فى كل مرة أقوم بزيارة بلدتى بريف محافظة بنى سويف خلال الخمس سنوات الأخيرة أعود موجوع القلب، وحزيناً على تدهور حال فلاحى مصر، وانهيار مهنة الزراعة، ويبدو أنها ستنقرض كغيرها من عشرات المهن والحرف المعبرة عن الهوية المصرية دون أن يحرك الأمر الجلل ساكنا للوزارات المتعاقبة، رغم أن أغلب وزراء ما بعد ثورة يناير خرجوا من القرى والنجوع، ولكنهم تنكروا لأصلهم إلا ما رحم ربى.
شكاوى الفلاحين من وقف الحال واضحة للعيان، وصرخاتهم لا تجد لها آذناً صاغية، ولا قلباً رحيماً لأنهم من أصحاب الصوت المنخفض، يعملون فى صمت، لا تسمع منهم إلا ضربات الفؤوس فى الأرض لكسب لقمة عيش بالحلال ومن عمل اليد، لم يخرجوا يوما فى مظاهرات فئوية، لم يقطعوا طريقا، لم يحرقوا إطارات سيارات، لم يروعوا الآمنين، لم يرددوا شعارات معادية ضد الحكومة رغم أن مشاكلهم تنوء بحملها الجبال؛ فأسعار المحاصيل فى الحضيض فى الوقت الذى تضاعفت فيه أسعار مستلزمات الإنتاج من سماد ومبيدات وأيدٍ عاملة عدة مرات.
وسألنى الحاج على حسن - أحد المزارعين المعروفين فى محيط الدايرة ـ سؤالا ينطوى على ذكاء وفصاحة الفلاح المصرى البسيط عبر الأزمان « تعرف يا أستاذ مين الفلاح اللى كسب فى زرعية الصيف الموسم ده ؟» فقلت مين ؟، فجاء رده مفاجئا نزل علىَّ كالصاعقة « اللى بور أرضه ووفر فلوسه «، وعندما شاهد ذهولى قال « الفلاحين محدش حاسس بيهم سوء الأسعار من ناحية وارتفاع الحرارة من ناحية تانية ضربهم فى الصميم، الإنتاج تراجع والسعر لا يرضى «عدو ولا حبيب»، تخيل سعر أردب الذرة الشامية بـ ٢٤٠ جنيهاً، والفدان جاب ٥ أرادب رغم أن مصاريفه لا تقل عن ١٥٠٠ جنيه غير شقانا وتعبنا اللى راح هدر، الغريب أن سعر العلف اللى بيتصنع من الذرة أكتر من ٤ آلاف جنيه للطن، مين يحل الفزورة دى».
طبعا لم أستطع حل هذه الفزورة، وحاولت الهروب من الحاج على حسن بمطالبته بزراعة محاصيل أخرى ومنها الذهب الأبيض أى القطن فقال « عمرك أطول من عمرى، أنا فعلا كنت هكلمك عنه، عارف أن الفدان بيتكلف على الأقل ٤ آلاف جنيه، ويحتاج لصبر أيوب عشان النبات بيفضل موجود فى الأرض لمدة ٧ أشهر، بينما لا يتعدى حجم المحصول ٦ قناطير، وكان عشم المزارع أن يكون التسعير عادلا ومنصفا لكل فلاحى مصر، ويتناسب مع نار الانتظار من أول يوم لوضع البذرة فى الغيط، وسهر الليالى فى جمعه، لكن جاء القرار مخيبا للآمال، وحددت الحكومة سعرين ١٤٠٠ جنيه للوجه البحرى و١٢٠٠ للوجه القبلى، وليه التفرقة بين مزارعى الدلتا والصعيد مش كلنا زارعين قطن، إحنا نبطل زراعة أحسن طالما مش جايبة همها، وعوضنا على الله».
قبل أن ينتهى كلامى مع الحاج على قفز إلى ذهنى حديث مطول دار بينى وبين د. إسماعيل عبد الجليل رئيس مركز بحوث الصحراء السابق وأحد الخبراء العالميين فى مجال الزراعة عندما طلبت منه المقارنة بين اهتمام الدول الغربية بمزارعيها وبين ما يحدث لدينا خصوصا أنه زار وحاضر فى أكثر من عاصمة أوربية، واطلع بنفسه على تجاربها الزراعية فقال: «لا وجه للمقارنة، ففى الغرب وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية يطلقون على الفلاح «صانع الحياة» لأنه يحافظ على التوازن البيئى بمحاصيله التى تنقى الهواء من غاز ثانى أكسيد الكربون، وترفع معدلات الأوكسجين فى الجوى، وفى الوقت نفسه تعتبره حصناً منيعاً لتوفير الأمن الغذائى بزراعة المحاصيل الإستراتيجية وعلى رأسها القمح والأرز، المزارع فى الغرب له تأمين صحى شامل على أعلى مستوى يغنيه عن بهدلة المستشفيات العامة قبل الخاصة، ومعاش آدمى يحترم ظروفه فى حالة الإصابة وكبر سنه عند الشيخوخة، ومهنة الفلاحة ليست للسخرية وقلة القيمة كما يحدث لدينا بل مجال يحظى باحترام الجميع».
بصريح العبارة الفلاحون غاضبون من الدولة، ويترحمون على أيام ما قبل ثورة يناير لأن أسعار المحاصيل مقابل المستلزمات كانت مقبولة، وكان يوسف والى وزير الزراعة الأسبق يعفيهم من نصف ديون بنك التنمية الزراعية مع كل انتخابات برلمانية لتخفيف الهموم، ولدعم مرشحى الحزب الوطنى المنحل، وبالطبع لتقليل الكبت حتى لا يتولد الانفجار، فهل تدرك الدولة خطورة تجاهل هذه الفئة قبل فوات الأوان، أم سينقرض صناع الحياة بفعل الإهمال؟ .. والله أعلى وأعلم.
كتب : عبد اللطيف حامد