الإثنين 1 يوليو 2024

بثينة .. ومقال من العالم الآخر .. عن السنباطى

22-3-2017 | 11:58

بقلم – عادل سعد

رحلت عن عالمنا بثينة البيلى.سيدة الوجه الصبوح والابتسامة الدائمة فارقتنا.كانت نغما أصيلا.وعلى عكس كل الكبار أول المدافعين عنا وأول من استقبل خطواتنا الأولى فى دار الهلال بترحاب كبير.عرفتها صحفية كبيرة للتحقيقات والاستطلاعات لا تهدأ تجوب المجاهل والصحارى والحدود وتغوص فى أعماق القرى.وتعشق التحقيقات الجريئة والبحث عن الحقيقة.وكانت قاعة الاجتماعات بدار الهلال مقرا لورشة عمل دائمة أسبوعيا.على رأسها بثينة بالجينز الرجالى والقميص الخشن .وأوراقها المتناثرة فى كل مكان من كثرة جمعها للمعلومات وحماسها للكتابة.وينتهى اليوم وبعده الأسبوع وتحتل كلماتها صفحات الغلاف وفى الاجتماع الأسبوعى نراها نجمة قمة فى الشياكة والجمال تشيع جوا من المرح والسعادة.

 

لن أتحدث عن علاقاتها الإنسانية مع العمال والسعاة والسائقين.ولا عن طاقة حيوية إيجابية تلف المكان بمجرد ظهورها.ولا انفراداتها الجريئة.لأننى سأفتقد أكثر تلك الإنسانة النبيلة.التى كانت تخجلنى بين وقت وآخر.بالاتصال للاطمئنان على أحوالى.كان صوت بثينة البيلى وتشجيعها وسط صراعات الذئاب وعواء الكلاب يدفعنى بعيدا.إلى مناطق أخرى من العمل والإبداع.ووجهها الباسم يطاردني.

ولا أعرف لماذا يطل مع رحيل بثينة البيلى وجه الراحل العظيم رياض السنباطى فقد كان كلاهما من المنصورة وأصيل ولا يتحمل الزيف. وأتذكر وجهها وسط كل هذا القبح فى عالم الأغانى.والصراع دائر ما بين مطرب مدمن يسرق الأغانى القديمة ومطرب آخر يبيعنا كناسة الموسيقى الهندى والأسبانى بالملايين ومطربة حمقاء تسب وتلعن وهى لا تدرك أن الأيادى رفعتها للسماء على نغمة شرقية واحدة تقول : « أاااه ياليل» لكنها بغباء هجرت موسيقانا لتقليد الروبابكيا السائدة.

وأاه لوكانت بثينة البيلى رحمها الله على قيد الحياة لكانت حرثت تلك الأرض الجدباء، فقد كانت كالسنباطى العظيم تمشى على الصراط ولا تحيد.ولكن دعونى أقدم السنباطى بمناسبة ١١٠ عاما على ميلاده على طريقة بثينة البيلى فى الكتابة.

فى أحد أيام عام ١٩٠٦ جاء رياض إلى الدنيا.

كان ذلك فى بلدة فارسكور من أعماق محافظة الدقهلية .الأرض الزراعية مغمورة بمياة تغوص فيها شتلات الأرز، والفلاحون عائدون إلى دورهم فى أطراف البلدة والتجار الصغار يتجمعون على المقاهى والنساء يطللن من النوافذ وهن يتناقلن نبأ ذلك الأصيل : «المغنواتى خلف ولد» .

كان الخبر ذائعا والمغنواتى هو السنباطى الكبير الذى كان نجم أفراح فارسكور وقد رزق بابنه الوحيد هذا بعد سلسلة من البنات لينشأ رياض وحيدا بين شقيقاته البنات مثل سيد درويش وزكريا أحمد.

تأثر رياض بوالده وقد كان عوادا مشهودا، وتعلم عشرات من الأدوار القديمة التى ظلت كنزا مدفونا فى أعماقه، وفى طفولته التقى بالشيخ سيد درويش، كان صديقا لوالده ولما سمع رياض قال لأبيه: «اترك لى رياض وأنا اتولاه» فقال السنباطى الكبير : «كيف اترك رياض يذهب معك إلى الإسكندرية وهو ساعدى الأيمن ؟»

فى هذا الزمن البعيد عند منتصف الليل وتحت خيمة محطة سكك حديد قرية درين بالمنصورة .. كانت أم كلثوم وأبوها وأخوها وأولاد عمها يغنون فى أحد الأفراح .. وكان رياض هو ووالده يتبادلان الغناء فى فرح ..وانتهى الفرحان فى وقت واحد .. وركبوا الحمير متجهين إلى المحطة فى انتظار القطار الفرنساوي.. وأشار السنباطى الكبير لابنه رياض وقال هذه أم كلثوم التى يتحدثون عنها .. ونظر رياض السنباطى لأول مره فى حياته ليجد أم كلثوم، ولم يكن قد سمع لها، وإنما سمع عنها فقط .. وكانت قصيرة القامة جداً . تلبس بالطو رجالى بصفين زراير و البالطو أسود . وكانت تلف رأسها بالعقال . . كانت أم كلثوم فى ذلك الوقت فى الثانية والعشرين من عمرها .. وكان وجهها فى غاية الحيوية . والذكاء هو عيناها.

حضر رياض إلى القاهرة وافدا من المنصورة فى العشرين من عمره، بناء على نصيحة سيد درويش، ووصل إلى العاصمة وحيدا، وبرغم معرفته بأم كلثوم التى صارت نجمة إلا أنه رفض أن يلجأ إليها لتساعده، وفى تواضع شديد وإنكار لذاته وموهبته وامتثالا لواقع الأمور والظروف تقدم بطلب للدراسة بنادى الموسيقى الشرقى (معهد الموسيقى العربية ) واختبرته فى البداية لجنة من جهابذة الموسيقى العربية مثل مصطفى رضا وحسن أنور وصفر على وقد اشتهر مصطفى رضا رئيس اللجنة بأنه متشدد ومتزمت لا يعجبه العجب ولا يمكن لأحد أن يحوز رضاه وإعجابه، وجلس رياض أمام اللجنة ومعه العود فعزف تقاسيم من مقامات مختلفة، ثم غنى بغاية الاتقان والبراعة من أصعب الموشحات لسيد درويش، فخيمت الدهشة على أعضاء اللجنة وأصيبوا بنوع من الذهول وظلت اللجنة تتهامس لعدة دقائق وهو مضطرب ينتظر حكمها، وفى النهاية نطق مصطفى بك لطفى مدير المعهد فقال: نحن قبلناك بالمعهد فنهض رياض شاكرا لينصرف ولكن مصطفى بك قال مكمّلا: لكننا لم نقبلك تلميذا، وأخذ الشاب وتساءل: ماذا إذن؟ فرد عليه مصطفى بك: نعينك مدرسا للعود وقررنا لك مكافأة ثلاثين جنيها، وتم تعيينه براتب أربعة جنيهات شهريا وصرف المكافأة التى قررت له على مدى ستة أشهر.

لم يستمر رياض طويلا فقد غادر المعهد بعد ثلاث سنوات فقط وقدم استقالته، أقام المعهد حفلا موسيقيا يحضره صاحب الجلالة الملك فؤاد ملك مصر بعد أن تغير اسم المعهد إلى معهد فؤاد الأول، وكان المفترض أن يعزف رياض فى الحفل الذى حضره الملك وكبار القوم فاصلا من العزف على العود، وفتح الستار عن السنباطى فحيته الجماهير وبدأ يعزف تقاسيمه، لكن حدثت ضوضاء وضجة من خارج القاعة. كان العمال يقومون بإعداد موائد الطعام الخاصة بالحفل وهذا يجعل أى فنان لا يستطيع التركيز كما أن الجماهير لا تستطيع الإنصات. لم تطاوعه نفسه وكرامته وبكل بساطة وهدوء توقف عن العزف ثم قام مغادرا المسرح، وهرول مصطفى بك رضا مدير المعهد وبعض رجال المعهد خلفه وحاولوا إعادته جاهدين إلى المسرح بدون فائدة، فلم يحدث فى تاريخ المعهد أن خرج عازف وترك الحفل فى حضرة جلالة الملك وبعد أيام وصلت للمعهد استقالة السنباطى.

رحم الله السنباطى العظيم ورحم بثينة البيلى فقد كانا نبتا أصيلا ومخلصا لهذا الوطن.