بقلم : عاطف بشاى
كان اليأس يتسرب إلى نفسي رويداً رويداً طوال السنوات الماضية حتى استقر وتمكن مني تماماً وصار جزءاً أساسياً في تكويني النفسي لدرجة أننا - أنا واليأس- صرنا صديقين يجمعنا التوقير والاحترام .. واسترحت له وأقنعني أن الارتياح في صحبته أو ما يمكن تسميته "براحة اليأس" أفضل كثيراً من انتظار أمل لا يتحقق .. ورجاء لا يأتي وكأنه "جودو" .. واعترف لكم أن السبب الرئيسي في تلك الحال المزمنة كان نتيجة مباشرة لذلك الإنهيار الكبير لفن الكوميديا واقتصار الأفلام السينمائية على التوليفة "السبكيه" التي اعتبرها "إهانة" مع سبق الإصرار والترصد لهذا الفن الجميل .. واحتقاره بالحرص البالغ على حصره في إطار الهزل الرخيص والتهريج الممجوج والابتذال الفاضح والضحك الغليظ والحوار البذئ والمضمون التافه الذي لا يعدو أن يكون مجرد اسكتشات من الإفيهات اللفظية السخيفة التي تستخف بعقل المشاهد ولا تزيد علي فواصل يلقيها "بلياتشو" السيرك أو "أراجوز" مسرح العرائس البدائية..
لذلك حينما وقعت المفاجأة وشاهدت أخيراً فيلماً سينمائياً ينتمي حقاً إلى "فن الكوميديا" الحقيقية .. لم أصدق نفسي .. وبددت "البهجة" غيوم اليأس المتراكمة .. وأدركت أن السعادة الإنسانية واردة وليست حلماً مستحيلاً .. وأن الجحيم - كما يرى "سارتر"- هو الآخرون .. وأتصور أنا أن هؤلاء الآخرين هم الذين يفرضون علينا التعاسة متمثلين في مؤلفين ومخرجين ومنتجين وممثلين يتنفسون كراهية وبغضاً وعداء للمتفرج المسكين الذي يتابع سفهاً وتفاهة وانحطاطاً باسم الكوميديا .. والكوميديا تبكي وتنتحب من جراء التجرؤ على مقامها الرفيع ..
الفيلم هو "بنشتري راجل" تأليف "إيناس لطفي" إخراج " محمد علي" وبطولة الاكتشاف المبهر "محمد ممدوح" و "نيللي كريم".. ومقدمته المنطقية أو الاستهلال الدرامي .. أو الفكرة الأساسية تقوم على طرح افتراضي لفتاه تهفو إلى إنجاب طفل لكن المفارقة أنها تكره الرجال .. أو بمعنى أدق تكره الانضمام للمؤسسة الزوجية .. وبشكل أكثر تحديداً العلاقة الجنسية .. التي تربط الزوجة بالزوج.. فتلجأ إلى الاتفاق من خلال عقد توقعه مع رجل بشراء حيواناته المنوية .. مع معايشته في علاقة سرية جافة "ورقية" دون علم أهلها بحقيقة الموقف .. على أن يقوم بتطليقها بعد الحمل .. وهذا الاستهلال أو هذه الفكرة الجريئة تطرح بذكاء واقتحام سريع لا يعني كثيراً بجذور هذه الرغبة الغريبة أو الأسباب الاجتماعية والنفسية المتصلة بالبطلة وإن كان في المقابل توضح المؤلفة الموهوبة أسباب قبول البطل لعقد تلك الصفقة لتسديد ديون مزرعته ..
ينفجر الضحك الراقي - رغم أن الفكرة تغري بتقديم تتابع يجنح إلى استخدام الإيحاءات الجنسية الغليظة - منذ اللحظة الأولى وهو ضحك يعتمد على دعائم الكوميديا الحقيقية المعتمدة على المفارقة وسوء التفاهم والمواقف التي لا تخلو من المشاعر الإنسانية الرقيقة في مشاهد ساخرة .. صحيح أنها تقترب من روح وبناء الفيلم الشهير "آه من حواء" "لفطين عبد الوهاب"والذي يقوم على كيفية ترويض الأنثى النمرة بواسطة رجل يتمتع بقوة الإرادة .. إلا أنه في تصوري يتفوق عليه ببعده الإنساني الذي يتجاوز محاولات الترويض الممتتالية تلك إلى آفاق إنسانية أكثر رحابة وعمقاً وشمولاً ذلك لأن المؤلفة والمخرج حرصا على عدم التركيز على عيوب الشخصيات والسخرية منها كما يحدث في الأعمال الكوميدية التقليدية .. وركزا على تسرب حميمية العلاقة وتلاحم المرأة والرجل في عناق حتمي ينتصر لطبيعة العلاقة الإنسانية ..
أما "محمد ممدوح" - بأدائه المذهل والذي يستحق مقالاً منفرداً - فإنه يقيناً نجم السينما القادم ..