بقلم – رجائى عطية
هناك أسباب متعددة للتوقف عند الدولة أو الخلافة العثمانية ، فقد استمرت إمبراطوريتها نيفًا وسبعة قرون منذ القرن الرابع عشر الميلادى الثامن الهجرى ، وحققت فى هذه القرون انتصارات وأمجادًا لا تنكر ، إلاَّ أن حكم أكثرهم لم يكن حكمًا صالحًا كما قال الأستاذ أحمد أمين فى مقدمة كتابه عن زعماء الإصلاح فى العصر الحديث ، فلم يسوسوا الأمم سياسةً عادلة ، فقد عنوا بالحرب أكثر مما عنوا بالإدارة ونظم الحكم ، ومهروا فى الفتح أكثر مما مهروا فى إقامة صرح العلم ومتابعة السير بالحضارة ، فزاد العالم الإسلامى تدهورًا بتوالى الزمن ، وسادته ظلمة حالكة ومحنة شاملة وجهل مطبق وظلم فادح وفقر مدقع
وقد استمر حكم الدولة العثمانية لمصر نيفًا وخمسة قرون ، منذ عام ١٥١٧ م / ٩٢٣ هـ حتى سقوط الخلافة العثمانية على يد مصطفى كمال أتاتورك فى ٣ مارس ١٩٢٤ م / ٢٦ رجب ١٣٤٣ هـ ، وارتُكبت طوال هذه القرون كبائر فى حق مصر ، للأسف تاه كثير من ذلك على بعض المصريين انصياعًا للهوى الدينى ، أو على تقدير أن الخضوع للدولة العثمانية الإسلامية ، أخف وطأة من الخضوع للاحتلال الإنجليزى ، وظل حال الولاء للدولة العثمانية قائمًا فى نفوس الكثيرين تبعًا لهذا الهوى ، وتسلل منطق « قضا أخف من قضا » إلى عقليات كثيرة .
عاشت أجيال من المصريين ، ومنهم ـ فضلاً عن الأسرة العلوية ـ نبهاء وقادة وسياسيون ومفكرون ، يقرون بل ويوقرون السيادة العثمانية على مصر ، مدفوعين فى الغالب بالحنين إلى الإسلام وما يستدعيه ذلك من الخلافة باعتبارها التى جمعت الأمة الإسلامية ، وما كان قد تحقق من فتوحات وأمجاد ، منصرفين بحسن نية ، وانقيادًا للحلم ، عما لحق بالخلافة فى دولها المتعاقبة من ممارسات لا تنتمى حقيقةً للإسلام ، وأوغلت فى الدماء وأمعنت فى الاستبداد !!
ومن أغرب الغرائب أن يستمر هذا النظر المغلوط المهيض ، بينما الدولة العلية العثمانية لم تدفع عن مصر غائلة الاحتلال الإنجليزى عام ١٨٨٢ ، بل وسكتت عنه رعايةً لمصالحها ، وتبنت مع الخديوى توفيق إجهاض الحركة العرابية واتهام الزعيم أحمد عرابى فى لب المعركة ، بأنه مارق عاص ، فأصدر السلطان العثمانى قرارًا بالآستانة أعلن فيه «عصيان
عرابى !!!» ، وهو إعلان اقترن بدعوة الخديو توفيق الموالى للدولة العثمانية، بدعوته الأهالى للتسليم للإنجليز لأنهم يقصدون خير البلاد وإعادة النظام، واعتبار أوامر الأميرال الإنجليزى صادرةً من الخديو شخصيًّا، وأن المخالفين سيتعرضون لأشد العقوبات !!
فداحة المأساة
وسط هذا العوار والظلام المخيم ، نهض الزعيم أحمد عرابى ينادى بأن «مصر للمصريين»، وإنْ انحصر المعنى عنده فى طلب المساواة بين المصريين وبين الترك والجركس ، فلما رفع أحمد لطفى السيد الراية بأن تكون «مصر للمصريين» معلنًا أن الاستقلال الذى ينادى به مقدم على الاعتراف بالسيادة العثمانية ، إذْ بالقصر وحاشيته، وبعض الميالين بالهوى للخلافة العثمانية، يتخذون من مناداة أحمد لطفى السيد بالاستقلال التام ـ دليلاً «قانونيًّا» على «خيانة» السيادة المعترف بها للخليفة العثمانى والمتفق عليها فى العلاقات الدولية! كل ذلك رغم أنهار الدماء التى أُريقت على جدار السلطة بالدولة العثمانية منذ كانت !!!
الحرص على الستار الدينى
لدولة غارقة فى الدماء !!!
كان من الغريب أن يبحث السلطان سليم الأول، عن غطاء دينى لدولته العثمانية الغارقة فى الدماء من عشرات السنين، وقد روى الزعيم محمد بك فريد ، فارس الوطنية ، فى كتابه المميّز عن «الدولة العلية العثمانية»، روى رغم ميله الصريح لدولة الخلافة العثمانية، أن سليم الأول وهو التاسع فى سلسلة سلاطين الدولة العثمانية ـ حرص لدى نجاحه فى فتح مصر على أن يصطحب للآستانة الخليفة العباسى المتوكل على الله ( الثالث ) آخر ذرية الدولة العباسية الذى حضر أجداده لمصر بعد سقوط بغداد ، وأن هذا الخليفة «تنازل عن حقه فى الخلافة الإسلامية إلى السلطان سليم الأول العثمانى وسلمه الآثار النبوية الشريفة وهى البيرق والسيف والبردة وسلمه أيضًا مفاتيح الحرمين الشريفين»، وكأن محمدًا عليه الصلاة والسلام لم يترك إلاَّ هذه المتعلقات المادية، ولم يترك دينًا عظيمًا يهتدى به من يروم الهداية والصواب، ويضيف الأستاذ محمد فريد أنه «منذ ذلك التاريخ صار كل سلطان عثمانى أميرًا للمؤمنين وخليفة لرسول رب العالمين اسمًا وفعلاً !»، ودون أن يتفطن الزعيم محمد فريد إلى سبق المماليك إلى طلب سراب شرعية الخلافة التى التحفوا بها، وجعلوا الخلفاء الذين التحفوا بهم للشرعية، صورة ناطقة لخيال المآته ، لا قيمة ولا وزن ولا عمل لهم سوى الظهور فى المراسم لإقرار ما يريده القوى الفائز بالسلطة، ولا أظن أن السلطان سليم الأول أراد مما أظهره شيئًا غير ذلك، فقد روى محمد بك فريد القصة التى أعيا بعض كتاب التاريخ الحصول على مصدرها ، بينما المصدر ظاهر بكتاب «الدولة العلية» الذى ربما لم يعطوه وزنه بمظنة أن كاتبه ليس من المؤرخين، ولكن الزعيم محمد فريد أثبت بهذا الكتاب أنه زعيم متمكن فى التأريخ، لا يقل عن زعامته الوطنية التى جعلته ـ رغم ميله العثمانى ـ لا يبالى بما يُرضى الدولة العثمانية وهو أحوج ما يكون إلى رضاها وهو بين ظهرانيها هاربًا بالآستانة من تعقب السلطات الإنجليزية والمصرية ( المغلوبة ) لسجنه وإيذائه، وقد روى لنا الأستاذ عباس العقاد فى كتابه «رجال عرفتهم»، ما كان من محمد فريد ، فارس الوطنية، بل شهيدها، من موقف صلب إزاء الدولة العلية العثمانية رغم ميله إليها، فقد كان «محمد فريد» قد غادر وطنه مصر مغضوبًا عليه، والعداء بينه وبين الخديوى عباس على أشد ما يكون العداء، وقد علم وهو فى الآستانة أن العسكريين من رجال الدولة يقصدون بالحملة على مصر فى أثناء الحرب العالمية الأولى ـ أن يغيروا نظام الحكم فى البلاد المصرية ويتعرضوا لحقوقها وحقوق عرشها .. عَلِمَ هذا وهو فى قبضة أيديهم، وفى حاجة ماسة إلى كل معونة منهم، ولا ملاذ له من غضبهم فى مصر لأنها موصدة أمامه، ولا فى أوربا لأنها تضطرب بأهوال الحرب فى كل بقعة من بقاعها، فلم يحفل بشىء مما يصيبه من جراء غضبهم، وراح يعلنهم باستنكاره لخطتهم واحتجاجه عليهم، وعلق فى عروة كسائه شعار «مصر للمصريين» وقد كان أبغض شعار إلى القائمين بالأمر فى الآستانة يومذاك !
وروى الأستاذ العقاد أن صديقه الدكتور حسين همّت بك، أخبره أن طلعت باشا أخطر رجال الدولة التركية فى عهده ـ كان يمتعض كلما لمح ذلك الشعار الذى يحمله فريد وصحبه، وكان يعجب لأنهم ينكرون على الترك حكم مصر، بينما يتكلمون التركية خيرًا مما يتكلمها أهل الآستانة يومذاك !
كتاب الدولة العلية العثمانية
وأنهار الدماء التى أُريقت !!
لم تمنعه ميوله تجاه دولة الخلافة، من أن يقدم الأستاذ محمد فريد فى كتابه «الدولة العلية» ـ معلومات مدققة عن كبائر هذه الدولة فى إراقة دماء الأخوة والأبناء، منذ أن دانت لهم السلطة، بانحلال الدولة السلجوقية بموت السلطان «ملك شاه» فى ١٥ شوال ٤٨٥ هـ / ١٨ نوفمبر ١٠٩٢ م، فآلت كل مقاليد القوة إلى «أرطغرل» وهو والد «عثمان» رأس الدولة العثمانية، وإليه انتقلت السلطة ـ إلى «عثمان» ـ بوفاة أبيه أرطغرل فى سنة ٦٨٧هـ / ١٢٨٨م، ثم إلى السلطان الغازى «أورخان الأول» بوصية من أبيه تجاوز فيها علاء الدين الأخ الأكبر لعثمان ، فبدأ حكم «أورخان الأول» من رمضان سنة ٧٢٦هـ/ ١٣٢٥م، ولم يناوئه أخوه علاء الدين حيث قنع بوزارة المملكة، وهى الوظيفة التى سميت فيما بعد بالصدارة العظمى ، وسمّى شاغلها بالصدر الأعظم ، ومن السلطان
«أورخان الأول» انتقل الحكم سنة ٧٦١هـ /١٣٦٠م إلى ابنه السلطان الغازى «مراد خان الأول» .
بداية الدماء !
وخلال الفتوحات التى خاضها «مراد خان الأول» ، وانشغل بها ، تمرد «صاووجى» أحد أبناء السلطان على أبيه بالاتحاد مع «أندرونيكوس» ابن إمبراطور الروم، احتجاجًا على تجاوز والده له والتوصية بالملك بعده إلى ابنه الأصغر، بيد أن السلطان الأب لم يدع للشفقة الأبوية سبيًلا، وأرسل لمحاربة ولده المتمرد ـ مَنْ قَهَرَهُ ومن معه، ثم قتله! ولم يكتف السلطان العثمانى بقتل ابنه، وإنما طلب من ملك الروم قتل ابنه، ففقأ عينيه ونفاه حتى مات!
ويُعنى الأستاذ محمد فريد بالإشارة إلى أن العثمانيين لم ينفردوا بارتكاب هذا الإثم الجسيم ، فالثابت بالتاريخ أن كثيرًا من الملوك حاكموا أولادهم وقتلوهم ، ومن ذلك ما كان بين بطرس الأكبر الروسى وابنه الذى حكم عليه بالإعدام، وإن لم ينفذ الحكم عليه جهارًا وإنما وُجد ميتًا فى سجنه صبيحة اليوم المحدد للتنفيذ !
بداية قتل الإخوة
اتقاءً وبغير ذنب
تولى الحكم بعد «مراد خان الأول» أكبر أولاده : السلطان الغازى «با يزيد خان الأول» ، فتوجس وحاشيته من شقيقه الأصغر «يعقوب» لا لبادرةٍ سنِيةٍ منه، وإنما لشجاعته وإقدامه وعلو همّته، فخيف أن ينافس أخاه، ولذلك تم «قتله» باتفاق مع الأمراء وقواد الجيش، وقال بعض المؤرخين الإفرنج إن قتله كان بناءً على «فتوى شرعية» اتقاءً لحصول الفتنة .
إغارة تيمور لنك
ووفاة السلطان با يزيد وهو فى الأسر
كانت إغارة المغول بقيادة تيمور لنك على الدولة العثمانية ، بسبب امتناع السلطان
«با يزيد» عن تسليم «أحمد جلاير» أمير بغداد والعراق الذى التجأ إليه، فأغار
تيمور لنك بجيوشه الجرارة، حيث انتهت المعارك الدامية بأسر السلطان «با يزيد»، وبقى أسيرًا إلى أن توفى فى أسره، وبعد موته تجزأت الدولة إلى عدة إمارات صغيرة، وبعد حروب استقرت السلطة إلى «محمد بن با يزيد» الذى أعلن نفسه خليفةً حين بلغه خبر وفاة أبيه، ولكن نازعه فيما يبدو أخوه «عيسى»، فسار إليه وهزمه فى عدة مواقع، وقتله فى الأخيرة منها ، ولم يبق لمحمد با يزيد منازع فى آسيا الصغرى، فانتدب أخاه
« موسى» إلى أوربا لمحاربة أخيهما «سليمان» ، حيث نجح فى حملته الثانية فى قتل أخيه «سليمان» خارج أسوار مدينة أدرنة فى سنة ٨١٣ هـ / ١٤١٠م، بيد أن
«موسى» سرعان ما طمع فى الحكم لنفسه، ولكنه أخفق فى النهاية بعد أن خانه أغلب قواده وانفضوا عنه ، فنجح «محمد بن با يزيد» فى القبض عليه، وأمر بقتله سنة ٨١٦هـ /١٤١٣م ، لينفرد بالمُلْك بمسمى «السلطان الغازى محمد جلبى» .
وتولى الحكم من بعده السلطان الغازى «مراد خان الثانى» فى سنة ٨٢٤ هـ / ١٤٢١م، وصحبته المشاكل من البداية ، فطالبه أخوه «إيمانويل» بالتعهد بعدم محاربته، وتسليمه اثنين من أخوته تأمينًا لتنفيذ هذا التعهد، وهدده بإطلاق سراح عمهما
«مصطفى بن با يزيد»، فلما لم يجبه أخرج «مصطفى» من منفاه، وزوده بعشرة مراكب حربية حاصر بها مدينة «جاليبولى» حتى سلّمت إلاَّ القلعة، فتركها «مصطفى» محاصرةً بجانب من قواته، وسار بجيشه قاصدًا أدرنة، وخاطب جنده بأنه أحق بالمُلْك من ابن أخيه، فأطاعته الجيوش وقتلت «با يزيد باشا» الموفد من السلطان مراد الثانى، إلاَّ أنه تعرض لاحقاً لخيانة وتخلى أغلب جنده، وانتهى أمره إلى القبض عليه، فأمر ابن أخيه «مراد الثانى» بشنقه .
ثم إن السلطان مراد خان الثانى، حين أراد الانتقام من ملك الروم لإطلاقه سراح عمه مصطفى، لم يفلح فى فتح القسطنطينية، واضطر للرجوع بعد أن خانه أخ له يدعى مصطفى أيضًا، ولكنه أخمد الفتنة وقبض على أخيه مصطفى، وقام بقتله مع كثير من أتباعه، مما بث الرعب فى القلوب .
السلطان الغازى محمد الثانى الفاتح
يقتل أخاه الرضيع !!
تولى السلطان الغازى «محمد الثانى» المُلْك بعد أبيه «مراد خان الثانى»، إلاَّ أنه ما كاد يلى السلطة، حتى أمر بقتل أخيه الرضيع: أحمد، حتى لا ينافسه عندما يكبر على المُلْك، ودعنا من فتوحاته فهى ليست غايتنا هنا، وقد خلفه السلطان الغازى «با يزيد خان الثانى» ومع أنه كان صوفيًّا ميالاً للسلم، إلاَّ أنه دخل فى حروب داخلية مع أخيه «جم» الذى طلب بعد دخوله مدينة «بورصة» عنوة، تقسيم المملكة بينهما، وامتدت الحروب تنازعًا على تقسيم المُلْك، حتى انتهزها شارل الثامن ملك فرنسا للإغارة على إيطاليا لتنفيذ مشروعه فتح مدينة القسطنطينية ، ويُقال إنه أثناء حصاره لروما طلب من البابا تسليمه «جم» العثمانى ففعل، ويُقال إنه دس له السم قبل تسليمه إليه، وبقى مصاحبًا لجيوش فرنسا حتى مات فى جماد الأول سنة ٩٠٠ هـ / فبراير ١٤٩٥ م .
السلطان سليم الأول الغازى
والدماء !!!
اقتضى تعيين سليم الأول فى السلطنة بمساعى الانكشارية ـ اقتضى توزيع المكافآت عليهم حسب المعتاد ، ثم عين ابنه «سليمان» حاكمًا للقسطنطينية، ولم يبق له منازع فى المُلْك، فاقتفى أثر أخيه أحمد إلى أنقره، ولكنه لم يتمكن من القبض عليه لعلاقته بالوزير «مصطفى باشا» الذى كان يخبره بمقاصد السلطان، فلما علم سليم الأول بذلك قتل الوزير شرّ قتلة ، ثم ذهب إلى مدينة «بورصة» حيث قبض على خمسة من أولاد أخوته، لا ذنب لهم ولا جريرة، وأمر بقتلهم، ثم توجه مسرعًا إلى «صاروخان» مقر أخيه «كركود»، ففرّ منه إلى الجبال، ولكن السلطان سليم نجح فى القبض عليه، وقام بقتله .
المذبحة الفاجعة
ويروى الأستاذ محمد بك فريد فى كتابه المميز «الدولة العلية العثمانية»، أنه حينما عَصَى سليم (قبل أن يتسلطن) وأخوته والدهم السلطان «با يزيد الثانى»، ساعَدَ الشاه إسماعيل «الأمير أحمد» على والده با يزيد الثانى، ثم على أخيه السلطان سليم الأول، وقام الشاه باستقبال وإيواء من فروا من أولاد الأمير أحمد، وزاد على ذلك أن أرسل وفدًا إلى سلطان مصر يطلب منه التحالف معه لإيقاف مسار الدولة العثمانية، عند ذلك أمر السلطان سليم الأول بحصر عدد الشيعة المنتشرين فى الولايات المتاخمة لبلاد العجم ، ثم أمر بقتلهم جميعًا فقُتلوا، ويُقال إن عددهم بلغ نحو الأربعين ألفًا، فى مذبحة أبدى الأستاذ محمد فريد أنها شبيهة بالمذبحة التى حصلت بباريس لاحقًا فى ٢٤ أغسطس ١٥٧٢م / ٥ جماد أول ٩٨٠هـ ، والمشهورة فى التاريخ «بمذبحة برتليمى»، وهى مذبحة قام فيها الكاثوليك بذبح البروتستانت بجميع أنحاء فرنسا .
وبرغم كل هذا التاريخ والعنف الدموى، ورغم قيامه بشنق الأسير «طومان باى» على باب زويلة فى ١٣ أبريل ١٥١٧ م / ٢١ ربيع الأول ٩٢٣ هـ، دون ما مبرر ، وبرغم ما سنّه الإسلام لمعاملة الأسير ـ إذ بالسلطان سليم الأول يتسمى بعد فتحه الشام ومصر ، بلقب
«خادم الحرمين الشريفين»، ويظهر أشواقًا كاذبة للإسلام، فيصطحب الخليفة المتوكل الثالث إلى الآستانة ليسلمه الآثار النبوية الشريفة، ويتنازل له عن الخلافة وكأنها سلعة تُباع وتُشترى، وتمنح تنازلاً أو تطوعًا، وكل غرض السلطان سليم أن يتشح بوشاح الإسلام !!
كبائر السلطان سليمان القانونى
الملقب بالسلطان الغازى سليمان خان الأول القانونى
كان هذا السلطان عاشر سلاطين أو خلفاء بنى عثمان، وتولى بعد أبيه سليم الأول .
ولم ينعم سلطان أو ملك فى عصره، بالمجد والصيت والعظمة التى نعم بها السلطان سليمان الأول أو القانونى الذى خلف أباه سليم الأول فى حكم الإمبراطورية العثمانية ١٥٢٠م / ٩٢٧ هـ ، وامتد ملكه حتى وفاته ١٥٦٦م / ٩٧٤ هـ . بلغت الإمبراطورية العثمانية فى عهده أوج سطوتها وقوتها السياسية والثقافية والعسكرية . اجتمعت إلى مواهبه فى القيادة قدرة كبيرة على التنظيم والتشريع حتى اشتهر بالقانونى للقوانين العديدة التى وضعها، والنظم التى افترضها للجيش والشرطة وملكية الأراضى .. شارك بنفسه فى فتوحاته وحروبه التى امتدت فى أوربا وآسيا .. واصل فتوح أبيه فى البلقان، فاستحوذ على بلغراد ١٥٢١م، وطرد فرسان الاسبتارية من رودس ١٥٢٢م، وأوقع هزيمة ساحقة بالهنغاريين فى معركة موهاكس ١٥٢٦م ..وحاصر فيينا ١٥٢٩م ولم يرده عنها إلاّ صقيع وزمهرير الشتاء، تحالف مع فرانسوا الأول ملك فرنسا ١٥٣٦م ضد بيت هابسبرج ، وكون حلفا مع شارل الخامس الإمبراطور الرومانى ١٥٣٨م . شن عدة حروب ضد فارس حقق فيها انتصارات متتالية ، واستخدم القرصان الشهير «بربروسة» أو خير الدين خضر، فصارت أساطيله مصدر فزع ورهبة فى البحر المتوسط، وضم إليه صنعاء وعدن وسيطر على البحر الأحمر حتى مضيق باب المندب .
فى عهده نعم المسيحيون واليهود بالحرية الدينية، وفر إليه يهود إسبانيا من محاكم التفتيش، وتألقت الحضارة العثمانية فى عهده، رعى الفنون والآداب، وأقام الجسور والمساجد والقصور والقناطر المائية، وزخرت المدن التابعة له بكل روعة فى البناء أو ألوان المعارف، وجعل إمبراطوريته ملاذاً آمناً وصورة لافتة للتسامح الدينى .
بيد أن هذا السلطان العظيم هوى إلى ما دون حيوانات الغاب ؟!
كانت علاقاته العائلية ، مع عشق السلطة ، المنحدر الذى فارق به السلطان مراتب العظمة والعظماء إلى درك غريب هانت فـيه أرواح الأبناء ، وسالت دماؤهم على يديه !
من محظيته الأثيرة الشركسية «وردة الربيع» أنجب طفله النجيب « مصطفى » الذى ظهر نبوغه وشق طريقه إلى المناصب الكبرى والتبعات الهامة ، وكالعادة أيضا فتر وتوارى حب السلطـان القانونـى لـوردة الربيـع حيـن انشـدت عواطفـه تجــاه «خوريم» أو الضاحكة أو«روكسيلانا» الأسيرة الروسية التى سرعان ما كسبت قلب السلطان وانتزعته من المحظية الشركسية، وسيطرت عليه حتى وقع السلطان ثملا بجمال
«روكسيلانا» ومرحها وإغوائها وخداعها !
وتتكرر الصورة التى ملأت بلاط معظم الملوك والأباطرة .. تدبر المحظية الجديدة لملك أبنائها، والطريق المعتاد إيغار صدر الأب سليمان القانونى على ابنه مصطفى ساعده الأيمن والمنتظر أن يتولى عرش أبيه ، ولا يفوتها أن تصاهر لتقوية شوكتها رستم باشا الوزير الأكبر فتزوجه ابنتها، ويلتفون حول السلطان يلقون فى روعه أن مصطفى يدبر الملك لنفسه، ويصطنع الأسباب لتوسيع شعبيته حتى ينتزع العرش من أبيه، وأنه يحرض الانكشارية على عزله وتنصيبه كما فعل السلطان سليم الأول مع أبيه السلطان با يزيد الثانى ، فتتمكن الشكوك من السلطان المنهوك ، فيزمع قتل ابنه، وينتقل بنفسه إلى «إرجلى» حيث يدعو فلذة كبده إلى خيمته فى ١٢ شوال ٩٦٠ هـ/ ٢١ سبتمبر ١٥٥٣م ، ويقتله بيده طبقا لرواية وول ديورانت فى «قصة الحضارة»، أو يتابع قتله على مرأى ومسمع منه طبقا لرواية الأستاذ محمد بك فريد، دون أن تجدى صرخات واستعطافات الابن إلى أبيه أن ينقذه أو يعدل عن قتله !
كيف ساغ للسلطان الأب أن يقتل أكبر وأعز أبنائه بيده أو على مرأى ومسمع منه ؟! لا شك أن حماية الملك رجحت لديه على محبة الابن فهانت روحه وأسال دماءه بيديه! فهل توقفت بقتله أنهار الدم التى سالت على جدار السلطة ؟! يحكى التاريخ أن «بايزيد» ابن سليمان القانونى خشى على نفسه من أطماع أخيه سليم ابن روكسيلانا، ووجد أو تعلل بأن مصيره المحتوم سوف يكون الذبح، فشق عصا الطاعة وأعد جيشا يتحدى به أباه السلطان سليمان، فلما انهزم فر إلى فارس، ولكن الشاه الفارسى سلمه لقاء رشوة كبيرة، فماذا كان مصيره ؟! قُتِلَ شنقًا سنة ١٥٦١م، ولحق به أبناؤه الخمسة الذين ذُبِحوا محافظة على أمن العرش !.. يقول وول ديورانت إنه يُروى أن السلطان المتألم على قتل ولديه ثم أحفاده الخمسة ـ قد توجه إلى الله بالشكر والحمد على مصرع هذه الذرية ( المزعجة !! ) التى كانت تهدد عرشه ، وأنه يستطيع الآن أن يعيش فى رغدٍ وأمن وسلام !!!
قد بلغ سليمان القانونى أعلى مراتب المجد والعظمة ، وخاض حروبا كثيرة سجل فيها الانتصارات وطار صيته فى البلدان ، ولكنه ذبح نصف ذريته ، وأمر بذبح وزير مبدع دون إنذار أو محاكمة .. كانت عظمته عظمة ملوك ، وكانت أخطاؤه أيضا أخطاء ملوك ، انضمت إلى مشاهد كثيرة سابقة ولاحقة سفكت فيها الدماء وسالت أنهاراً على جدار السلطة !
السلطان الغازى سليم خان الثانى
وهو الحادى عشر ضمن سلاطين العثمانيين ، وابن «روكسيلانا» الروسية، وتولى بعد وفاة أبيه «سليمان القانونى» فى ٢ صفر ٩٧٤ هـ/ ٥ سبتمبر ١٥٦٦م، ولم يكن على كفاءة أبيه ، أو مؤهلاً لمتابعة فتوحاته، لولا وجود الوزير الطويل محمد باشا صقللى صاحب الكفاءات المتعددة، فحفظ قوام الدولة إلى أن توفى سليم الثانى، وتولى من بعده أكبر أولاده السلطان الغازى «مراد خان الثالث» ثانى عشر سلاطين العثمانيين، وبدأت سلطنته فى شعبان ٩٨٢ هـ/ ديسمبر ١٥٧٤م، وبدأ أعماله بتحريم شرب الخمر، ثم ما لبث أن أباحها لثورة الانكشارية، ثم قتل «إخوته الخمسة» ليأمن على ملكه من المنازعة وانشغل بعدها بمحاربة العجم .
المذبحة الكبرى
بقتل الأخوة التسعة عشر !!!
ما كاد السلطان الغازى «محمد خان الثالث» يتولى السلطنة بوفاة أبيه فى ٨ جمادى الأولى ١٠٠٣ هـ/ ٢٠ يناير ١٥٩٩م، وهو ابن صفية ، المحظية الإيطالية المصطفاة، حتى قام بخنق إخوته التسعة عشر ، قام بخنقهم قبل دفن أبيه، ودفنهم معًا تجاه «أيا صوفيا»، ولم يحفظ له أثر غير هذه المذبحة البشعة التى تغيا بها حفظ الملك ، ونسى حتمية الموت الذى عاجله وهو لما يزل فى السابعة والثلاثين، فمات فى ١٢ رجب ١٠١٢ هـ/ ١٦ ديسمبر ١٦٠٣م ، ليخلفه ابنه أحمد.
السلطان الغازى «أحمد خان الأول»
وهو الرابع عشر من سلاطين العثمانيين، آلت إليه السلطنة ـ بالميراث ـ ولم يتجاوز الرابعة عشر إلاَّ بقليل ، ولكنه لم يأمر بقتل أخيه «مصطفى»، واكتفى بحجزه بين الخدم والجوارى، واتسم عهده بعقد معاهدة رأى الأستاذ محمد فريد أنها كانت فاتحة الانحطاط وأول المعاهدات المشئومة التى ختمت بمعاهدة برلين الشهيرة .
وإذ عاجلته المنية فى ٢٣ من ذى القعدة ١٠٢٦ هـ / ٢٢ نوفمبر ١٦١٧م، وهو لما يزل فى الثامنة والعشرين من عمره، وسن ولده الأكبر عثمان لم يتجاوز الثالثة عشرة، خالف العادة المتبعة منذ «عثمان الأول» بتنصيب أكبر الأبناء، وأوصى بالملك بعده لأخيه مصطفى.
السلطان الغازى «مصطفى خان الأول»
وهو الخامس عشر من سلاطين العثمانيين، ولا علم له بأمور المملكة وشئون الحكم ، ولكن حفظت له أثيرة عدم المضى فى العادة المستقبحة بقتل الأخوة، فلم يقتل إخوته، إلاَّ أنه لم يلبث بالحكم إلاَّ نحو ثلاثة أشهر، فعزله أرباب الأغراض وفى مقدمتهم المفتى بمساعدة الانكشارية، وأقاموا مكانه السلطان «عثمان خان الثانى» (١٠٢٧ هـ/ ١٦١٨م).
عزل السلطان الجديد وقتله !!
كان «عثمان خان الثانى» ، ابن السلطان «أحمد الأول»، إلاَّ أن الانكشارية سرعان ما عزلته فى ٦ رجب ١٠٣١ هـ/ ٢٠ مايو ١٦٢٢م، وولوا مكانه السلطان المعزول «مصطفى خان الأول» بيد أن الانكشارية لم تكتف بعزل السلطان «عثمان خان الثانى» ، وإنما هاجموا قصره، وانتهكوا حرماته، وقبضوا عليه بين جواريه وزوجاته، وقادوه إلى ثكناتهم ، موسعين إياه سبًّا وشتمًا وإهانة ، مما لم يسبق له مثيل فى الدولة العلية على حد تعبير الأستاذ محمد فريد ، ثم نقلوه إلى القلعة المعروفة بذات السبع قلل ، حيث كان بانتظاره داوود باشا وعمر باشا الكيخيا وقلندر أوغلى وغيرهم ، فقتلوه وهو لما يزل فى الثانية عشرة من عمره ، وليصير الحكم ألعوبة فى يد الانكشارية ينصبون من الوزراء من يشاءون ، ويعزلون من يشاءون، والسلطان « مصطفى خان الأول » لا حول له ولا قوة ، فهم الذين أعادوه إلى السلطنة ، وشاعت الاضطرابات ، وأمعن الانكشارية فى النهب والسلب والقتل ، حتى لم يجد الأهالى بدًّا من اللجوء إلى « كمانكش على باشا » ، وعينوه صدرًا أعظم لخبرته واستعداداته ، فأشار بعزل السلطان مصطفى ثانيةً ، لثبوت ضعف عزيمته ووهن عقله ، فعزلوه فى ١٥ ذى القعدة ١٠٣٢ هـ/ ١١ سبتمبر ١٦٢٣ م ، وولوا مكانه السلطان الغازى « مراد خان الرابع » .
متابعة الانحدار
وقتل الصدر الأعظم
كان الانكشارية هم الذين ولوا السلطان السابع عشر « مراد خان الرابع » ، بعد عزل عمه « مصطفى الأول » ابن السلطان « محمد الثالث » ، واختاروه لحداثة سنه ، حتى لا يقوى على معارضة استبدادهم أو مقاومة نفوذهم الذى اكتسبوه بقتل سلطان وعزل غيره ، ولذلك استمروا مدة العشر سنين الأولى من حكمه على غيهم وطغيانهم .
ومع هذا الانحدار ، ووهن الدولة إزاء هذه الاضطرابات ، انتهز الفرصة الشاه عباس ملك العجم ، لتوسيع أملاكه على حساب حدود الدولة العثمانية ، وما كان قد حققه السلطان الغازى سليمان القانونى.
ويروى محمد بك فريد أنه فى غضون ذلك أصدر السلطان أمرًا بعزل « خسرو باشا » وإعادة « حافظ باشا » إلى منصب الصدر الأعظم ، إلاَّ أن المعزول سعى لإثارة الجند ، وزعم لهم أنه لم يُعْزل من منصبه إلاَّ لمساعدته لهم ، فثاروا وهاجوا وماجوا وطلبوا إعادة الصدر المعزول إلى موقعه ، فلما لم يجبهم السلطان إلى طلبهم ، ساروا إلى القسطنطينية فى ثورة عنيفة ، واقتحموا السراى السلطانية فى ١٨ رجب ١٠٤١ هـ / ٩ فبراير ١٦٣٢م ، وقتلوا رغم تدخل السلطان ـ الصدر الأعظم حافظ باشا ، فانتفض السلطان يدافع عن كيانه ، وأمر بقتل « خسرو باشا » محرك هذه الفتنة ، وأظهر السلطان عزمًا ، فجعل يسائل رؤوس الانكشارية ، وغيرهم ممن هيجوا الخواط ، وصار يقتل كل من يثبت فى حقه أى مساهمة فى هذه الفتنة ، وقتل « رجب باشا » الذى سعى لتجديد ثورة الانكشارية ، وألقى بجثته من نوافذ القصر حتى يراها المتجمهرون ، وقد كان أن سكنت الخواطر ، وعزف الناس عن تأييد الانكشارية ، ثم إن السلطان أمر والى دمشق بمحاربة فخر الدين أمير الدروز وإدخاله فى طاعة الدولة ، فنجح الوالى فى مهمته ، وأرسل فخر الدين وولديه إلى القسطنطينية حيث احتفى السلطان بهم ، ولكن ما إن بلغه أن أحد أحفاد فخر الدين ثار ثانية ونهب بعض المدائن بالشام، أمر السلطان بقتل الأمير فخر الدين وولده الأكبر فقتلا ، وامتثل الدروز للطاعة، وإن بقيت الإمارة فى ذرية فخر الدين نحو مائة سنة , ثم انتقلت إلى عائلة شهاب التى منها الأمير بشير الشهير الذى شارك فى حروب إبراهيم باشا ابن محمد على باشا.