تحل اليوم الذكرى السادسة والعشرون
لرحيل أستاذ الأدب وعبقري الأسلوب الرمزي في القصة الأديب يحيى حقي، ذلك العلامة
الذي استزادت منه أجيال الكتاب أمثال يوسف إدريس ورجاء النقاش وفؤاد دوارة وغيرهم
من الكتاب، فقد عاش يحيى حقي ينادي الأجيال الجديدة بأن يلتزموا بالتحديد والعمق في
قصصهم وأن يبتعدوا عن الميوعة والسطحية، فلابد للقصة في رأيه أن تعبر عن واقع نجد
فيه ذاتنا كي تصلح القصة للنقل إلى الثقافة الدولية، وعلى سبيل المثال قصته
"قنديل أم هاشم".
القصة في نظر يحيى حقى ليست هي
الرواية التي تحكي حدثا معينا وتدور في نطاق حقبة زمنية، بل لابد أن يكون لها مدلول
وأهداف ورموز دفينة على القارئ أن يلمسها بين السطور، فعند كتابته قصة "قنديل
أم هاشم" تم ترجمتها إلى عدة لغات، وهي ليست القصة التي ترمز إلى تمسك
القدامى بالعادات والتقاليد وثورة ابن على تلك العادات بعد أن أتم تعليمه في
الخارج، بل صاغها حقي لكي ترمز لأبعد من ذلك .
لا تنفصل قصة "قنديل أم
هاشم" عن شخصية كاتبها، فقد بدأ يحيى حقي الكتابة في فترة كان الصدام فيها
كبيراً بين الشرق والغرب، وكان هناك رأى ينادي بأن علينا أن نأخذ من الغرب بلا تحفظ وأن
ننسى شخصيتنا وننسلخ من هويتنا ونتشبع بالحضارة الغربية بكل مظاهرها ومبادئها، وكان
الرأي الآخر الذي ينادي بعودتنا إلى ماضينا لنحتمي به ، فسقوطنا في التخلف كانت
أسبابه تقليدنا للغرب واتباعنا أساليبه .
من ذلك الصراع خرجت فكرة القصة التي
نادى فيها يحيى حقي بألا نتخلى عن شخصيتنا أمام الغرب، وفي نفس الوقت يجب ألا
نتجمد ونتوقف ونرفض التغيير، فمدلول القصة ينادي بتحقيق الصلة بين أبناء الشعب ومن
يريدون تطوره ، شريطة ألا يتعالى المطور على أبناء الشعب أو يرغمه على التطور أو
تجرع الحضارة الحديثة، وهذا ما ظهر في ثورة الإبن شكري سرحان الذي جن من استخدام
زيت القنديل لعلاج عيون جيرانه وخطيبته، ووصف من يفعلون ذلك بأنهم غارقون في الجهل والخرافات.
رمز الكاتب الكبير يحيى حقى إلى
مجتمعنا القديم بالفتاة التي فقدت بصرها والتي تنتظر من حبيبها أن يزيح عنها غمة
العمى، أو مصر التي تنتظر من أبنائها أن ينقذوها من عمى البصيرة ويبعدونها عن
براثن الجهل والتخلف، ورغم أن الفتاة أو مصر كما صورها حقي ليست بمقدار جمال
الفتيات التي رآها الابن إسماعيل في الخارج لكنه أظهر الانتماء الوطني، من خلال
تعلق إسماعيل بمحبوبته مصر وتمسكه بجذوره، فهو يرى في الوطن الأصالة والدفء بعدما
شاهد ولمس تجرد الغرب من الجانب الإنساني، فالعطف على الفقراء والمساكين الذي
ينادي به الدين والمجتمع انتقدته ماري الأوربية في إسماعيل وقالت له أنت لست إلها كي تساعدهم، كما لمس أشكال الأنانية والطمع وعدم حفظ الجميل، وتأكد له صراع
الحضارات، فما يعيشه الغرب نرفضه، كذلك لا يفضل الغرب عاداتنا، ما دعاه أن يتشبث
بجذوره التي تدعو إلى الرحمة والمودة .