الأحد 30 يونيو 2024

نزوح أقباط العريش يكشف استهداف الإرهاب للعقول السيناوية

8-3-2017 | 14:10

بقلم –  نجوان عبداللطيف

فتى أسمر لم يتجاوز الـ١٨ عاما نحيل الجسد نظراته زائغة، تغيب عن وجهه الابتسامة، خشونة يديه تدل على شقاء سنين رغم حداثة سنه، يبدو كمن يختبئ فى داخله،»أبانوب» صعيدى الجذور لكنه عرايشى المولد والنشأة، يجلس على دكة فى الكنيسة الإنجيلية بالإسماعيلية، وسط أسرته، والدته ووالده المسن وإخوته، ينتفض لغياب الصغير ابن أخته للحظات من أمامه مع أن باب الكنيسة مغلق، يتصرف بعصبية واضحة، يبتعد عن الكاميرات وأسئلة الصحفيين، ألاحقه يرد علىّ بغضب شديد: ما بتدوروش علينا إلا لما نتقتل ونموت، وبعدين شوية كلام وصور وتنسونا تانى لحد ماناس مننا تموت تانى.

أرد: ناس منكم؟ كلنا واحد والإرهابيون قتلوا مسلمين وأضرموا النار فى شاب مسلم وهو حى فى رفح قبل أيام مثلما يقتلون ويحرقون المسيحيين.

قالها أبانوب: «مابيموتوش عشان هم مسلمين، لكن إحنا بنموت علشان إحنا مسيحيين».

يحكى أبانوب: أنا كنت فى السوق عندما دخل اثنان ملثمان من الإرهابيين وحاملين لسلاح الكلاشينكوف وضربا الرصاص على جمال بياع الشباشب، جرينا على الأمن الموجود فى السوق ما عملوش حاجة.. يمكن خوف لكن المهم ماعملوش حاجة وقبلهم الدكتور البيطرى وعادل..عشرة مسيحيين اتصفوا فى أقل من عشرة أيام.. ليه عشان بس مسيحيين.. ماعملوش حاجة وحشة لا سرقوا ولا نهبوا ولا قتلوا.

قلت له الدواعش والإرهابيون يتعاملون مع كل الناس عداهم باعتبارهم كفارا .

رد» أبانوب «إحنا بس إللى بنشوف الذل فى العريش عشان مسيحيين.

يكمل:القتل ابتدى من بعد ما حرقوا كنيسة مارى جرجس فى العريش بعد ثورة ٢٥ يناير، قتلوا الأنبا قزمان (أسقف شمال سيناء) فى مارس ٢٠١٢، قتلوا القس «مينا عبود» بالرصاص عام ٢٠١٣ وفى ٣٠ يونيو ٢٠١٦ قتلوا أبونا «رافائيل» موسى قس كنيسة مارى جرجس بالعريش ضربوا عليه النار وهو بيصلح عربيته فى إحدى الورش.

يستطرد أبانوب:الإرهابيون بعدما قتلوا أبونا رافائيل بيمشوا فى الشوارع ويقولوا فى الميكرفونات حنقتلكم يامسيحيين يا كفار, والناس عارفة مين إللى قتل أبونا هو من العريش ومن بيت كبير عشان كده ماحدش قرب له.

الأمور بالنسبة لنا كانت بتزيد كل يوم، كتير من أهالى العريش اللى عايشين عمرنا معاهم أصبحوا طائفيين، بعضهم يرفض يشترى ويبيع لنا، ويتعاملوا معانا بإذلال حتى أطفالهم لما يشوفونا ماشيين فى الشارع يعملوا علامة الصليب ويتفوا علينا، مرات كتير وأنا راجع من الشغل مع زمايلى ونعدى على كمين يطلبوا البطاقات ويعدوا المسلمين واحنا لأ..يعنى عيشة ذل وقهر وفقر..

قاطعته أمه انشراح: بس جيرانا المسلمين طيبين وبيحبونا وبيعاملونا كويس, يصدق أبانوب على كلام والدته: هم دول بس اللى كويسين معانا.

يكمل: لكن أنا بسأل ليه الحكومة ما اتصرفتش قبل ما يتقتل عشرة من مسيحيى العريش؟

الدولة لم تتعامل بجد مع الفيديو اللى على النت من حوالى شهر، اللى بتعلن فيه داعش أن اللى فجر الكنيسة البطرسية وقتل ٣٠ مسيحيا من داعش، وقالوا إنهم حيقتلوا المسيحيين فى سينا وفى كل مكان فى مصر.

أنا من أول ما ابتدوا يطلعوا البيوت على المسيحيين ويقتلوا ويحرقوا وأنا عشت أيام فى رعب، أكتر من ١٠ أيام لم أذق طعم النوم، لما تمشى قطة ع السطح أفتكر أن الإرهابيين وصلوا، أتحرك مفزوعًا أتأكد من أن الأبواب والشبابيك مغلقة بالترابيس وأظل مرعوبًا منتظرًا أن يفتحوا الباب ويقتلونا.. خايفين نخرج وخايفين نفضل فى بيوتنا..مستنين الموت فى كل لحظة

والد «أبانوب» الرجل المسن ذو الأصول الصعيدية والذى مازال يحتفظ ببعض من لهجة موطنه الأصلى قاطع ابنه قائلًا «أنا كنت عايز أموت فى العريش، دى بلدى عشت فيها عمرى واتزوجت وأنجبت.. ليه أسيب بيتى والناس اللى اتعودت عليهم وحياتى، أنا بكره الإرهابيين والحكومة اللى ماحمتناش منهم وبكره ابنى أبانوب عشان كسر البيت.. بالعصاية كسر التليفزيون وعداد الكهرباء والكراسى علشان يجبرنى أمشى وأسيب شقا عمرى منه لله.

يرد أبانوب «أبويا زعلان منى ومش بيكلمنى.. أنا كسرت البيت لإنه صعبان عليه يسيب البيت اللى تعب وشقى عشان يعمله، وأنا متأكد أن بقاءنا معناه الموت، البيت ولا الحياة؟ !

تكمل الأم «انشراح» ابنى أصر إننا نمشى من بيتنا فى منطقة «الصفا « اللى ساكن فيها مسيحيين كتير، ورحنا عند أختى فى منطقة أخرى فى العريش، وعرفنا أن الإرهابيين دخلوا بيتنا فى الليل وحرقوه..ربنا يحرقهم، وفى الصباح وصلت العربية وسافرنا من غير عفش ولا حتى الهدوم جبت غيار فقط لكل واحد.. كنا مرعوبين وابنى كان اتجنن من الخوف وبيصرخ فينا، لمينا نفسنا ومشينا ودلوقتى ولا بيت ولا شغل ولا حاجة مش عارفة حنعيش إزاى..لو جابوا لنا سكن، حيجيبوا لنا أكل، طيب حيجيبوا عفش، وحيشغلوا الرجالة؟

يرد أبانوب وعينه معلقة بالصليب المعلق على الحائط: كل ده مش مهم، أنا عايز أعيش بكرامة وأمان، مش عايز حد يذلنى علشان أنا مسيحى، عايز الناس تعاملنى كويس، مش عايز أتكدر فى الشغل ولا فى الشارع من غير سبب فقط لأنى مسيحى، أنا مش بخبى دقة الصليب فى إيدى وحموت وهى فى إيدى.

أبانوب ببساطته فى الحكى شرح كيف استطاعت الجماعات الإرهابية فى العريش أن تفرض حالة طائفية فى التعامل مع المسيحيين، وكيف نقلت إلى الناس ثقافتها الطائفية

جمالات عبده التى تعيش هى وأسرتها فى العريش منذ ٢٥ سنة، حكت لنا كيف.

أن العديد من أهالى العريش أوقفوا التعامل مع المسيحيين خلال الشهر الماضى، نتيجة الخوف من الإرهابيين، سواقين الميكروباص علنا يقولون أنت مسيحى لن تركب، تقول: نقضى مشاويرنا كعابى ( سيرًا على الأقدام ) أو نركب أوتوبيس الشركة إن وجد، مستحيل نقدر نعيش فى العريش بعد كل اللى حصل واللى بيحصل.

«سعاد» سيدة مسيحية تحكى قصة خطف ابنتها قبل شهر وعمرها ١٦ سنة وتقول:خطفوها بمساعدة زميلتها فى المدرسة، ووالد زميلتها يعمل أمين شرطة ورجالتنا راحوا بالسلاح وحرروا البنت بعد ليلة قضيتها فى البيت ونشكر الرب إنها رجعت سليمة ورغم أننا قدمنا بلاغًا، تم تجاهل ما حدث وأمين الشرطة مازال فى عمله ولم يعاقب، وبعد قتل أقاربنا فى بيوتهم اترعبنا، واحد من الإرهابيين بعد قتله لقريب لى أطلق النار على علامة الصليب فى يده، ثم أشعل النيران فى جثمانه وفى الشقة، هم مش عايزين مسيحيين يفضلوا فى العريش.

أنا ذهبت لعملى وكنت حزينة، إحدى الموظفات قالت لى إنتم تقتلوا القتيل وتمشوا فى جنازته، الموظفة اتهمت المسيحيين إنهم بيقتلوا نفسهم! احنا بنشوف ذل كتير واحد يقول أنا ماشربش ميه من إيد مسيحى، وواحد تانى يتمسخر علينا، كتير من الإرهابيين من أبناء العائلات ومعروفين بالاسم وعايشين بينا والأمن عارفهم لكن بيعمل حساب لعائلاتهم.

حكايات كثيرة عن تغلغل الفكر الطائفى فى العريش والنزعات الإرهابية، وأن السطوة تنتقل تدريجيًا للمتطرفين مع تراجع سلطة قيادات القبائل أمامهم، عدد من مدرسى العريش يتعاملون بطائفية مع الطلاب المسيحيين أحدهم هددت طفلة مسيحية بحلق شعرها لو لم ترتد الحجاب، والآخر لا يسمح لطالب متفوق أن يكون الأول على المسلمين.

بداية نزوح المسيحيين من العريش كان على يد قوات الأمن عندما قاموا بترحيل عدد من الشباب المسيحى من عمالة البناء الأرزقية الذين يقيمون معًا فى أحد بيوت العريش، بعد أن وصل لديهم معلومات أن الإرهابيين يستهدفونهم. جهزوا سيارة ونقلوا الشباب فورًا خارج العريش، ومن ثم استشعر المسيحيون الخطر ونزحوا سريعًا تاركين بيوتهم وكل ما يملكون.

ولكن المؤكد من حكايات النازحين أن المواجهة فى سيناء أمنية فقط، وأن ثقافة الإرهاب تنتشر فى العريش ولا توجد أى مواجهة فكرية.. الحكاية أكبر من استهداف المسيحيين بالقتل والتهجير ولكن باستهداف العقول السيناوية خاصة الأجيال الجديدة.

 

    الاكثر قراءة