السبت 18 مايو 2024

اخـتمـــار الحلــم ...

9-3-2017 | 12:09

بقلم – محمد عبدالحافظ

«أيام ..أيااام .. أياااام»..صغيرا نقشت الكلمات عطرها فى ذهنى، كنت طفلا فى العاشرة، أو حولها، حلماً يتشكل فى رحم الزمان والمكان، بيتنا ليس به جهاز تليفزيون ككثير من البيوت وقتها، وما أن تميل الشمس للغروب حتى «أطير» من منزلنا بحى «الحلمية الجديدة» بالدرب الأحمر إلى منزل عمتى فى «حارة الروم» بحى الغورية.. «أشوط» حجارة الطريق بقدمى وأنا اتمايل طرباً مع النغم الذى يتردد  فى ذهنى «أياااام»..

ربما لم أكن أعلم وقتها أن كاتب الكلمات، شاعر مثقف  هجر الفصحى إلى العامية ليعبر عن الخصوصية المصرية، مستفيداً من جماليات العامية المصرية ومفرداتها التى تشكلت عبر آلاف السنين من اختلاطها بلغات ولهجات أخرى، وأثراها الوعى الجمعى للمصريين.

ربما لم أكن أعلم وقتها أن كاتب الكلمات اسمه سيد حجاب، لكن شيئا ما ربطنى - ونسبة لا يستهان بها من جيلىبهذا المبدع وهذه الكلمات.. الارتباط رسخته أعمال تالية، عبر فيها حجاب عن جيل يولد ــ أصبح الآن فى الخمسين أو حولها ــ جيل هو أقرب ما يكون إلى حلم بـ«دنيا تانية ومصر جنة»، جيل كان صوت «منير» أحد عناوينه، وهو ينتقل بسلاسة إلى مرحلة أكثر تحرراً فى التعبير عن المشاعر والأفكار.

«إيه يا بلاد يا غريبة ...» رددنا مع منير، ونحن نستقبل أيام المراهقة الحالمة الغاضبة، الباحثة عن الذات، والحالمة بالأفق.

وقتها كان حجاب الأكبر منا سنا والأكثر شباب وحيوية .. يفتح نافذة جديدة على المجتمع ، ويرسخ لفن «التترات»، الذى ظل فارسه - البريموبلا منازع حتى اللحظة، كانت الدراما التليفزيونية تقترب أكثر فأكثر من وجدان الناس، بدءا من مسلسل السابعة والربع- على القناة الأولى وقتها- وصولا لزمن الفضائيات بالجملة.. دقائق «التتر» تحولت من لحظات انتظار للحدث الدرامى إلى «متعة خالصة» بأغنيات حرة من قيود صناعة الموسيقى وتجارتها، أفكار مبتكرة ومفردات تحمل من الدراما ما لايقل عن الحلقة ذاتها، 
«أبنائى الأعزاء .. صيام صيام .. أبواب المدينة... أولاد آدم.. الشهد والدموع..».. من خفة الدم الملائمة لدراما اجتماعية خفيفة، إلى شجن صاف يكثف ملحمة إنسانية تسكنها التناقضات، 
أصبح «التتر»  فناً قائماً بذاته، جامعة شعبية مفتوحة، أفقا للغناء البديل، بلغ أحد أهم ذراه فى «ليالى الحلمية» مع موسيقار موهوب لم ينل حتى اللحظة حقه هو  الموسيقار «ميشيل المصرى»  اسما وجوهرا ــ وهو «التتر» الذى لازم الناس لسنوات، ومعه ردد الملايين كلمات قد لا يصدق البعض أنها جزءً من «شعر عامى»، مثل «ائتلاف الهوى» و«احتضار الروح» وغيرها..

ولا أظن أنى وحدى من ينتظر إحدى إعادات هذا المسلسل أو ذاك ليستمتع فقط بـ«التتر» ثم ينتقل بالريموت إلى قناة أخرى..

«أرابيسك » كانت ذروة أخرى من الذرى الإبداعية التى ركز حجاب فيها رايته ، وأعلن نفسه حاكماً بأمره فى مملكة الجناس الناقص، التى تهواها الذائقة الشعبية المصرية، 
«ويرفرف العمر الجميل الحنون ويفر ويفرفر فى رفة قانون».

....

«دنياك سكك.. حافظ على مسلكك وامسك فى نفسك لا العلل تمسكك اهلك لتهلك.. دانت بالناس تكون»

....

ومن خلال موضوعات الدراما خاض حجاب في مناطق غير مأهولة غنائيا، فقدم أغنيات عن الناس والتغيرات ، والزمن ، كما قدم حالة فنية مبهرة عن علاقات الصداقة :

«ادي ايدي .. مد ايدك .. جرحى جرحك وعيدي عيدك

ود دافى .. نبع صافى .. شىء كأنه نيل موافى

من وريدى ومن وريدك ...يا صديقى مد ايدك»

وأثناء استيطانه منطقة «التترات» الدرامية، صال حجاب هنا وهناك، بشروطه، فقدم مع توأم إبداعه الموسيقار الراحل عمار الشريعى تجارب خاصة جداً منها ثلاثة البومات للأطفال مع عفاف راضى ومثلها تقريبا مع فرقة «الأصدقاء» التى كانت لسان حال جيل يفكر ويرى الحياة بشكل مختلف فى أوائل الثمانينيات من القرن الماضى !! «القرن العشرين أو قرن العجائب بات ماضيا ..»

أما فى السينما فتركت تجاربه القليلة فيها بصمات فريدة ، فمع رفيق نجاحاته التليفزيونية الكاتب أسامة أنور عكاشة ، قدم «كتيبة الإعدام» الذى انتصر أبطاله لنا ، وأعدموا الفساد والخيانة التى لم نتمكن من إعدامها فى الحقيقة فاستشرت وتوحشت ، ومن أجلهم جاشت المشاعر وارتجت جدران السينما ونحن نردد :

«حبيبتي من ضفايرها طل القمر

وبين شفايفها ندى الورد بات

ضحكتها بتهز الشجر والحجر

وحنانها بيصحي الحياة فى النبات

حبيبتي بتعلمني أحب الحياة»

وطبعا لا يمكن إغفال  «شقاوة» تجربة الأراجوز التي أودعها كل خفة ظل العامية المصرية

«أراجوز .. أراجوز .. إنما فنان

فنان .. أيوه .. إنما أراجوز

و يجوز يا زمان أنا كنت زمان

غاوي الأرجزة طياري .. يجوز

إنما لما الكيف بقى إدمان

باجي أبص لشيء واحد أرى .. جوز

أرى إيه؟ أرى إيه؟ أرى أرى أراجوز»

.....

مفهوم الالتزام في شعر وذهنية الراحل كان واضحا دونما التباس، بخلاف آخرين تخبطوا فيه وحوله كثيرا.

في واحد من لقاءاته التليفزيونية القليلة تحدث سيد حجاب عن تجربة «تتر» مسلسل الوسية  معتبرا أن الأغنية التي انفصلت حتي عن المسلسل وأصبحت لها حياتها الخاصة ، صرخة اطلقها محاولا ترجمة التعقيب العفوى للإنسان المصرى علي ما لا يرضيـه بـ«لا إله إلا الله» ..

«مين اللي قال الدنيا دي وسية

فيها عبيد مناكيد وفيها السيد

سوانا رب الناس سواسية

لاحد فينا يزيد ولا يخس ايد»

ملتزما دونما «زعيق» .. ظل شعر سيد حجاب، فهو ابن هذه الأرض، وقريب ونسيب كل الناس، منهم تنبع كلماته، ولهم ومن أجلهم يكتب الشعر، هو الفنان الملتزم ، لا الجامد، وهو الشاعر الوطنى الذى كتب لأول وآخر مرة ديباجة الدستور،الذى وضع ليكون كلمة سواء لكل المصريين عقب ثورة يونيو، والتى بدأها قائلا:

«مصر هبة النيل.. وهبة المصريين للإنسانية مصــــر العربيــة بعبقرية موقعها وتاريخها، قلب العالم كله، وملتقى حضاراته وثقافاته ،مصر وطن خالد للمصريين ورسالة سلام ومحبة لكل الشعوب..» وختمها - الديباجة - قائلا:

نحن المواطنات والمواطنون.. نحن الشعب المصرى السيد فى الوطن السيد.. هذه إرادتنا.. هذا دستور ثورتنا.. هذا دستورنا.

«أيــــــــــااام»

أيام مضت ، لم يختمر الحلم، لم تصمد أغلب تفاصيله فى مواجهة عثرات الطريق، أيام مضت وها هو سيد حجاب يرحل مودعا وطناً وجيلا يأبى إلا أن يكمل مسيرته متمسكاً بحلمه.

«أيام ..أيااام .. أياااام»..صغيرا نقشت الكلمات عطرها فى ذهنى، كنت طفلا فى العاشرة، أو حولها، حلماً يتشكل فى رحم الزمان والمكان، بيتنا ليس به جهاز تليفزيون ككثير من البيوت وقتها، وما أن تميل الشمس للغروب حتى «أطير» من منزلنا بحى «الحلمية الجديدة» بالدرب الأحمر إلى منزل عمتى فى «حارة الروم» بحى الغورية.. «أشوط» حجارة الطريق بقدمى وأنا اتمايل طرباً مع النغم الذى يتردد  فى ذهنى «أياااام»..

ربما لم أكن أعلم وقتها أن كاتب الكلمات، شاعر مثقف  هجر الفصحى إلى العامية ليعبر عن الخصوصية المصرية، مستفيداً من جماليات العامية المصرية ومفرداتها التى تشكلت عبر آلاف السنين من اختلاطها بلغات ولهجات أخرى، وأثراها الوعى الجمعى للمصريين.

ربما لم أكن أعلم وقتها أن كاتب الكلمات اسمه سيد حجاب، لكن شيئا ما ربطنى - ونسبة لا يستهان بها من جيلىبهذا المبدع وهذه الكلمات.. الارتباط رسخته أعمال تالية، عبر فيها حجاب عن جيل يولد ــ أصبح الآن فى الخمسين أو حولها ــ جيل هو أقرب ما يكون إلى حلم بـ«دنيا تانية ومصر جنة»، جيل كان صوت «منير» أحد عناوينه، وهو ينتقل بسلاسة إلى مرحلة أكثر تحرراً فى التعبير عن المشاعر والأفكار.

«إيه يا بلاد يا غريبة ...» رددنا مع منير، ونحن نستقبل أيام المراهقة الحالمة الغاضبة، الباحثة عن الذات، والحالمة بالأفق.

وقتها كان حجاب الأكبر منا سنا والأكثر شباب وحيوية .. يفتح نافذة جديدة على المجتمع ، ويرسخ لفن «التترات»، الذى ظل فارسه - البريموبلا منازع حتى اللحظة، كانت الدراما التليفزيونية تقترب أكثر فأكثر من وجدان الناس، بدءا من مسلسل السابعة والربع- على القناة الأولى وقتها- وصولا لزمن الفضائيات بالجملة.. دقائق «التتر» تحولت من لحظات انتظار للحدث الدرامى إلى «متعة خالصة» بأغنيات حرة من قيود صناعة الموسيقى وتجارتها، أفكار مبتكرة ومفردات تحمل من الدراما ما لايقل عن الحلقة ذاتها، 
«أبنائى الأعزاء .. صيام صيام .. أبواب المدينة... أولاد آدم.. الشهد والدموع..».. من خفة الدم الملائمة لدراما اجتماعية خفيفة، إلى شجن صاف يكثف ملحمة إنسانية تسكنها التناقضات، 
أصبح «التتر»  فناً قائماً بذاته، جامعة شعبية مفتوحة، أفقا للغناء البديل، بلغ أحد أهم ذراه فى «ليالى الحلمية» مع موسيقار موهوب لم ينل حتى اللحظة حقه هو  الموسيقار «ميشيل المصرى»  اسما وجوهرا ــ وهو «التتر» الذى لازم الناس لسنوات، ومعه ردد الملايين كلمات قد لا يصدق البعض أنها جزءً من «شعر عامى»، مثل «ائتلاف الهوى» و«احتضار الروح» وغيرها..

ولا أظن أنى وحدى من ينتظر إحدى إعادات هذا المسلسل أو ذاك ليستمتع فقط بـ«التتر» ثم ينتقل بالريموت إلى قناة أخرى..

«أرابيسك » كانت ذروة أخرى من الذرى الإبداعية التى ركز حجاب فيها رايته ، وأعلن نفسه حاكماً بأمره فى مملكة الجناس الناقص، التى تهواها الذائقة الشعبية المصرية، 
«ويرفرف العمر الجميل الحنون ويفر ويفرفر فى رفة قانون».

....

«دنياك سكك.. حافظ على مسلكك وامسك فى نفسك لا العلل تمسكك اهلك لتهلك.. دانت بالناس تكون»

....

ومن خلال موضوعات الدراما خاض حجاب في مناطق غير مأهولة غنائيا، فقدم أغنيات عن الناس والتغيرات ، والزمن ، كما قدم حالة فنية مبهرة عن علاقات الصداقة :

«ادي ايدي .. مد ايدك .. جرحى جرحك وعيدي عيدك

ود دافى .. نبع صافى .. شىء كأنه نيل موافى

من وريدى ومن وريدك ...يا صديقى مد ايدك»

وأثناء استيطانه منطقة «التترات» الدرامية، صال حجاب هنا وهناك، بشروطه، فقدم مع توأم إبداعه الموسيقار الراحل عمار الشريعى تجارب خاصة جداً منها ثلاثة البومات للأطفال مع عفاف راضى ومثلها تقريبا مع فرقة «الأصدقاء» التى كانت لسان حال جيل يفكر ويرى الحياة بشكل مختلف فى أوائل الثمانينيات من القرن الماضى !! «القرن العشرين أو قرن العجائب بات ماضيا ..»

أما فى السينما فتركت تجاربه القليلة فيها بصمات فريدة ، فمع رفيق نجاحاته التليفزيونية الكاتب أسامة أنور عكاشة ، قدم «كتيبة الإعدام» الذى انتصر أبطاله لنا ، وأعدموا الفساد والخيانة التى لم نتمكن من إعدامها فى الحقيقة فاستشرت وتوحشت ، ومن أجلهم جاشت المشاعر وارتجت جدران السينما ونحن نردد :

«حبيبتي من ضفايرها طل القمر

وبين شفايفها ندى الورد بات

ضحكتها بتهز الشجر والحجر

وحنانها بيصحي الحياة فى النبات

حبيبتي بتعلمني أحب الحياة»

وطبعا لا يمكن إغفال  «شقاوة» تجربة الأراجوز التي أودعها كل خفة ظل العامية المصرية

«أراجوز .. أراجوز .. إنما فنان

فنان .. أيوه .. إنما أراجوز

و يجوز يا زمان أنا كنت زمان

غاوي الأرجزة طياري .. يجوز

إنما لما الكيف بقى إدمان

باجي أبص لشيء واحد أرى .. جوز

أرى إيه؟ أرى إيه؟ أرى أرى أراجوز»

.....

مفهوم الالتزام في شعر وذهنية الراحل كان واضحا دونما التباس، بخلاف آخرين تخبطوا فيه وحوله كثيرا.

في واحد من لقاءاته التليفزيونية القليلة تحدث سيد حجاب عن تجربة «تتر» مسلسل الوسية  معتبرا أن الأغنية التي انفصلت حتي عن المسلسل وأصبحت لها حياتها الخاصة ، صرخة اطلقها محاولا ترجمة التعقيب العفوى للإنسان المصرى علي ما لا يرضيـه بـ«لا إله إلا الله» ..

«مين اللي قال الدنيا دي وسية

فيها عبيد مناكيد وفيها السيد

سوانا رب الناس سواسية

لاحد فينا يزيد ولا يخس ايد»

ملتزما دونما «زعيق» .. ظل شعر سيد حجاب، فهو ابن هذه الأرض، وقريب ونسيب كل الناس، منهم تنبع كلماته، ولهم ومن أجلهم يكتب الشعر، هو الفنان الملتزم ، لا الجامد، وهو الشاعر الوطنى الذى كتب لأول وآخر مرة ديباجة الدستور،الذى وضع ليكون كلمة سواء لكل المصريين عقب ثورة يونيو، والتى بدأها قائلا:

«مصر هبة النيل.. وهبة المصريين للإنسانية مصــــر العربيــة بعبقرية موقعها وتاريخها، قلب العالم كله، وملتقى حضاراته وثقافاته ،مصر وطن خالد للمصريين ورسالة سلام ومحبة لكل الشعوب..» وختمها - الديباجة - قائلا:

نحن المواطنات والمواطنون.. نحن الشعب المصرى السيد فى الوطن السيد.. هذه إرادتنا.. هذا دستور ثورتنا.. هذا دستورنا.

«أيــــــــــااام»

أيام مضت ، لم يختمر الحلم، لم تصمد أغلب تفاصيله فى مواجهة عثرات الطريق، أيام مضت وها هو سيد حجاب يرحل مودعا وطناً وجيلا يأبى إلا أن يكمل مسيرته متمسكاً بحلمه.

    الاكثر قراءة