مريض الأورام لا يستيقظ على حال واحد، فكل صباح يحمل معه وجعاً مختلفاً قلقاً جديداً، وهاجساً ثقيلاً يضغط على الروح قبل الجسد.
فهل هناك أقسى من أن تسمع توقعات موتك تتكرر في كل مرة تدخل طرقات طبيب جديد ؟!، تقف أمامهم هزيل وهم يقرؤون تاريخ انتهاء صلاحيتك.
ترتجف وحيداً بين أروقة عيادات الأورام، تلك العيادة المنعزلة البعيدة التي يجاورها قسم الإشعاع، هناك تدرك معنى الوحدة الحقيقية، وحدة لا يقطعها سوى صوت خطواتك المتعبة أو نظرات صامتة من وجوه تشبه مصيرك.
تتقلب أحوالك بين الأمل والخوف، وبين الانتظار الطويل والتنبوءات القاسية التي تسمعها كل يوم، والتمسك بالحياة، ما أثقل على القلب وأن يخبروك مرات ومرات بموعد محتمل لرحيلك؟!
أيام عجاف يزينها الألم، كنت
أظن أن الرعاية التلطيفية، هي المرحلة الأخيرة، لكنني فوجئت بعيادة لم أعرفها من قبل وهي عيادة الألم، محطة ما قبل النهاية.
عندما يصبح العلاج مجرد مسكنات، تبدأ خفيفة ثم تزداد شدتها مع اشتداد المرض، لتدخل دوامة جدول المهدئات والمنومات الطويلة، ليصبح الانسحاب المؤقت من الحياة هو أرحم ما يمكن للإنسان الذي يشعر به في نهاية طريق أثقلته المعاناة.
ففي بداية رحلتي كنت أتنازل عن أحلامي شيئا فشيئا، كان الطريق يأخذ من روحي أكثر مما يترك حتى وصلت إلى أمنية وحيدة، أن أنام نوماً عميقاً لا يوقظه الألم.
ضعفت قوتي واختفت أحلامي ولم أعد قادراً على الكتابة، تركيزي يتلاشى، والأوجاع تملأ كل المساحات من حولي، إلا أن أعز الناس من حولي لم يتوقفوا عن محاولة إعادتي للحياة والتنفيس بكلمات لا تسمن ولا تغني من جوع ، ولا أنكر أن وجودهم حولي هو آخر ما تبقى لي من قوة في هذا الطريق الشاق الطويل.
بعد أن أحتل اليأس فؤادي حين دخلت لأول مرة عيادة الألم، بها خطوة واحدة تسبق النهاية، هناك لا يوجد دواء للشفاء، بل مسكنات حتى الموت تتضاعف كلما اشتد الجسد عناداً واشتد الألم قسوة، ليصبح لحظات السكون هو الملجأ الأخير، والابتعاد عن الحياة لبرهة قصيرة هو أرحم الحلول.
لست من هواة البوح بالألم وتصدير طاقات مخيفة، إلا أن إلحاح أحبائي جعلني أبوح بخطوات مرعبة في رحلتي أشعر فيها إنني في لحظات وداع.
الصعب في المرض ليس الوجع بل تلك اللحظة التي ترى فيها الخوف في عيون من يحبونك، الخوف الذي يحاولون إخفاءه بابتسامة مرتعشة.
يدعون فيها القوة لأجلك، بينما أنت تدعي الصمود لأجلهم تلك اللحظة التي تحتضن فيها يدك يداً ترتجف، فتدرك أن مرضك يكسر قلوبا أخرى ليست على سريرك، هنا فقط تفهم أن الألم الحقيقي لا يسكن الجسد بل يسكن الأرواح التي تحبك ولا تملك إلا الدعاء.
أصبحت في كل ليلة، حين يهدأ صوت كل شيء، ويبقى أنا ودقات عقارب الساعة، أجدني أضع يدي على صدري لأتأكد أنني ما زلت هنا.
أحياناً أتظاهر بالقوة، وأحياناً أنهار وحيداً، ولكني في كل مرة أسمع همساً داخليا يقول طالما ما زلت تشعر بالألم، فأنت ما زلت حياً، وما زال هناك ما يستحق أن تتمسك به، حتى لو كان مجرد أمل صغير يشبه خيط ضوء في آخر نفق طويل.