يزداد المشهد في إيطاليا تأزما يوما بعد
يوم في ظل استمرار تعثر تشكيل الحكومة بعد قرابة ثلاثة أشهر من الانتخابات البرلمانية
التي فازت فيها الأحزاب الشعبوية ، غير أنها لم تنجح في تشكيل حكومة.
وتصاعد الموقف بعد رفض الرئيس الإيطالي
"سيرجيو ماتاريلا" تعيين المعارض للاتحاد الأوروبي باولو سافونا وزيراً للاقتصاد
ضمن ائتلاف حكومي يرأسه "جوزيبي كونتي" ويضم حزب "الرابطة" اليميني
المتطرف وحركة "5 نجوم" المناهضة للمؤسسات التقليدية وهو ما أدى إلى اعتذار
كونتي عن تشكيل الحكومة، وتكليف "كارلو كوتاريلي" -المسؤول السابق بصندوق
النقد الدولي -رئيسا مؤقتا للحكومة مع تكليفه بالتخطيط لإجراء انتخابات مبكرة وإقرار
الموازنة المقبلة.
ويبدو أن تشكيل حكومة يقودها كوتاريلي لن
يكون سوى حل قصير الأمد على الأرجح وأن إجراء انتخابات مبكرة هو السبيل الوحيد للخروج
من المأزق الراهن حيث من المستبعد أن يحصل كوتاريلي على ثقة البرلمان الذي يسيطر عليه
الشعبويون، خاصة أن تعيين كوتاريلي رئيسا للوزراء قد أثار غضب حركة "خمس نجوم"
و"الرابطة القومية اليمينية"، اللتين تم الإطاحة بآمالهما في تشكيل أول حكومة
شعوبية في أوروبا. لذلك يتوقع أن يقوم كوتاريلي بتسيير شئون البلاد حتى إجراء الانتخابات
المبكرة في سبتمبر أو أكتوبر المقبلين.
وتعد هذه الأزمة من أصعب الأزمات التي شهدتها
إيطاليا خلال العقود الأخيرة. فمنذ إجراء الانتخابات البرلمانية في 4 مارس الماضي،
دخلت البلاد في حالة من الفوضى السياسية في ظل الإخفاق المستمر في تشكيل الحكومة وهو
ما أدى إلى انتشار حالة من التخبط على الساحة الإيطالية.
كما تسببت الأزمة في اضطراب الأسواق المالية
نتيجة تزايد حدة المخاوف من التوجهات الاقتصادية المحتملة للتحالف الشعبوي الذي كان
قريبًا من تشكيل الحكومة في إيطاليا، حيث ارتفعت العائدات على السندات الحكومية الإيطالية
لمدة عشرة أعوام بصورة كبيرة لتتجاوز 3 في المائة لأول مرة منذ منتصف 2014. وشهدت أسواق
الأسهم في ميلانو تراجعا بأكثر من 3 في المائة كما تخطى الفارق بين معدلات الفائدة
على القروض الإيطالية والألمانية لعشر سنوات 300 نقطة، وهو ما يعكس القلق المتزايد
حيال الأزمة السياسية في إيطاليا.
وانخفض اليورو إلى أقل من 1.16 دولار للمرة
الأولى في ستة أشهر ونصف الشهر، متراجعا 0.3 في المائة ، كما تراجع بأكثر من 4 في المائة
منذ بداية شهر مايو الجاري ، وهو بصدد تسجيل أكبر انخفاض شهري في أكثر من ثلاث سنوات.
ولا يبعث المشهد الراهن في إيطاليا على
التفاؤل، حيث أن إجراء انتخابات جديدة لا يبدو أنه الحل الأمثل في ظل هذه الأجواء المضطربة
، ويرجح المراقبون أنه قد يؤدي إلى تقدم جديد للتيار الشعوبي مثل ما أسفرت عنه انتخابات
مارس الماضي.
وقد أظهرت استطلاعات رأي أجراها مؤخرا معهد
"اندكس ريسرتش" للأبحاث حصول الرابطة على 22 بالمئة من الأصوات، أي أكثر
بخمس نقاط من النتيجة التي حققتها في انتخابات 4 مارس الماضي.
ويرى المراقبون أن الأوضاع الصعبة التي
تشهدها البلاد هي التي دفعت المواطن لانتخاب الأحزاب الشعبوية. فمن ناحية ارتفعت نسبة
البطالة لتسجل 11٪، ووصل الدين الحكومي إلى 2,6 تريليون يورو أي ما يمثل 130٪ من إجمالي
الناتج المحلي الإيطالي، وهو ثالث أعلى مستوى مديونية في العالم بعد اليابان واليونان.
في ضوء ذلك كانت حزمة المساعدات التي قدمها
الاتحاد الأوروبي لإيطاليا للمساهمة في حل الأزمة مرتبطة ببعض الإجراءات الخاصة بخفض
النفقات، وهو ما أثار استياء المواطنين وأدى في نهاية المطاف إلى فوز حزبي "خمس
نجوم" و"الرابطة" في الانتخابات البرلمانية الأخيرة ، والحزبان يؤيدان
سياسة النمو لخفض الدين العام الإيطالي الهائل ويرفضان التقشف.
من ناحية أخرى تشكل قضية الهجرة، سواء الشرعية
أو غير الشرعية، أزمة متفاقمة داخل إيطاليا التي يتوجه إليها كل الحالمين بالهجرة إلى
أوروبا هربا من الظروف المعيشية القاسية. ومنذ عام 2013 وصل إلى سواحل إيطاليا نحو700
ألف مهاجر، من بينهم 7100 من ليبيا منذ بداية العام الجاري فقط، وتسبب هؤلاء القادمون
من ليبيا في تكلفة الدولة أكثر من 4.2 مليار يورو في 2017. كما وصل 3500 مهاجر من تونس
والجزائر واليونان خلال نفس الفترة.
وتشغل هذه القضية أبرز اهتمامات المواطنين
وهو ما دفع الناخب الإيطالي إلى التصويت لصالح التيار الشعبوي المناهض للهجرة أملا
في أن يساهم ذلك في تغيير الأوضاع، حيث كان الائتلاف الشعبوي يطرح - ضمن خططه الخاصة
بملف الهجرة - عددا من الإجراءات التي من شأنها الحد من موجات المهاجرين ، ومن أهمها
تعديل اتفاقية دبلن المتعلقة بطالبي اللجوء، وإعادة توزيع المهاجرين بين الدول الأعضاء
في الاتحاد الأوروبي فضلا عن تقييم إجراءات طلب اللجوء في بلد المنشأ، وتحسين الاتفاقات
الثنائية مع الدول الأجنبية تجنبا لتدفق مزيد من المهاجرين.
في ضوء المشهد السابق يبدو أن إيطاليا الآن
أمام اختيارات صعبة يقع على رأسها إجراء انتخابات مبكرة خلال الأشهر القادمة وهو ما
يبدو أنه الاختيار الأرجح في ظل الظروف الحالية. ويبدي فريق واسع من المراقبين تخوفه
من أن تدعم هذه الانتخابات موقف كل من "حركة خمس نجوم" و"الرابطة"
خاصة أنهما على الأرجح سيستغلان حرمانهما من تشكيل الحكومة لإلقاء اللوم على الرئيس
الإيطالي واستقطاب المجتمع لجذب أصوات انتخابية جديدة.
كما يبدي المراقبون تخوفهم من أن تتحول
الانتخابات المقبلة لتصبح بمثابة استفتاء حول وضع إيطاليا في أوروبا وبقائها داخل منطقة
اليورو مما قد يكون له عواقب وخيمة على الساحة الأوروبية.