يعد إنشاء مركز التجارة الأفريقي التابع للبنك الأفريقي للتصدير والاستيراد (أفريكسيم بنك) لحظة كاشفة في مسار التحول الذي تسعى مصر إلى ترسيخه داخل القارة الأفريقية، فالمشهد لم يكن مجرد إعلان عن مبنى أو مؤسسة جديدة، بل كان إعلاناً عن دور إقليمي يعاد تعريفه، وعن موقع اقتصادي يراد له أن يكون أكثر تأثيراً من ذي قبل. واللافت أن الحدث يربط بين ثلاثة مسارات متوازية: مسار التحول العمراني الذي تمثله العاصمة الإدارية الجديدة، ومسار التكامل الاقتصادي الأفريقي الذي تقوده مؤسسات قارية كبرى، ومسار إعادة تموضع مصر بوصفها بوابة ووسيطاً ومحركاً للتجارة والاستثمار داخل أفريقيا وخارجها. ومن هنا تكتسب استضافة أول مركز تجارة أفريقي من نوعه في شمال القارة دلالة تتجاوز الإطار الجغرافي لتلامس عمق الرؤية السياسية والاقتصادية للدولة.
ولعل حرص الدكتور مصطفى مدبولي خلال كلمته في الفعالية على وضع الحدث في سياقه الأوسع معتبراً إنشاء المركز علامة فارقة في الشراكة بين مصر وأفريكسيم بنك. وهذه الشراكة ليست طارئة ولا تكتيكية، بل تراكمية ومبنية على اختبار فعلي في أوقات الأزمات، من برامج الإصلاح الاقتصادي إلى جائحة كورونا وصولاً إلى تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وهو ما يمنح الخطاب بعداً واقعياً بعيداً عن الإنشاء ويظهر أن التعاون المالي والمؤسسي مع أفريقيا لم يعد خياراً بل ضرورة استراتيجية.
كما تنبع أهمية المركز أيضاً من الوظيفة التي ينتظر أن يؤديها، فهو ليس مجرد واجهة إدارية للبنك، بل منصة شاملة لمعلومات التجارة ورصد الأسواق وبناء القدرات والابتكار وربط الفاعلين الاقتصاديين عبر القارة.
وبهذا المعنى، يتحول المركز إلى عقل تجاري أفريقي يربط البيانات بالقرار والتمويل بالفرص والطموحات بالآليات التنفيذية، وهي معادلة تفتقدها التجارة البينية الأفريقية منذ عقود رغم ما تمتلكه القارة من موارد وأسواق واعدة.
فمستقبل أفريقيا مرهون بقدرتها على الانتقال من تصدير المواد الخام إلى بناء سلاسل قيمة إقليمية ومن الأسواق المجزأة إلى السوق الموحدة.
ومن هنا تأتي الإشارة المتكررة إلى منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية بوصفها الإطار الذي يمنح هذا المركز معناه الحقيقي، فبدون سوق موحدة تصبح المراكز مجرد مبان، أما في ظل تكامل قاري حقيقي فإنها تتحول إلى أدوات تغيير.
ومن الزاوية المصرية، يعكس الحدث وعياً متزايداً بأن العمق الأفريقي ليس فقط امتداداً سياسياً أو أمنياً بل فضاء اقتصادي واسع يمكن أن يسهم في معالجة تحديات مزمنة مثل نقص النقد الأجنبي وخلق فرص العمل وتوسيع أسواق الصادرات.
وحديث رئيس الوزراء عن فرص الشركات المصرية في قطاعات البناء والطاقة والاتصالات يكشف عن رهان واضح على تصدير الخبرة المصرية لا السلع فقط، وهو تحول نوعي في التفكير الاقتصادي.
ولا يمكن تجاهل البعد الجيوسياسي للمركز، فاختياره في العاصمة الجديدة وتأكيد دوره كبوابة بين أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا يرسخ فكرة مصر كمحور ربط إقليمي لا مجرد دولة عبور. وهذا الدور يكتسب أهمية إضافية في عالم يشهد تصاعداً في التكتلات الاقتصادية وإعادة رسم لسلاسل الإمداد وبحثاً محموماً عن مراكز استقرار وموثوقية.
وفي المحصلة، يبدو إنشاء مركز التجارة الأفريقي في مصر بمثابة ترجمة عملية لشعار التكامل بدل التنافس داخل القارة، وهو حدث يقرأ بوصفه استثماراً في المستقبل لا إنجازاً آنياً، ورهاناً على أن الاقتصاد يمكن أن يكون لغة أفريقيا المشتركة وجسرها نحو مكانة أكثر عدلاً وتأثيراً في النظام الاقتصادي العالمي.