الكلام لا ينفع، كما أن الصواريخ وحدها لا تكفي، فيما بدت أذرع ما يُسمّى بـ«محور المقاومة»، التي أُعدّت لمثل هذه اللحظة، «مقيّدة»؛ هي حسابات تكشّفت أمام الدولة الإيرانية بعد «حرب الأيام الـ12» مع إسرائيل، فبينما نجحت طهران في توجيه ضربات قاصمة للجبهة الداخلية العبرية، أسهمت في تقصير أمد الحرب، ودفعت المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل إلى إعادة حساباتهما، فإنها في المقابل وجدت نفسها رهينة التفوق العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي، الذي تبيّن منذ اللحظة الأولى.
وأجبرت هذه الحرب، على قِصر مدتها، طهران، التي قدّمت نفسها لسنوات في المنطقة بوصفها قوة لا تُقهر يُحظر الاقتراب منها، على إعادة النظر في حساباتها العسكرية، ومراجعة علاقاتها الإقليمية والدولية، تمهيداً للشروع في إعادة ترتيب أوراقها على ضوء المتغيرات الجديدة.
سد الثغور
بعد «حرب الأيام الـ12»، شرعت طهران في تعزيز قدراتها العسكرية من خلال تحديث أسطولها الجوي بمقاتلات حديثة، مع استمرار تطوير قدراتها الصاروخية، التي تُعد أحد أبرز عوامل الردع واليد الضاربة للبلاد.
ودارت التقارير بُعيد الحرب، التي وقعت في يونيو الماضي، عن أن طهران شرعت في تعزيز قوتها الجوية، مستهدفةً ضم طائرات «سوخوي سو-35» الروسية و«جيه-10 سي» الصينية إلى أسطولها، في خطوة تعكس رغبتها في تحديث قدراتها الدفاعية والهجومية بشكل متزامن، مع التركيز على تسريع عمليات التسليم ودمج هذه الطائرات المتقدمة ضمن قواتها الجوية خلال الفترة المقبلة.
وتعاني القدرات الجوية الإيرانية حالة من الجمود بفعل العقوبات الدولية المفروضة على البلاد، إذ يعود معظم أسطولها الجوي إلى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وهو ما يجعل هذه القدرات غير قابلة للمقارنة بنظيرتها الإسرائيلية، التي تمتلك أسطولاً متطوراً يضم مقاتلات من طرازات «إف-15» و«إف-16» و«إف-35» الأمريكية.
وبجانب ذلك، تدعم بكين طهران في إعادة بناء مخزونات الصواريخ المُستنفدة لديها بعد الحرب، وذلك عبر مدّها بما هو لازم من مادة بيركلورات الصوديوم اللازمة في إنتاج الوقود الصلب الذي يُشغّل الصواريخ التقليدية الإيرانية متوسطة المدى، وفق ما أوردته شبكة «CNN» الأمريكية عن مصادر استخباراتية أوروبية في أكتوبر الماضي.
ولا يقتصر الدعم الصيني على مساندة إنتاج الصواريخ فحسب، بل يمتد ليشمل دعم تعافي القدرات الإيرانية في مجال تصنيع المسيّرات ومنظومات الدفاع الجوي من خلال إمداد طهران بالمواد اللازمة، وهو ما سيُشار إليه لاحقاً.
ويواصل الحرس الثوري الإيراني تعزيز قدراته الصاروخية، التي تشكل الدعامة الرئيسية لقوته العسكرية وتظل عنصر تفوقه الإقليمي الأبرز، وهو الأمر الذي يثير قلقاً لدى إسرائيل.
وهكذا يتبيّن أن طهران أدركت أن الضربات الصاروخية، رغم أهميتها، لا تكفي وحدها لفرض معادلة ردع في ظل التفوق الجوي للعدو، الأمر الذي يجعل من تحديث سلاح الجو وتعزيز منظومات الدفاع الجوي ضرورة حتمتها نتائج الحرب.
وفي غضون ذلك، يؤكد الدكتور علاء السعيد، خبير الشأن الإيراني، أن طهران تتحرك بدافع القلق من المستقبل؛ فالسعي وراء امتلاك طائرات حربية روسية وصينية، إلى جانب الدعم الصيني المتزايد لإيران في مجال الصواريخ والمسيّرات، يعكس رغبة واضحة في كسر العزلة وتثبيت توازن ردع يمنع أي طرف من التفكير في «ضربة سهلة»، في ظل التحولات السياسية والعسكرية الجارية.
وأضاف السعيد، في تصريح لـ«دار الهلال»، أن إيران لا تبحث عن تحالف كامل، لأنها لن تحصل عليه عملياً، بل تبحث عن شراكات تمنحها الخبرة والتقنيات وتفتح لها باب المناورة دون أن تضع قرارها العسكري في يد أحد.
ويشير السعيد إلى أن «حرب الـ12 يوماً» كانت رسالة قاسية لطهران، إذ كشفت أن الصواريخ وحدها لا تكفي، وأن الاعتماد على سلاح واحد يجعل أي دولة مكشوفة في لحظة الاختبار.
ولهذا بدأت إيران، وفق قوله، تفكر في بناء قوة عسكرية أكثر تكاملاً تشمل الدفاع الجوي والقدرات البحرية والطائرات المسيّرة والحرب الإلكترونية؛ والهدف ليس الدخول في حرب شاملة، بل جعل أي مواجهة محتملة مكلفة ومليئة بالحسابات ومؤجلة قدر الإمكان.
ومن جانبه، يؤكد الدكتور محمد العزبي، الباحث في العلاقات الدولية، أن إيران بدأت، في أعقاب الحرب الأخيرة، العمل على بناء منظومة ردع شاملة لا تقتصر على الصواريخ الباليستية والمسيّرات، رغم ما أثبتته من فعالية، بل تمتد لتشمل قدرات جوية ودفاعية يمكنها مواجهة التفوق الجوي الإسرائيلي ـ الأمريكي.
ويشير العزبي، في تصريح لـ«دار الهلال»، إلى أن الحرب كشفت بوضوح نقاط ضعف القوات الجوية الإيرانية، المعتمدة حتى الآن على طائرات قديمة تعود لفترة ما قبل الثورة، إضافة إلى الأضرار الكبيرة التي لحقت بمنظومات الدفاع الجوي خلال الهجمات.
ويضيف أن طهران تتحرك لاقتناء مقاتلات أكثر حداثة، وفي مقدمتها المقاتلة الصينية «J-10C» التي تُعد خياراً أسرع تسليماً وأقل كلفة من نظيرتها الروسية «Su-35»، فضلاً عن سعيها لتعزيز دفاعاتها الجوية عبر منظومات مثل «HQ-9».
ويؤكد أن تأخر التسليمات الروسية دفع إيران إلى تنويع مصادر التسليح بين موسكو وبكين، في محاولة لتجنب الارتهان لطرف واحد.
وبحسب العزبي، فإن الهدف الإيراني يتمثل في بناء ردع جوي متكامل يضم مقاتلات حديثة، ودفاعاً جوياً متقدماً، وقدرات صاروخية، بما يحول دون تكرار الهيمنة الجوية الإسرائيلية التي برزت بوضوح خلال الحرب.
ويرى أن هذا التوجه يندرج ضمن سياق أوسع لزيادة الإنفاق العسكري، مع خطط لمضاعفة الميزانية الدفاعية خلال الفترة المقبلة، استناداً إلى خلاصة أساسية أفرزتها الحرب مفادها أن الاعتماد على الصواريخ وحدها لم يعد كافياً في ظل اختلال ميزان القوة الجوية.
وفي تقييمه للمشهد المقبل، يرجّح العزبي إمكانية تجدد ضربة عسكرية إسرائيلية ـ أمريكية تستهدف القدرات الصاروخية الإيرانية، في ظل مساعي تل أبيب لمنع طهران من استكمال بناء منظومة الردع التي تعمل عليها.
تقييم الحلفاء
كأحد المتغيرات التي أفرزتها «حرب الأيام الـ12»، يبدو أن طهران باتت أكثر انفتاحاً على بكين مقارنة بموسكو، المنشغلة في مستنقع كييف، والعاجزة عن تزويد إيران بما تحتاجه من مواد عسكرية لتطوير قدراتها، في ظل احتياجات جيشها والعقوبات الغربية المفروضة عليها.
وعلى هذا الأساس، أصبحت الصين بوابة رئيسية لتعافي القدرات العسكرية الإيرانية عقب حربها الأخيرة مع إسرائيل، وهو ما أكده تقرير صادر عن «معهد الشرق الأوسط».
ووفقاً للتقرير، كثّفت بكين من ضخ إمدادات تشمل «سلائف» وقود الصواريخ، وأنظمة التوجيه والدفع، والإلكترونيات مزدوجة الاستخدام، التي تتدفق مباشرة إلى شرايين الإنتاج الإيراني للصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة ومنصات الدفاع الجوي.
ويشير التقرير إلى أن الصين تعوّض بذلك قيود الإمداد التي تواجهها روسيا حالياً، ما يضع الصناعة الدفاعية الصينية في موقع الشريك الرئيسي لطهران «خلف الكواليس».
ولا يقتصر هذا التعاون على العتاد العسكري فحسب؛ إذ يمتد إلى مجالات أوسع تشمل الخبرات العلمية الصينية، إلى جانب الدعم المتعلق بالاستخبارات والمراقبة والاستطلاع «ISR»، بما يعزز قدرة إيران على تحديث أنظمة الضربات بعيدة المدى واستدامة شبكات حلفائها، ويتيح لها في ذات الوقت إعادة بناء ما يُعرف بـ«الردع الأمامي» دون الحاجة إلى انتشار عسكري أجنبي معلن.
في هذا السياق، يبرز تساؤل مهم حول الأسباب التي تدفع الصين لدعم مسار الاستفاقة العسكرية لطهران بعد «حرب الأيام الـ12»؛ إذ تتقاطع حسابات الردع الإيراني مع مقاربة صينية مختلفة للأمن الإقليمي، تتجاوز منطق التحالفات التقليدية نحو توازن أكثر تعقيداً.
وفي هذا الإطار، يؤكد الدكتور محمد العزبي، أن السياسة الخارجية الإيرانية تشهد تحولاً ملحوظاً باتجاه تعزيز الشراكة مع الصين أكثر من روسيا، وذلك بعد الحرب مع إسرائيل، حيث إن طهران أعادت تقييم خريطة تحالفاتها عقب تلك الحرب.
ويشير إلى أنه خلال المواجهة، امتنعت كل من روسيا والصين عن تقديم دعم عسكري مباشر لإيران، واكتفتا بمواقف دبلوماسية ودعوات للتهدئة خوفاً من تصعيدٍ يضر بمصالحهما الاستراتيجية، وهو ما أثار خيبة أمل كبيرة لدى طهران، خصوصاً تجاه موسكو التي سبق أن دعمتها إيران بكثافة في أوكرانيا عبر توريد المسيّرات والصواريخ.
ويُرجع العزبي الفارق بين البلدين إلى انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا، مما حدّ من قدرتها على تزويد إيران بأسلحة متقدمة، مثل تأخر تسليم طائرات «Su-35» وتحويل بعضها إلى الجزائر بدلاً من طهران.
في المقابل، بدأت الصين، بحسب العزبي، في تقديم دعم عسكري أكثر وضوحاً بعد الحرب، شمل أنظمة دفاع جوي من طراز «HQ-9B»، ومكوّنات تصنيع صاروخي، إضافة إلى المساهمة في إعادة بناء القدرات الجوية والصاروخية الإيرانية.
ويرى أن هذا يعكس إدراكاً إيرانياً بأن روسيا «عاجزة نسبياً» حالياً عن الدعم الكامل، بينما الصين أكثر قدرة اقتصادياً وعسكرياً، وترى في إيران شريكاً استراتيجياً لمواجهة الهيمنة الأمريكية دون مخاطر مباشرة كبيرة.
ويكمل المشهد ما يقوله أحمد سلام، عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية والخبير بالشأن الصيني، حيث يوضح أن تنامي مؤشرات الدعم العسكري الصيني لإيران، في أعقاب ما عُرف بـ«حرب الـ12 يوماً» مع إسرائيل، يعكس تحوّلاً واضحاً في مقاربة بكين تجاه منظومة الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط.
وبحسب قوله، في تصريح لـ«دار الهلال»، فإن الصين تنطلق من رؤية شاملة ترفض منطق الاستقطاب العسكري، وتتعامل مع الاستقرار بوصفه مدخلاً أساسياً للتنمية، وهو ما ينسجم مع «مبادرة الأمن العالمي» التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينج، والقائمة على مبدأ الأمن المشترك وعدم تحقيق أمن دولة على حساب أخرى.
وأوضح سلام أن دعم بكين لطهران يرتبط كذلك بحماية مصالحها الحيوية المرتبطة بالطاقة وسلاسل الإمداد، وضمان بيئة مستقرة لنجاح «مبادرة الحزام والطريق».
وأضاف أن بكين، بهذا النهج المتوازن، ترسخ حضورها كقوة دولية مسؤولة تجمع بين الدعم الدفاعي المشروع والحراك الدبلوماسي الفاعل، بما يساهم في منع توسع الصراعات ويفتح الباب أمام تسويات سياسية أكثر استدامة في المنطقة.
ويلفت سلام إلى أن إعادة تنامي المؤشرات العسكرية الصينية تجاه إيران بعد «حرب الـ12 يوماً» جاء ليؤكد أن بكين لا تتعامل مع طهران بوصفها حليفاً عسكرياً تقليدياً، وإنما باعتبارها عنصراً في معادلة منع الانفجار الإقليمي وحماية توازنات الردع، وبما يمنع فرض معادلات القوة الأحادية، ويحد من منطق المغامرة العسكرية.
كذلك الصين، بحسب سلام، ترى أن استقرار إيران جزء من أمن الخليج وشرط لنجاح مشروعات البنية الاقتصادية الكبرى، وليس أداة لمعاداة أي طرف.
ويؤكد أن الصين، من خلال الجمع بين أدوات الردع المحدود والمبادرات السياسية، تسعى لتثبيت دورها كوسيط دولي قادر على حماية مصالحه الاستراتيجية وخلق مساحات تفاوض تمنع الاحتقان وتدفع نحو حلول قابلة للاستمرار في الشرق الأوسط.
ويلتقط العزبي طرف الحديث، موضحاً أن الدعم الصيني لإيران ليس كاملاً أو معلناً بصورة مباشرة، لكنه شهد تصاعداً واضحاً بعد الحرب لأسباب تتصل بحسابات استراتيجية معقدة.
فالصين، وفق رؤيته، تنظر إلى إيران باعتبارها ورقة توازن في مواجهة الولايات المتحدة؛ فوجود طهران قوية ومؤثرة في الإقليم يشغل واشنطن في الشرق الأوسط، ويُخفف من حجم الضغط الأمريكي على بكين في آسيا، وخاصة في الملفات الحساسة مثل تايوان.
ويشير العزبي إلى أن الاعتبارات الاقتصادية تمثل محوراً حاسماً في هذا التقارب؛ فالصين تعد أكبر مستورد للنفط الإيراني، إذ تستحوذ على النسبة الأكبر من صادراته، فضلاً عن دورها في المساعدة على الالتفاف على العقوبات المفروضة على طهران بطرق غير مباشرة.
أما في جانب التوازنات الإقليمية، فيلفت العزبي إلى أن بكين تحاول الحفاظ على شبكة علاقات متوازنة مع أطراف متناقضة؛ فهي ترتبط بمصالح واسعة مع دول الخليج، وتُبقي قنوات اتصال مع إسرائيل، لكنها في الوقت نفسه تمنح إيران دعماً محدوداً يمنع — وفق تقديرها — هيمنة إسرائيلية كاملة، ويعزز موقع الصين كطرف قادر على لعب دور الوسيط، على غرار رعايتها لاتفاق التقارب السعودي ـ الإيراني سابقاً.
ويضيف العزبي أن إيران تمثل أيضاً ساحة لاختبار تكنولوجيا عسكرية صينية، سواء في أنظمة الدفاع الجوي أو المكونات الصاروخية، دون أن تتحمل بكين كلفة مواجهة مباشرة مع الغرب.
ولهذا تفضّل الصين، كما يقول العزبي، ما يمكن تسميته بـ«المساعدات الرمادية»؛ دعم غير صريح، ومكوّنات ثنائية الاستخدام، يتيح لطهران تطوير قدراتها دون إعلان اصطفاف عسكري واضح.
ويختتم العزبي بالتأكيد على أن بكين تتجنب الانخراط العسكري الصريح حفاظاً على صورتها كقوة عظمى مسؤولة، بينما تواصل توظيف دعمها المحدود لإيران كأداة نفوذ مدروس في الإقليم.
محور المقاومة
خلال «حرب الأيام الـ12» لم يُقدّم حلفاء طهران، فيما يُعرف بـ«محور المقاومة»، سواء حزب الله في لبنان أو الفصائل المسلحة في العراق، أي دعمٍ عملي مباشر لإيران عبر استهداف إسرائيل.
ويُعزى ذلك إلى أن حزب الله خرج فعلياً من حسابات المواجهة قبل اندلاع الحرب، نتيجة تضرّر بنيته العسكرية خلال المواجهة الأخيرة مع إسرائيل، ما أفقده القدرة على الانخراط.
وفي المقابل، وجدت الفصائل العراقية نفسها مقيّدة بضغوط سياسية وأمنية داخلية حالت دون تحركها أو فتح جبهة جديدة.
وفي الوقت نفسه، لم ترغب طهران في انزلاق المنطقة إلى مواجهة إقليمية شاملة، فاختارت إبقاء الاشتباك ضمن نطاقٍ محسوب.
ويشير تقرير صادر عن «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى» إلى أن طهران وفّرت ورقة تدخّل الفصائل المسلحة في العراق كـ«قوة احتياط» لاستخدامها إذا تدخلت واشنطن مباشرة، مؤكداً أن التعليمات الإيرانية طالبتهم بالحفاظ على قدراتهم.
ويقدّر التقرير أنه في حال تورّطت واشنطن أكثر في الصراع، كانت طهران ستعيد تفعيل استراتيجية «وحدة الجبهات» التي استخدمتها خلال حرب غزة، وعندها كان المشهد سيتطور إلى ضربات واسعة على قواعد أمريكية في العراق وسوريا والأردن وربما الخليج.
على النقيض، كان الحوثيون في اليمن الطرف الوحيد الذي بادر إلى إسناد طهران ميدانياً، امتداداً لمسارٍ سبق الحرب، إذ اعتادوا استهداف العمق الإسرائيلي ضمن ما يصفونه بـ«جبهة إسناد غزة» المفتوحة منذ عام 2023.
وسط ذلك، تتزايد التكهنات حول مصير ما يُعرف بـ«محور المقاومة» الذي تواصل طهران دعمه حتى الآن، باعتباره إحدى الركائز الأساسية لما تسميه «جبهة المقاومة» في مواجهة إسرائيل.
ويمرّ هذا المحور بظرفٍ حرج، لا سيما في لبنان والعراق، حيث تتزايد الدعوات الداخلية المطالِبة بتجريد الفصائل المسلحة من أسلحتها، في ظل ضغوط مباشرة تمارسها الولايات المتحدة بهدف تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة.
أما جماعة الحوثي، ورغم ابتعادها عن هذه الدعوات، فإنها تواجه تحديات متفاقمة بفعل الأزمات الداخلية في اليمن.
وبرأي منير أديب، الباحث في الشؤون السياسية والاستراتيجية والحركات المسلحة، فإن ما يسمى بـ«محور المقاومة» المدعوم إيرانياً لم يكن في جوهره موجّهاً لمواجهة إسرائيل؛ بقدر ما كان يهدف إلى إضعاف الدول العربية وتعزيز النفوذ الإيراني في المنطقة، على حد وصفه.
ويؤكد أديب، في تصريح لـ«دار الهلال»، أن مستقبل الأذرع العسكرية الإيرانية بات مرهوناً بقدرة الدول العربية على فرض سيادتها وإعادة احتكار القوة بيد الدولة وحدها، مشيراً إلى أن «الميليشيات المرتبطة بطهران لم تعد عنصر ردع في مواجهة إسرائيل، بقدر ما تحولت إلى عبء على بنية الأمن القومي العربي»، وفق تعبيره.
وقال إن الفصائل المسلحة الموالية لإيران في لبنان والعراق واليمن «تقف على النقيض من مفهوم الدولة الوطنية»، موضحاً أن «هذه الميليشيات ترفع شعار المقاومة، لكنها عملياً تمثّل محور انقسام وانهيار للدولة قبل أن تكون في مواجهة فعلية مع إسرائيل»، على حد قوله.
وأضاف أديب أن القوانين الدولية والدساتير الوطنية تضع السلاح حصرياً تحت سلطة الدولة، وأن وجود أي قوة مسلحة خارج هذا الإطار يمثل «تقويضاً لشرعية الدولة» ويقود بشكل مباشر إلى إضعاف تماسك المجتمعات.
وبشأن تأثير هذه الأذرع على الصراع مع إسرائيل، أوضح أن دورها «أضعف مما يروج له»، معتبراً أن التجربة اللبنانية نموذج واضح لذلك: «حزب الله يواجه إسرائيل من جهة، لكنه أسهم في إضعاف لبنان من جهة أخرى، حتى باتت دولة شبه غائبة لا تكتمل فيها مؤسسات الحكم».
وأشار إلى تكرار المشهد ذاته في العراق واليمن وسوريا، مؤكداً أن طهران تتحمل مسؤولية جانب من تدهور الأوضاع عبر دعم الفصائل المسلحة في هذه الدول.
ومن هنا يلتقط الدكتور علاء السعيد، الخبير في الشأن الإيراني، خيط النقاش، معتبراً أن «محور المقاومة» يمر بمرحلة ضاغطة وغير مريحة لإيران، بدليل الدعوات المتزايدة لنزع السلاح في العراق ولبنان، ما يعني أن هذا المحور لم يعد يتحرك بالمرونة نفسها كما كان في السابق.
وعند سؤاله: هل خسرت طهران الرهان؟ يقول السعيد إن الإجابة الأدق أنها لم تخسره بالكامل حتى الآن، لكنها أيضاً لم تعد تتحكم فيه كما كانت؛ فإيران اليوم تحاول حماية ما تبقى من نفوذها، وتقليل الخسائر، وتحويل السلاح من عبء سياسي إلى ورقة تفاوض يمكن استخدامها عند الحاجة.
ويؤكد السعيد أن إيران لا تريد حرباً مفتوحة بالتأكيد، لكنها في الوقت نفسه لا تقبل بالتراجع الكامل، على الأقل أمام الداخل الإيراني، فهي تعيد ترتيب أوراقها، وتخفف من حدة الشعارات التقليدية، وتتعامل مع الواقع بلغة المصالح لا العواطف.
وبرأيه، فإن القوة الحقيقية في هذه المرحلة ليست في كثرة السلاح فقط، بل في معرفة متى يُستخدم، ومتى يُحتفظ به، ومتى يتحول إلى رسالة سياسية لا أكثر.
وفي المقابل، يرى منير أديب أن طهران خسرت رهانها الاستراتيجي على الفصائل المسلحة التي دعمتها في المنطقة، حيث إن تلك الأذرع لم تحقق ما كانت إيران تراهن عليه سياسياً أو عسكرياً، بل تحولت إلى عبء عليها وعلى الدول العربية معاً، وأحياناً بدلاً من أن توجه سلاحها إلى العدو، انتهى موجَّهاً لصدور العرب.