في صوته خشوع نادر، لا يتكلف ولا يصطنع، وإنما يخرج صافيًا من قلب عامر باليقين، فيسري إلى قلب المستمع كما يسري الماء في أرض عطشى، ولا يلهيك بزخارف النغم ولا ملاهي الدنيا، بل يأخذك مباشرة إلى روح المعنى وعمق الآية، حتى تكاد تبكي من وقع الكلمة، ومن الخشوع والتأمل الروحاني، كأن صوته جاء ليعيد لحظات الصفاء، فيصبح وقع كلماته على القلب كالبلسم الشافي، وتشعر أن الكلمات تتجسد نورًا يسري في العروق، وأنك أمام باب سماوي يفتح لك وحدك، فتدخل عالمًا من الطمأنينة لا يشبه أي عالم آخر، إنه الشيخ محمود خليل الحصري، رائد دولة التلاوة.
ولد الشيخ الحصري في 17 سبتمبر من العام 1917، في زمن كانت فيه التلاوة فنًا يورث كالعطر النفيس من جيل إلى جيل، فشب طفلًا عاشقًا لحروف القرآن، يحفظها بلسان، وقلب صادق أن يرفعها بالعلم والقراءة الصحيحة.
ألحقه والده الكتاب في عمر الأربع سنوات ليحفظ القرآن وأتم الحفظ في الثامنة من عمره، كان يذهب من قريته إلى المسجد الأحمدي بطنطا يوميا ليحفظ القرآن وانضم إلى المعهد الديني في طنطا وهو في الثانية عشر، ثم تعلم القراءات العشر بعد ذلك في الأزهر.
الحصري أول من سجل المصحف
يعد الحصري أول من سجل المصحف المرتل كاملًا للإذاعة المصرية، ثم واصل رحلته في العام التالي بزيارة فرنسا، حيث أتيح له أن يهدي عشرة فرنسيين إلى الإسلام بعد أن استمعوا لتلاوته العذبة.
صار صوته يحمل هدى للناس ورفيق البيوت في الساعات الأولى من الصباح، ومؤنس القلوب في ليالي الشتاء الطويلة، وسفيرًا للقرآن خارج حدود مصر، حيث حمل صوته نورًا إلى العالم الإسلامي كله.
وفي عام 1966 عين مستشارًا فنيًا لشؤون القرآن الكريم في وزارة الأوقاف المصرية، كما اختاره اتحاد قراء العالم الإسلامي رئيسًا لقراء العالم الإسلامي في مؤتمر "اقرأ" بمدينة كراتشي بباكستان.
شهد عام 1967 منحه وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى في عيد العلم، إلى جانب تعيينه خبيرًا بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، فضلًا عن رئاسته لاتحاد قراء العالم الإسلامي، وفي عام 1968 انتُخب عضوًا في المؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي عن محافظة القاهرة قسم الموسكي، وكان أيضًا أول من سجل المصحف المرتل بروايتي قالون والدوري.
صاحب أول "مصحف معلم"
واصل الحصري مسيرته بتسجيل أول "مصحف معلم" في عام 1969، ثم سفره عام 1970 إلى الولايات المتحدة مبعوثًا من وزارة الأوقاف للجاليات الإسلامية في أمريكا الشمالية والجنوبية، وخلال زيارته الثانية إلى الولايات المتحدة عام 1973، لقن الشهادة لثمانية عشر رجلًا وامرأة أشهروا إسلامهم بعد أن استمعوا لتلاوته.
كما كان الحصري أول من رتل القرآن الكريم بطريقة "المصحف المفسر" عام 1975، وأول من رتل في قاعة الأمم المتحدة عام 1977 بطلب من الوفود العربية والإسلامية، ليحمل صوت القرآن إلى المحافل الدولية.
وفي عام 1978 رتل في القاعة الملكية وقاعة "هايوارت" المطلة على نهر التايمز بلندن، كما زار ليفربول وشيفيلد بدعوة من مجلس الشؤون الإسلامية لتلاوة القرآن أمام الجاليات العربية والإسلامية.
وفي مثل هذا اليوم، الرابع والعشرين من نوفمبر عام 1980، فقد العالم الإسلامي صوتًا من أصداء القرآن العطرة، برحيل الشيخ محمود خليل الحصري، أحد أعظم قراء القرآن الكريم، عن عمر ناهز 63 عامًا، تاركًا إرثًا خالدًا من التلاوة الخاشعة التي لا تنسى.
رحلة الشيخ محمود خليل الحصري لم تكن مجرد مسيرة قارئ عظيم، بل مسيرة داعية حمل رسالة القرآن بصوت ملؤه الخشوع والجلال، فكان سفيرًا لكتاب الله إلى العالم، وترك إرثًا خالدًا ينهل منه القراء والمستمعون جيلاً بعد جيل.