انسحاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من "معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى"، ليست الأولى ولن تكون الأخيرة.. انسحابات متكررة جاءت لتحقق وعد الرئيس الانتخابي بأن تكون أمريكا أولا حيث يندرج هذا القرار في إطار السياسة الأمريكية الرامية للانسحاب من الاتفاقيات القانونية الدولية التي تضع مسئوليات متساوية عليها وعلى شركائها وتقوض مفهومها الخاص لوضعها الاستثنائي".
ومنذ توليه منصبه كرئيس لأقوى دولة في العالم قبل أقل من عامين، انسحب "ترامب" من اتفاقيات دولية وثنائية عدة كانت قد أبرمتها من قبل في عهد رؤساء سابقين للولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي لن يسعد الحلفاء الأوروبيين الذين يهدد الانسحاب من هذه المعاهدة "استقرارهم الاستراتيجي"، الذين لم تكلل جهودهم حتى الآن بالنجاح في رأب الصدع الذي أحدثه إعلان ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي المبرم مع إيران.
انسحاب جديد يضاف لرصيد الانسحابات الأمريكية من المعاهدات الدولية بحجة أن بها إجحافا بالمصالح الأمريكية، يتجه ترامب نحو الانسحاب من معاهدة "القوى النووية متوسطة المدى (آي إن إف) " التاريخية التي تربط بلاده بروسيا منذ الحرب الباردة، التي مضى على توقيعها أكثر من ثلاثة عقود، وكانت ثمرة اجتماع عقد بين الرئيس الأمريكي رونالد ريجان والزعيم السوفيتي ميخائيل جورباتشوف في عام 1986.
وبرر ترامب الانسحاب بانتهاكات موسكو للمعاهدة بالإضافة إلى إجحاف المعاهدة حيث تسمح المعاهدة لموسكو تصنيع الأسلحة ولا تسمح بها لواشنطن.
وتكمن حساسية إلغاء هذه المعاهدة في كونها قد تثير تسارع السباق المحموم الرامي إلى تطوير وإنتاج الأسلحة النووية، لدى القطبين وحلفائهم كما قد يكون للانسحاب من هذه المعاهدة تبعات ضخمة على السياسة الدفاعية الأمريكية في آسيا، وتحديدا تجاه الصين منافستها الاستراتيجية الرئيسية التي يخوص ترامب معها حربا تجارية.
وأكد البيت الأبيض أنه لم يتم اتخاذ قرار رسمي بترك المعاهدة المعروفة باسم "I.N.F"، التي اعتبرت في وقت توقيعها خطوة حاسمة في نزع فتيل توترات الحرب الباردة، ولكن في الأسابيع المقبلة من المتوقع أن يوقع ترامب على القرار في أول مرة يتم فيها إلغاء معاهدة الحد من الأسلحة، حسبما قال المسئولون الأمريكيون.
وتنص المعاهدة على "أنه على كل من أمريكا والاتحاد السوفييتي تفكيك الصواريخ الأرضية الباليستية وصواريخ كروز التي تتراوح مسافة إطلاقها بين 550 إلى 5500 كيلومتر تقريبا حيث تسعى هذه المعاهدة إلى حماية الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين ورسم اتفاق بين دولتين في وسط السباق للتسليح أثناء الحرب الباردة".
وتقيد الاتفاقية الولايات المتحدة أيضا فيما يتعلق بنشر أسلحة جديدة للرد على جهود الصين لتعزيز هيمنتها في منطقة غرب المحيط الهادى وإبقاء القوات البحرية الأمريكية في وضع صعب، لأن الصين لم تكن من الموقعين على المعاهدة، فإنها لم تواجه حدودًا لتطوير صواريخ نووية متوسطة المدى يمكنها أن تسافر آلاف الأميال.
وتأخذ إدارة ترامب على موسكو نشرها منظومة صاروخية من طراز "9 إم 729" التي يتجاوز مداها بحسب واشنطن 500 كيلومترا؛ ما يشكل انتهاكات للمعاهدة، ووضعت المعاهدة التي ألغت فئة كاملة من الصواريخ يراوح مداها بين 500 و5000 كم، حدّاً لأزمة اندلعت في الثمانينيات بسبب نشر الاتحاد السوفياتي صواريخ إس.إس-20 النووية التي كانت تستهدف عواصم أوروبا، وتقول الولايات المتحدة على مدى نحو عامين إن النظام الصاروخي الروسي "9 إم729" ينتهك المعاهدة، التي تحظر الصواريخ المتوسطة المدى، التي كانت محور سباق تسلح في أوروبا بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في الثمانينيات.
اتهم ترامب روسيا بأنها "تنتهك منذ سنوات عديدة" معاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى، مؤكدا عدم السماح لهم بانتهاك اتفاقية نووية والخروج وتصنيع أسلحة (في حين) أنّنا ممنوعون من ذلك"، ولم يتأخر الرد الروسي كثيرا، إذ قالت موسكو ردا على تهديد ترامب بالانسحاب من المعاهدة إنه "يحلم بعالم أحادي القطب".
واعتبر مصدر بوزارة الخارجية الروسية أن الدافع الأساسي للرئيس الأمريكي في إعلان الانسحاب من المعاهدة بشأن الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى هو حلمه بعالم أحادي القطب، كما أشار إلى أن واشنطن توجهت منذ زمن بعيد وبصورة متعمدة، نحو خرق المعاهدة بتقويض أسسها.
ويعمل ترامب حاليا على تحقيق شعاره الانتخابي "أمريكا أولا " لتحقيق المنفعة الأمريكية بغض النظر عن كيفية التحقيق، حيث انسحب من اتفاق دولي حول الهجرة "إعلان نيويورك للاجئين والمهاجرين"، كما ألغى جزءا من الاتفاق مع كوبا الذي أبرمته إدارة أوباما كما انسحب من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، متهما هذه المؤسسة بأنها معادية لإسرائيل وانسحبت الولايات المتحدة الأمريكية من اتفاقية باريس العالمية لمكافحة التغير المناخي، وكذلك انسحبت من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، ومن الاتفاق النووي الموقع مع طهران في عام 2015.
ويمتلك السلاح النووي قوة مدمرة هائلة تنتج عن تفاعلات الانشطار النووي أو الانشطار المصحوب بالاندماج النووي معا، وبعد الاكتشافات العلمية التي حدثت خلال ثلاثينيات القرن الماضي تعاونت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا خلال الحرب العالمية الثانية فيما كان يسمى بمشروع (مانهاتن) لمواجهة برنامج التسلح النووي الألماني المحتمل في أغسطس 1945، وألقيت قنبلتا انشطار نووي على اليابان وهي الحالة القتالية الوحيدة التي استخدم فيها السلاح النووي، وبعد فترة وجيزة، بدأ الاتحاد السوفيتي تطوير مشروعه الذري الخاص ولم تمر فترة طويلة بعد ذلك، وطورت البلدان أسلحة انصهار أكثر قوة عرفت باسم "القنابل الهيدروجينية".