الثلاثاء 11 يونيو 2024

الشاعر الدنماركي سليم العبدلي لـ"الهلال اليوم": القاهرة بوابتي إلى الثقافة العربية

فن8-5-2018 | 16:11

يصر الشاعر الدنماركي العراقي الأصل سليم العبدلي على أن تكون القاهرة منصة لإصدار مجموعاته الشعرية، فها هو بعد أن أصدر مجموعتين شعريتين على مدار السنوات العشر الأخيرة "الأمنكة مقابر الوقت" و"من رائحة الفراق"، يجئ للاحتفاء بإصداره الشعري الثالث "همس المرآة أسرار الجسد" الصادر أخيرا عن دار ابن رشد، حيث يقيم أكثر من ندوة وأمسية بين القاهرة والإسكندرية.

وسليم  العبدلي عالم فيزياء وأستاذ في جامعة كوبنهاجن كثير الترحال والتنقل بيـن بلدان العالم محاضرا ومناقشا وأستاذا في جامعاتها،الأمر الذي ساعد في نمو علاقة فريدة بينه وبيـن بعض الامكنة التي تركت شيئا ما في وجدانه. وقد انعكس ذلك واضحا على تجربته التي حفلت بأسماء المدن من بكين شرقا إلى نيويورك غربا.

يقول العبدلي "اعتدت ومنذ التسعينات على زيارة مصر على الأقل مرة في العام، وجعلت منها بوابتي إلى الثقافة العربية، ومكان لقاء مع المثقفين العرب. والسبب بسيط جدا، لأني ومنذ زيارتي الأولى لم أشعر بأي غربة، على العكسخلال هذه الاعوام تعززت علاقتي مع مصر والقاهرة والاسكندرية تحديدا، مع الأصدقاء الشعراء والمثقفين فيهما. إن علاقتي مع المدينة هي تلك العلاقة التي تخلق بسبب طبيعة المدينة من حر وبرد وليل ونهار، طبيعة أهلها، طبيعة يومياتها التي تتسم بطقوس يمارسها المرء فقط في هذه المدينة، وفقط عندما يحط فيها.

ويضيف "في مصر أجد نفسي أعيش بشكل مختلف عما اعتدت عليه في مدينتي أو في أي مدينة اخرى أزورها، ناهيك عن المدن التي  استقريت فيها. فهنا، في مصر، يختلط الليل بالنهار حتى لا يعود للوقت أي دور فعال في اليوم، وتنعدم، على عكس ما يقال، حالة الاجهاد التي تفرض على الزائر بسبب التقيد والالتزام بالمواعيد وإيداعها في حيز صغير من اليوم، وأذكر أن أول لقاء أجريته مع صحفي مصري، الشاعرأحمد الشهاوي من الأهرام، كان بعد منتصف الليل. والأجمل من ذلك، بعد الانتهاء من اللقاء الصحفي، دعاني الشهاويإلى إفطار مبكر في أحد أحياء القاهرة، حيث التقيت بالقاهريين الذين كانوا يختلفون تماما عن القاهريين خلال أوقات اليوم الاخرى. وذات مرة أمضيت سهرة في بلكونة مع صديقين، ولفت انتباهي ان البناية المقابلة لنا، حيث كنا نجلس، لم تنطفئ أنوارها في كل البناية ولو لمرة واحدة، فقد كانت اضواء منازل تلك البناية تنطفئ وتنير بالتناوب. أدهشني الأمر وعندما سألت مضيفتي قالت إن سكان القاهرة ينقسمون إلى ليليين وصباحيين، حتى في العائلة الواحدة وفي المنزل الواحد. هناك مدن قليلة جدا تجد فيها ما تشتهيه في أي وقت من اليوم والقاهرة إحدى هذه المدن.

أما عن العواصم العربية الاخرى، فبغداد منذ أن تركتها  في نهاية السبعينات وهي محتلة ويحكمها اللصوص، دمشق أحن إليها ولكنها لا تؤتمن، بيروت أعشقها ولكنها اسيرة رأس المال وموبئة بالأمراض الطائفية، أما تونس والرباط فلي زياراتي لهما ولكنهما بعيدتين عن العالم العربي.وكما تعلم أنا صديق وفيّ جدا للمدائن، ولكني لا أستطيع أن أدعي الاخلاص، ولذا كتبت أكثر من قصيدة عن القاهرة وعن الاسكندرية، وفي كلتا المدينتين.

وحول إصراره على نشر أعماله الشعرية في القاهرة يشير العبدلي "أما السبب في اصدار كتبي في القاهرة، فيعود إلى نفس السبب، ألا وهو الشعور بالالفة في هذه المدينة، إضافة إلىإنني نشرت بالعربية متاخرا، وذلك لانشغالي بعملي الاكاديمي وبحوثي العلمية التي كانت تستحل معظم وقتي. خلال أعوام عدم النشر العربي تأسست علاقات أدبية وثقافية جذرية في هذه القاهرة الجميلة، فلم يكن غريبا أن يصدر كتابي العربي الأول “الأمكنة مقابر الوقت” هنا. وقد جاء بعد ذلك قبول المصريين للكتاب الاول، والتعاطف معه مما شجعني لاعادة التجربة في ديواني  الثاني لكي أتأكد من علاقة الوسط مع أدبي، وكان ذلك عام 2015، وبالفعل تكررت التجربة في "من راحة الفراق” وأسعدتني أذرع المصريين التي “اخذتني في الحضن”. وها انا اعيد التجربة للمرة الثالثة في ديواني الجديد “همس المرآة أسرار الجسد” وكل أملي أن لا تخيب الآمال بالكتاب، وأن تبقى الأذرع المصرية مفتوحة.

ويوضح العبدلي "علاقتي مع المكان، كما أشرت إليها، علاقة يفرضها المكان ذاته عليّ، يفرضها بسماته وخصائصه التي تجذبني، تسحرني وتؤسني، حيث في النهاية يصعب علي تركه، فتجده يتكرر في قصائدي، لأنه يشغل الوجد والذاكرة. كذلك هناك تلك الأمكنة التي تعيد في ذكراها الآلام والخيبة والأسى، وهناك منها الذي يبعث على التقزز ويدفعك الى مغادرة المدينة بأسرع وقت. والمكان عندي لا يمكن تصله عن الزمان، عن الوقت، فهما مترادفان، ويثبت وجود أحدهما الآخر، أو كما نعبر عنه في العلوم الطبيعية، بأنهما متلازمان، ولا يمكن وجود أحدهما بدون الآخر، حيث الوقت ليس إلا وحدة قياس لتغير الذي يحدث في المكان، والمكان ليس إلا وحدة قياس لما مضى من الوقت. ومنذ أن كنت طالبا في الدراسات الطبيعية كنت أجد هذه الظاهرة ساحرة. وبعد أن تعرفت عن علاقتي مع المكان، فإن علاقتي مع الوقت كذلك، تفرض نفسها بفعل الوقت، فانا أرى كيف يتكثف الوقت في اللحظة، البعض لسميها الحاضر والبعض يؤمن بوجودها فقط، أي إنه ليس هناك أي ماضي أو مستقبل، وإنما حاضر ينتقل بعد قليل ليصبح حاضرا جديدا. هذا طرح فلسفي طبيعي، ولا أخفي عليك أني أجده شديد الجاذبية، ولذا كتبت عنه أيضا عندما خاطبت اللحظة وسألتها عدم الغرور، وذلك لأن شرطي الوقت، بعد قليل، سيلقي عليها القبض ويرميها في زنزانة الماضي محكوم عليها في السجن مدى الحياة.

ويؤكد العبدلي أن الوقت والزمان والمدى الزمني لا يمكن فصلها عن الذاكرة، وكما نعلم للذاكرة دور هام في وجدان وضمير الانسان، وهي التي تعلو وتهبط في الانسان، لما يتعلمه من حسن وغير حسن من التجارب التي خزنت في الذاكرة، بدلا من التعامل مع الذاكرة وكأنها براد "ثلاجة"أو "مجمدة" نحفظ فيها لحوم تجاربنا لكي نخرجها متى نشاء لكي نقضم منها شيئا، أتعامل معها وكأنها أنا الآخر، قريني الملازم لي وله أن يلازمني متى ما شاء هو، ليس أنا، وقد يغادرني للابد، وهذا ما ندعوه بالنسيان أو مرض الخرف أو الزهايمر كما يسميه المصريون. فالذاكرة هي الآخر فينا وتتقلب، ولكن هل يا ترى ما نتذكره قد وقع فعلا؟ أم أن أمنيتنا أن يكون قد حدث؟ أم أن هناك من شاركتهم فيه يظنون أن ذلك قد حدث؟.. أما ومنذ هجرتي من بغداد وللآن أجد نفسي أبحث عن مكان لي، مكانأنتمي إليه وينتمي لي، فهناك العديد من المدن.