار تام لطبقات هائلة من الشعب.
مصيلحى الذى قوبل بترحاب، لم يأت بجديد على الأسماع، رفض التسعيرة الجبرية معتقد حكومى، هذا ما سمعته شخصيًا من رئيس الوزراء، وتوجس المهندس شريف إسماعيل خيفة من التسعيرة الجبرية أن تخلّف نقصًا فى السلع الرئيسية، فتصبح المشكلة مضاعفة.. وهذا مربط الفرس كما يقولون ويتخوفون، من هذا الذى يربط الفرس، من يقود الفرس الحكومة أم التجار؟ !.
أعود إلى آليات السوق التى يتحدث بها الوزير مصيلحى، ابتداء هل هذه سوق بجد وبحق وحقيق، سوق ولها آليات فعلا، ما هي الآليات؟، أعتقد أن السوق المفلوت يفرض آلياته الفالتة، والسوق يفرض أسعارًا لا علاقة لها بتكلفة الإنتاج، هناك استغلال ومص دماء، سوق مثل هذه تحتاج إلى يد قوية، باطشة فى زمن الحرب.
السوق الحر ليس حرًا فى تحديد آلياته هكذا بدون ضابط ولا رابط، مفهوم السوق الحر مصريًا هو ترك المستهلك فريسة للذئاب، وإذا استمرت الحكومة على خشيتها من التجار، لن تنخفض الأسعار قريبًا، ما ارتفع يرتفع أكثر، لا يعرف السوق انخفاضًا، الفوضى تحتاج تدخلًا أخشى أنه ليس بمقدور الحكومة.