الثلاثاء 4 يونيو 2024

خروجا عن مبادئ الإسلام استبداد دولة الخلافة العثمانية والإمعان فى الدماء!

29-3-2017 | 12:20

بقلم –  رجائى عطية

لم يتوقف تراجع الدولة العثمانية، مثلما لم يتوقف الإمعان فى الاستبداد، وفى إراقة الدماء.

فبعد ثورة الانكشارية وقتلهم الصدر الأعظم حافظ باشا، وثورة فخر الدين الدرزى، ثم وفاة السلطان السابع عشر « مراد خان الرابع » فى ١٦ شوال ١٠٤٩ هـ/ ٩ فبراير ١٦٤٠م، آل الحكم إلى السلطان الثامن عشر « إبراهيم خان الأول »، وهو ابن السلطان أحمد الأول، ومع عنايته بالفتوح، فإنه بعد فتح مدينة غرناطة وأغلب الجزيرة سنة ١٦٤٦م/ ١٠٥٦ هـ، ومحاصرته التى لم تفلح لمدينة «كنديا» عاصمة الجزيرة، أراد أن يفتك برءوس الانكشارية الذين عانت البلاد والأمة منهم كثيرًا، ورتب لإتمام ذلك فى ليلة زفاف إحدى بناته على ابن الصدر الأعظم، فعلم الانكشارية بالأمر، واجتمعوا بمسجد يقال له «أورطة جامع»، وانضم إليهم بعض العلماء والمفتى، وقرروا عزل السلطان «إبراهيم خان الأول»، وتولية ابنه
«محمد الرابع» الذى لم يكن قد أتم السابعة من عمره، ولكن طائفة « السباه» أظهروا عدم ارتياحهم للملك الطفل، وطلبوا إعادة السلطان إبراهيم إلى العرش، فخشى رؤساء العصابة التى عزلته من انتقامه إذا عاد، فصمموا على قتله، فساروا إلى السراى ومعهم الجلاد (قرة على)، حيث قتلوه «خنقًا» كما سبق أن قتلوا السلطان عثمان الثانى.

السلطان الطفل «محمد خان الرابع» ابن السبع سنوات !!!

وهو السلطان التاسع عشر فى سلسلة سلاطين الدولة العثمانية، وتم تنصيبه فى الثامن عشر من رجب ١٠٥٨ هـ/ ٨ أغسطس ١٦٤٨م، ولصغر سنه، وقعت البلاد فى فوضى عارمة، وسعى الجنود فى الأرض فسادًا، وبلغت الحالة من السوء ما كانت قد وصلت إليه قبل تولى السلطان مراد الرابع، بل ما هو أسوأ وأتعس، وتوالت الثورات، تارة من الانكشارية، وطورًا من السباه، وآونة من الأهالى، وقد حاول الوزير « محمد باشا » الشهير بكوبر يلى الذى تولى منصب الصدارة، تدارك الأمور، فاشتد فى معاملة الانكشارية، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، وأمر بعد تعيينه بقليل بشنق بطريرك الأروام لتداخله فى الدسائس والفتن الداخلية، ويحسب له الأستاذ محمد فريد فى كتابه « الدولة العلية » أنه استصدر أمرًا من السلطان بمنع قتل سلفه الذى كان قد أمر بقتله ! بل وعينه واليًا على « كانيشه ».

وفى سنة ١٠٨٨ هـ / ١٦٧٧ م، سار « قره مصطفى باشا » إلى بلاد المجر لمحاربة النمسا، بناء على طلب أحد أشراف المجر، الذى أراد التخلص من الاستبداد الدينى للإمبراطور « ليوبولد » الكاثوليكى الذى جعل يأمر بقتل كل من يلوح عليه أدنى ميل إلى مذهب البروتستانت.

ولكن حملة « قرة مصطفى باشا» باءت بالخذلان، وتورط فى أمر عظيم، بإقدامه على قتل كل من يتخلف من جيشه عن السير، ولما وصلت هذه الأنباء إلى السلطان « محمد خان الرابع »، وكان قد اشتد عوده واقترب من الأربعين من عمره، أمر بقتل الصدر «قرة مصطفى باشا»، وأرسل أحد رجال حاشيته للتنفيذ، فقام بقتل الصدر الأعظم، وأرسل برأسه إلى القسطنطينية، وعين السلطان مكانه « إبراهيم باشا » سنة ١٠٩٥ هـ/ ١٦٨٣م، وتلاه الصدر « سليمان باشا».

ومن سوء طالع الصدر الجديد، أنه أخفق فى هجومه على التحالف المقدس فى سهل « موهاكو »، والذى سبق انتصار العثمانيين فيه ـ فى هذا السهل ـ على المجر قبل مائة وستين سنة، ولكن الدائرة دارت هذه المرة على الجيوش العثمانية، فانهزموا عن آخرهم، فأشهرت الجيوش الباقية العصيان على « سليمان باشا » الذى فر إلى بلغراد، فأرسل الانكشارية والسباه وفدًا إلى الآستانة يطلب من السلطان « محمد خان الرابع» أن يأمر بقتله، فلم ير بدًّا من الاستجابة، وأمر بقتله تسكينًا للثورة، ولكن الدائرة دارت على السلطان، واتحد العلماء مع الوزير الثانى (القائمقام) قره مصطفى على عزل السلطان خوفًا على المملكة، وعزلوه فى الثانى من المحرم ١٠٩٩ هـ/ ٨ نوفمبر ١٦٨٧م، وبقى فى العزل إلى أن توفى بعد خمس سنوات !

السلطان « سليمان خان الثانى »

وهو السلطان العشرون بين سلاطين بنى عثمان، وهو ابن السلطان إبراهيم الأول، وبدأ عهده بإغداق العطايا على الجنود، ولم يعاقبهم على عصيانهم الذى كان من نتيجته عزل السلطان السابق، وما لبث هذا السلطان أن توفى بعد ثلاث سنوات فى ٢٦ رمضان ١١٠٢ هـ/ ٢٣ يونيه ١٦٩١م، ولحق به السلطان الحادى والعشرون « أحمد خان الثانى »، الذى ما لبث بدوره أن توفى فى ٢٢ جمادى الآخرة ١١٠٦ هـ/ ٦ فبراير ١٦٩٥م، بلا عمل ذى قيمة يمكن أن يذكر له.

السلطان الغازى « مصطفى خان الثانى »

هو السلطان الثانى والعشرون، وهو ابن السلطان محمد الرابع، وتولى بوفاة « سليمان خان الثانى » (١١٠٦ هـ / ١٦٩٥ م)، وقيل إنه كان شجاعًا ثابت الجأش، وقد نجح فى إغارة ثانية بجيوشه على بلاد المجر، وفتح حصن « لبا » وهزم الجنرال « فترانى » فى موقعة « لوجوس »، وقتل من جنوده ستة آلاف، وأخذه أسيرًا حيث قتله فى ٢٢ سبتمبر ١٦٩٥م / ١٢ صفر ١١٠٧ هـ، ولكنه تعرض للعزل من السلطنة فى ٢ ربيع الآخر ١١١٥ هـ/ ١٥ أغسطس ١٧٠٣ م، لفشله فى إبطال المفاسد ومعاقبة المرتشين، وأقاموا مكانه السلطان « أحمد خان الثالث ».

السلطان الغازى « أحمد خان الثالث »

وهو السلطان الثالث والعشرون، أخو السلطان مصطفى خان الثانى، وابن السلطان محمد الرابع، ولدى تنصيبه وزع أموالًا طائلة على الإنكشارية، وسلم لهم فى قتل المفتى « فيض الله أفندى » لمقاومته لأعمالهم، ولكنه بعد تحسن الأحوال وعودة السكينة، اقتص من الانكشارية بقتل عدد كبير منهم، ثم عزل (١١١٥هـ/١٧٠٣م) الصدر الأعظم « تشانجى أحمد باشا» الذى انتخبه الانكشارية وقت ثورتهم، وعين بدله زوج أخته « رامادا حسن باشا» بيد أنه سرعان ما تمكن الانكشارية من عزله فى ٢٨ جمادى الأولى ١١١٦ هـ/١٧٠٤م، ولتتغير الصدور تبعًا للأهواء والمآرب، ولتبدأ الدولة فى التراجع أمام مطامع بطرس الأكبر ملك الروسيا. وفى ٢٥ صفر ١١٤٠ هـ/ ١٣ أكتوبر ١٧٢٧م، انفرد « طهما سب » بالملك بعد وفاة الشاه أشرف، ولميل السلطان أحمد خان الثالث للصلح وميله عن الحرب، ثار الانكشارية طلبًا للنهب والسلب، وطلب زعيمهم « بترونا خليل » من السلطان أحمد خان الثالث قتل الصدر الأعظم والمفتى وأميرال الأساطيل البحرية « قبودان باشا »، واتقاءً لهم وخوفًا من إيذائهم له، سلم لهم السلطان بقتل الوزير والأميرال دون المفتى، فقتلوهما وألقوا بجثتيهما فى البحر، ثم لم يمنع صدوع السلطان لهم من إعلان العصيان عليه، وأسقطوه ونادوا بابن أخيه السلطان محمود الأول خليفة للمسلمين وأميرًا للمؤمنين!

السلطان الغازى « محمود خان الأول »

وهو السلطان الرابع والعشرون، وابن السلطان مصطفى خان الثانى، ولم يكن له من ولاية الحكم سوى الاسم فقط، بينما النفوذ والصولة « لبطرونا خليل »، يولى من يشاء ويعزل من يشاء تبعًا للأهواء والأغراض، حتى عيل صبر السلطان من استبداده، وتجمع ضده رؤساء الانكشارية، وغدروا به وقتلوه تخلصًا من شره ونفوذه.

ومن سوء حظ الدولة العثمانية، أن يتوفى السلطان العادل « محمود خان الأول » فى ٢٧ صفر ١١٦٨ هـ/ ١٣ ديسمبر ١٧٥٤م، مأسوفًا عليه من جميع العثمانيين لاتصافه بالعدل والحلم، والتزامه بالمساواة بين جميع رعاياه.

السلطان الغازى « عثمان خان الثالث »

وهو السلطان الخامس والعشرون تقلد السيف فى جامع الصحابى « أبى أيوب الأنصارى » طبقًا للعادة القديمة، وما لبث الأهالى أن ثاروا ضده لسوء سياسته، ولكنه عرف بالصدفة أثناء عسه ليلًا متنكرًا لتفقد الأحوال ـ بالمظالم التى يرتكبها وزيره الصدر الأعظم « تشأنجى على باشا »، فأمر بقتله فى ١٦ من المحرم ١١٦٩ هـ / ٢٢ أكتوبر ١٧٥٥م، وأمر بوضع رأسه فى صحن من الفضة على باب السراى، ليكون عبرةً لغيره.

أما السلطان عثمان الثالث، فقد توفى فى ١٦ صفر ١١٧١ هـ/ ٣٠ أكتوبر ١٧٥٧م، بعد حكم استمر ثلاث سنين وأحد عشر شهرًا، لم يحصل فيها ما يستحق الذكر !

السلطان الغازى « مصطفى خان الثالث »

وهو السلطان السادس والعشرون.. ابن السلطان أحمد الثالث، وكان من بأسه رغم ميله للإصلاح، أن حبسه أخاه « عبد الحميد الأول » فى سرايته طوال مدة حكمه التى امتدت نيفًا وستة عشر عامًا، ليتقى منافسته، وظل محبوسًا فى السراى كما جرت العادة، حتى وفاة أخيه السلطان مصطفى خان الثالث فى ٨ ذى القعدة ١١٨٧ هـ/ ٢١ يناير ١٧٧٤م.

السلطان الغازى « عبد الحميد خان الأول »

وهو السلطان السابع والعشرون، وابن السلطان أحمد الثالث، تولى السلطنة بعد أن أمضى فى الحبس بداخل السراى ستة عشر عامًا وثمانية شهور، وتم تنصيبه بعد طوال الحبس فى موكب حافل إلى جامع « أبى أيوب الأنصارى » ـ حيث تقلد سيف السلطان عثمان مؤسس الدولة العثمانية !

وفى عهده عقدت معاهدة صلح مع الروسيا فى ٢١ يوليو ١٧٧٤م / ١١٨٨ هـ ـ أهم ما ورد فى بنودها البالغة (٢٨) بندًا، استقلال تتار القرم ويسارابيا وقوبان، مع حفظ سيادة الدولة العليا العثمانية فيما يتعلق فقط بالأمور الدينية، بينما سلمت كافة البلاد والأقاليم التى احتلتها الروسيا ـ فيما عدا قلعتين إلى « خان القرم » !

وبقى السلطان عبد الحميد الأول على دست الحكم نيفًا وخمسة عشر عامًا، إلى أن توفى فى ١٢ رجب ١٢٠٣ هـ / ٧ أبريل ١٧٨٩م.

السلطان « سليم خان الثالث »

وهو السلطان الثامن والعشرون، وابن السلطان مصطفى الثالث، وبدأت ولايته (١٢٠٣ هـ/ ١٧٨٩م) حتى عزله من السلطنة فى ربيع الآخر ١٢٢٢ هـ/ يونيه ١٨٠٧م، وباء حكمه، بالموقف المخزى الذى التزمته الدولة العلية العثمانية إزاء الحملة الفرنسية الغاشمة على مصر بقيادة نابليون بونابرت، والتى بدأت فى سنة ١٢١٣ هـ/ ١٧٩٨م، دون أن تحرك دولة الخلافة العثمانية ساكنًا للتصدى لهذه الحملة على مصر الداخلة ـ آنذاك ـ فى رعوية دولة الخلافة العلية العثمانية، والتى أعلن بونابرت لدى دخوله القاهرة، أنه قد أتى حليفًا للباب العالى لتوطيد سلطانه ومحاربة المماليك العصاة.

المقاومة المصرية الباسلة

للأبطال المصريين

فضح التاريخ خواء دولة الخلافة العثمانية وتخاذلها عن القيام بواجبها فى حماية مصر التابعة لرعويتها، ودل التاريخ على أن مقاومة الحملة الفرنسية انعقدت من بدايتها حتى الرحيل عن مصر سنة ١٨٠١م، للأبطال المصريين الذين اضطلعوا بهذه المقاومة الباسلة، وسطر الشعب المصرى وزعماؤه آنذاك صفحات من الشرف والفخار حتى اضطر الفرنسيون إلى الرحيل ـ منهزمين ـ عن مصر.

الفارس الثائر محمد كريم

البطل حتى الموت

انتفض الفارس النبيل محمد كريم، الذى بدأ حياته قبّانيًا ـ أى وزَّانًا ـ بالإسكندرية حيث مولده ونشأته، إلى أن ولاه مراد بك حاكمًا للإسكندرية ـ انتفض يقود المصريين للدفاع عن الوطن، وسارع بهم لتحصين « قلعة قايتباى » لصد الأسطول الفرنسى القادم بقيادة نابليون، وتابع مع الصيادين والعمال تجهيز حصون الإسكندرية، وتقدم المدافعين من فوق القلعة ليرد الفرنسيين عن وطنه، واستقبلوا بصدورهم المدفعية الثقيلة، وخاضوا معركة أخرى لوقف زحف الفرنسيين إلى الداخل.

ولم يهدأ محمد كريم ولم يستنم بعد نجاح الفرنسيين فى دخول البلاد، وطفق ينظم المقاومة الشعبية ضدهم، ولجأ إلى الصحراء لترتيب وجمع المجاهدين للانضمام لصفوف المقاومة، حتى اتهمته القيادة الفرنسية بخيانة الجمهورية، وكأنه مكلف بالإخلاص للجمهورية الفرنسية التى تغزو وطنه بغير حق، وتحت بصر وتخاذل دولة الخلافة العثمانية.

وفى ٥ سبتمبر ١٧٩٨م، أصدر نابليون أمرًا بإعدام محمد كريم رميًا بالرصاص، ومصادرة أملاكه وأمواله، وفرض فدية ثلاثين ألف ريال، على الزعيم الوطنى أن يدفعها فى أربع وعشرين ساعة لإنقاذ حياته، وإلاَّ نفذ فيه الإعدام.

وفى رواية موثقة بشهود عيان فرنسيين، أوردها عبد الرحمن الرافعى فى تاريخه، نصح المستشرق « فانتور Venture » كبير مترجمى الحملة الفرنسية ـ نصح محمد كريم بأن يفتدى حياته بدفع المبلغ، بيد أن الفارس النبيل أجابه رابط الجأش: « إذا كان مقدورًا علىّ أن أموت، فلن يعصمنى من الموت أن أدفع هذا المبلغ، وإنْ كان مقدورًا لى الحياة فعلام أدفعه؟ ! »

وفى ٦ سبتمبر ١٧٩٨، نُفِّذ الإعدام فى هذا الفارس المصرى الوطنى النبيل، بميدان الرميلة بالقلعة، وبعد نيف ومائة وخمسين عامًا كرمته مصر وليس دولة الخلافة العلية العثمانية، ووضعت مصر اسمه وصورته سنة ١٩٥٣م فى قائمة محافظى الثغر السكندرى، وأطلقت اسمه على المسجد القائم بجوار سراى رأس التين، يؤمه المصلون كل يوم، فيتذكرون هذا البطل الشهيد، الذى ظل بطلًا حتى الموت !

الفدائى الفارس سليمان الحلبى

شهيد الوطنية

بين حلب الشام، وأزهر القاهرة، نشأ الشهيد سليمان الحلبى المولود سنة ١٧٧٧م، حيث تلقى العلم ونهل من فيوض الأزهر الشريف لنحو ثلاث سنوات عاد بعدها إلى حلب الشهباء، فلما عاد ثانيةً إلى مصر هاله غزو الفرنسيين لمصر قلب العرب، وتجبر هذه الطغمة ـ تحت سمع وبصر دولة الخلافة العلية العثمانية ـ بتدنيس الأزهر الشريف بسنابك الخيل، وراعه صلف وغطرسة وتجبر الجنرال « كليبر » الذى حل فى القيادة محل نابليون الذى غادر سرًّا إلى بلاده لتحقيق المزيد من أطماعه هناك.

أضمر سليمان الحلبى اغتيال الجنرال كليبر، وطفق يجمع المعلومات عن سلوكه وعاداته وحياته وسكنه بسراى الألفى بالأزبكية، حيث كان الجنرال معنيًّا بإزالة آثار التدمير الذى أحدثته قنابل الثوار المصريين.

وفى اليوم الموعود، انصرف كليبر ومعه المهندس « بروتان » إلى دار «القيادة العامة » المجاورة، ليستأنفا تفقد أعمال الترميم والإصلاح فيها، وكانت حديقة السراى تتصل بدار الجنرال ديماس برواق طويل تظله تكعيبة عنب، وحال سير الجنرال كليبر وبجانبه بروتان، خرج عليهما سليمان الحلبى من مكمنه، وعاجل الجنرال بطعنةٍ مميتة أصابته فى صدره، ولم تفلح استغاثاته، ولا مطاردة بروتان الذى نال عدة طعنات أسقطته إلى جوار كليبر الذى عاد إليه الحلبى ليطعنه بثلاث طعنات أخرى ليتأكد من الإجهاز عليه، أخذًا بثأر مصر وشهدائها الأبرار.

ومع طيش صواب الفرنسيين، طاشت الاتهامات وتعددت، حتى طالت شيخ الأزهر
عبد الله الشرقاوى وقاضى مصر الشيخ أحمد العريشى، إلا أن صمود الحلبى لكل صنوف التعذيب لإجباره على الاعتراف ضدهما وغيرهما بغير حق ـ باءت جميعها بالفشل، وتمسك الحلبى بأنه الفاعل وحده بلا محرض ولا شريك، وروى قصة تدبيره من الألف للياء، فلم تجد السلطات الفرنسية بدًّا من التوقف عن إلقاء الاتهام جزافًا على شيخ الأزهر وقاضى مصر.

كان الجنرال « مينو » الذى خلف كليبر على رأس المحققين، وأصدر فى ذات يوم الواقعة أمرًا بتشكيل محكمة عسكرية لمحاكمة الحلبى ومن ظنوا أنهم عرفوا من طلاب الأزهر ـ بما انتواه ولم يمنعوه أو يبلغوا ضده.

وأخفق سعى الفرنسيين لتوسيع دائرة الاتهام، فاقتصر فى النهاية على ستة: سليمان الحلبى، وأربعة طلاب أزهريين قيل إنهم علموا بعزمه، ولم يمنعوه، أو يبلغوا عنه، فضلًا عن مصطفى أفندى البروسة المدرس التركى الذى بات عنده سليمان الحلبى لدى حضوره إلى مصر.

انعقدت المحكمة العسكرية فى ١٦ يونيو، وسرعان ما أصدرت حكمها بإدانة الحلبى والطلاب الأربعة الأزهريين، وببراءة مصطفى أفندى المدرس التركى.

أما الحكم، فيظل عارًا وسُبّة بما طوى عليه من عنف شنيع، فقد قضت المحكمة العسكرية بإحراق يد سليمان الحلبى اليمنى، ثم إعدامه على «الخازوق »، ثم تعليق جثته وتركها معلقة لكواسر الطير!

وطوى الحكم بإعدام الطلاب الأربعة الأزهريين ـ على خطأ فاحش فى تطبيق مبادئ وأحكام القانون، حيث لا يسأل المرء عن جريمة لم يرتكبها بنفسه، إلا إذا ثبت فى حقه أنه اتفق أو حرض أو ساعد على ارتكاب الجريمة، ولم يثبت فى حق الطلاب الأربعة شىء من ذلك، وقد نفذت الحملة الفرنسية إعدامهم بقطع رؤوسهم وإحراق جثامينهم، مع مصادرة أملاك الغائب عبد القادر الغزى.

وبقى هذا الحكم العجيب، وتنفيذه الشنيع، تاجًا كلل هامة هؤلاء الشهداء، وعارًا على تخاذل دولة الخلافة العلية العثمانية !

عمر مكرم

الزعيم المصرى النبيل

صاحبنا وهو الشريف نقيب الأشراف، الزعيم الشعبى الأول فى فجر الحركة القومية فى مصر، صاحب الصفحات الناصعة، وأكبر زعماء الشعب المصرى، وصاحب الباع الأكبر فى انتفاضة مصر ضد الحملة الفرنسية، وضد المماليك، وضد استبداد وجنوح دولة الخلافة العثمانية العلية.

ظهر عمر مكرم فى أوانه المقدور، ليقف ثائرًا ضد المظالم التى طالت مصر والمصريين على أيدى المماليك والباشا المندوب من قبل السلطان العثمانى لحكم مصر.. لقد صور المؤرخ عبد الرحمن الرافعى نظام الحكم فى العصر المملوكى أبلغ تصوير فى مجموعته الرائعة عن تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم فى مصر التى كانت آنذاك ولاية عثمانية، يتصدر السلطة فيها الوالى العثمانى الملقب بالباشا، ومقره بالقلعة، نائبا عن السلطان العثمانى فى حكم البلاد، وتدين السلطة الثانية إلى رؤساء الجند الموزعين على فرق تسمى « الوجاق » ولكل فرقة أو « وجاق » اسم خاص، فهذه للمستحفظين أى لحفظ الأمن، وهذه للهجانة، وأخرى للشاويشية، وهكذا. وضباط الفرقة أو « الوجاقلية » نسبة إلى « وجاق » هم عماد كل فرقة، على رأسهم « الأغا » أى رئيس الفرقة، ونائبه يسمى «الكخيا » أو « الكتخدا »، ويحمل أقدم الضباط لقب « باشا اختيار »، ويدير الشئون المالية « الدفتردار »، وعلى الخزينة « الخازندار »، ويطلق مسمى « الروزنامجى » على حافظ السجلات.

ومن اجتماع هؤلاء الضباط كان يتألف ما يسمى مجلس شورى الباشا، أو «الديوان»، وسلطاته واسعة فى إدارة الحكومة، تفرع بعد ذلك فى عهد سليمان القانونى إلى ديوانين: الديوان الكبير، والديوان الصغير.. ويتألف الديوان الكبير من رؤساء الفرق أو الأغاوات، وأعوانهم أصحاب الوظائف التى عرضتها، أما الديوان الصغير أو الديوان، فيتألف من نائب الباشا (الكتخدا)، والدفتردار والروزنامجى ومندوب عن كل فرقة ( وجاق )، والأغا أى الرئيس وكبار الضباط لوجاق الفرقة ووجاق الشاويشية، وينعقد كل يوم فى قصر الوالى. ومع مضى الزمن صار « وجاق » الانكشارية أهم الفرق وأقواها نفوذًا، وصار قائدهم بمثابة القائد العام للحامية العسكرية.

وإلى جوار هذا التنظيم، كان للمماليك سلطة لم يتجاهلها السلطان العثمانى، فمالأهم على حساب الشعب المصرى وحقوقه ومصالحه.

وقد كان هؤلاء المماليك أس البلاء فى البلاد، ليس فقط بما تبوأوه من «سناجق » ومواقع، وإنما لما كان لبعضهم من شوكة، ومن نفوذ فى الثغور، حتى تحكموا فى كل شىء، واستأثروا بالنفوذ والحكم من النصف الثانى من القرن السابع عشر، ساعدهم على ذلك ما صارت إليه السلطنة العثمانية من الضعف فى أواخر القرن السابع عشر، وأوائل القرن الثامن عشر الذى ولد عمر مكرم فى منتصفه، وتحديدًا سنة ١٧٥٥ م / ١١٦٨ هـ.

ومع أن عمر مكرم لم يكن من رجال السيف والضرب والنزال، إلا أنه خرج لمقاومة الحملة الفرنسية وما رأى عليه من تخاذل الدولة العلية العثمانية، ومن تخاذل أمراء المماليك المنشغلين بكنوزهم وتحفهم وأموالهم.

دفعته الأخطار المحدقة بالوطن، إلى مناداة الشعب واستنفاره لدفع الفرنسيين عن البلاد، وسرعان ما تجمع الشعب من حوله فى القلعة، ونزل بهم من القلعة إلى بولاق، وخاضوا معًا فى ٢١ يوليو ١٧٩٨ م / ١٢١٣ هـ معركة إمبابة والأهرام ضد الحملة الفرنسية، بيد أن مراد بك انهزم بمن معه وفر هاربًا إلى الصعيد، ولحق به إبراهيم بك الذى أسرع هو الآخر بالفرار فى جبنٍ خائر، وصمد عمر مكرم ومن معه، وسقط منهم مئات الشهداء بين قتيل أو غريق أو جريح، وفر رؤساء المماليك تاركين القاهرة عاصمة البلاد بلا دفاع.

ورفض عمر مكرم الاستسلام أو قبول الأمان الذى أبداه قائد الفرنسيين، ولم يقبل لقاء القائد أو الموادعة التى عرضها أو البقاء بالقاهرة تحت رحمة الغزاة، ولم تلن قناته رغم اختياره لعضوية الديوان الأول، وآثر الانتقال إلى «يافا» بفلسطين ليمكث فيها حتى يقضى الله أمره.

هذا وإذ تجددت الثورة ضد الفرنسيين والعثمانيين، وثارت القاهرة، ظهر عمر مكرم فى قلب الثوار، وزعيمًا من زعماء الثورة، وقد هبت هذه الثورة إثر اعتقال محمد كريم حاكم الإسكندرية الوطنى الشجاع وإعدامه، وقتل فى أحداث هذه الثورة الجنرال « ديبوى »، والكولونيل « سلكوسكى » ياور نابليون، وجعل الفرنسيون يضربون الأزهر الذى تجمع فيه الثوار بالمدافع والقنابل، حتى أوشك الجامع الأزهر أن يتداعى من شدة الضرب، وصار الحى المحيط به كتلة من الخراب والدمار !

مات الألوف تحت الأنقاض، وأسرف الفرنسيون فى القتل، ولكن الثورة استمرت وامتد أوارها للأقاليم، حتى لجأ الفرنسيون للملاينة، وطلبوا من العلماء إصدار بيان لتهدئة الخواطر، إلا أن عمر مكرم أبى المشاركة فى هذا البيان الذى صدر فى ٣١ أكتوبر ١٧٩٨ م / ١٢١٣ هـ، كما رفض أيضًا المشاركة فى البيان التالى، ثم هاجر ثانية حين نجح الفرنسيون فى إخماد الثورة، واستهدفت أملاكه فى هذه المرة أيضًا للنهب ولمصادرة، ولم يعد إلى مصر إلا بعد جلاء الفرنسيين عنها فى سبتمبر ١٨٠١ م / ١٢١٦ هـ.

عاد عمر مكرم ليستأنف جهاده فى مصر ضد مظالم أمراء المماليك ومظالم الباشا نائب السلطان العثمانى، فلم تكن أحوال مصر بخير، وكانت الأمور نهبًا لهذه الطغمة، وقد كشفت الأحداث المتتالية لعمر مكرم، والمعارك التى خاضها فى صف الشعب، حقيقة ما يجرى من نائب السلطان وأمراء المماليك، واكتشف حقيقة من يتساقطون نفاقًا ورياءً ومداهنةً وزلفى، ورأى المكائد التى تدبر للفوز بالنفوذ والسلطان.

ومع ولاية الصدر الأعظم خسرو باشا أغا الانكشارية , منصب نائب السلطان العثمانى، فى أعقاب جلاء الحملة الفرنسية ١٨٠١م , انتشرت الفوضى والاضطرابات فى مصر، وتعددت سقطات هذا الباشا، فثار عليه الجند، وتعاقبت على مصر أحداث جسام، فهرب خسرو باشا إلى المنصورة، وتعقبه طاهر باشا، ولم يكن هذا الأخير سوى رجل أمى لا وزن له، فأزيح من الحكم وقتل بعد ٢٦ يومًا، وتصارع أمراء المماليك كالعادة، وبدا أن الأمور قد استقرت بعد أحداث جسام لعلى باشا الطرابلسى، ولكن سرعان ما تداعت دواهى قتل فيها الطرابلسى، وعاد الألفى بك الكبير إلى رشيد بعد أكثر من سنة قضاها فى بلاد الإنجليز الذين كانوا على صلات به، ورغم ما كان بين الألفى والبرديسى من حسد وغيرة، دخلا معًا فى ائتلاف، ولكن سرعان ما وقع الخلف بينهما، فهرب الألفى بك حينما شعر بالتآمر، وأخفق أعوان البرديسى فى العثور على البك الكبير الهارب.

وفى هذه الظروف الملتبسة التى كانت تمر بمصر , تفطن محمد على إلى مغزى الحوادث , واستصفى خلاصتها , وطفق يتحرك بذكاء وخبث ودهاء , ساعده على التقدم , أن الشعب والزعماء اكتووا بنار المماليك, وعلموا أنه لا رجاء ولا أمل فيهم , وقدمت لمحمد على مواهبه وسداد خطته وسياسته , ومع مجريات الصراع بين المماليك وبعضهم البعض , وضد الباشا الوالى التركى من قبل السلطان العثمانى , طفق محمد على يتقدم مدعومًا بالشعب وزعمائه, وجعل زعماء الشعب يجتمعون ويتشاورون , ويتشاركون فى تدبير الأمور بعد أن طفح الكيل من المماليك , على أن صاحبنا عمر مكرم كان أكثرهم بروزًا , وأكثر زعماء الشعب شجاعة
وإقدامًا , وأقواهم إخلاصًا وإيمانًا.. لم يتحرك لظلم لحق به أو ضرر أصابه , كما فعل غيره , وإنما التزمت كل تحركاته بنصرة الحق , وتفطن إلى أن كل هَمّ العثمانيين القضاء على الأمراء , لا لمصر ومصالحها، ولكن ليخلو لهم الميدان , وأن خورشيد باشا الذى اختاروه بعد الأحداث الجسام نائبًا عن السلطان العثمانى , يسير على ذات الوتيرة، ويلتزم التزامًا تامًا بهذه الخطط , ويسعى بكل السبل لتنفيذها , وحصره عناده فيما يريده السلطان بعيدًا عما تفرضه مصالح العباد الذين لا ولاء له تجاههم , فاهتم خورشيد باشا بجباية الأموال بالضرائب والمكوس والافتداءات , فثارت النفوس , واضطربت القاهرة اضطرابًا شديدًا , هنالك تقدم الفارس عمر مكرم ليعبر عن ضمير الشعب الذى كان روح حركته , فكان أول من دعا إلى الاجتماع فى دار المحكمة الكبرى لإعلان خلع خورشيد باشا واختيار محمد على بدلًا منه , وكان أول من دعا إلى محاصرة القلعة بعد أن أبى خورشيد باشا النزول منها متمسكًا بأن يبقى على رقاب الناس رغم أنوفهم. ووقف عمر مكرم يقول فى نهاية حوار طويل مع أحد مستشارى خورشيد باشا: « أن أولى الأمر هم العلماء وحملة الشريعة والسلطان العادل , وهذا رجل ظالم , وقد جرت العادة من قديم الزمان أن أهل البلد يعزلون الولاة , وهذا شىء مألوف من زمان , حتى الخليفة والسلطان إذا سار فى الناس بالجور فإنهم يعزلونه ويخلعونه , وقد أفتى العلماء والقاضى بجواز قتالهم ومحاربتهم لأنهم عصاة ».

واستمر السجال بين الثوار بقيادة عمر مكرم وبين حامية خورشيد باشا نائب السلطان العثمانى، ولم تنطل الخدعة التى لجأ إليها الوالى حين بعث مندوبه عمر بك ليفت فى عضد الثوار بإيهامهم كذبًا بأن الباشا قد عزم على النزول من القلعة والتسليم. ويروى الجبرتى أن القتال قد اشتد يوم الاثنين ٢٧ مايو، وأن السيد عمر مكرم شدد فى حصار القلعة، وسرد ما بذله فى إعداد معدات هذا الحصار، فلما أظهر جنود الأرناؤود التمرد، ورفضوا استمهال محمد على لهم ومطالبته لهم بالصبر على رواتبهم حتى يسلم خورشيد باشا، وتفرقوا تاركين المتاريس التى أقيمت حول القلعة، هنالك تصدى الشعب للحلول محلهم وتترس فى مواضعهم التى تركوها.

ومن صفحات عمر مكرم فى هذه الظروف المضطربة، أنه ظل يراقب التطورات فى يقظة وحذر وفطنة، وسعى بحكمة لإخماد الفتنة التى كادت تشب بين الشعب والمتخاذلين من جنود محمد على من الأرناؤود، وحال دون استفحال الشر حتى لا تفشل الثورة على طغيان الوالى العثمانى، ويروى الجبرتى أن عمر مكرم كان صاحب الصوت المسموع والكلمة التى لا تُرَد فى تلك الأيام التاريخية، وفى داره كانت تُعقد الاجتماعات ويُنادى باسمه فى الأسواق وتُعلن الأوامر منسوبة إليه، وكان هو المرجع فى حل المعضلات.

ومع استمرار الثورة، لم يجد السلطان العثمانى بدًّا من الاستجابة لمطالب الشعب والعلماء، فأرسل فى ٩ يوليو ١٨٠٥ رسولًا إلى القاهرة يحمل فرمانًا بعزل خورشيد باشا وأمره بالتسليم، ويقر ما رآه أهل مصر من خلعه واختيار من يشاءون واليًا عليهم من قبل السلطان. وسلم المندوب إلى محمد على باشا « والى جدة سابقًا » بتثبيته واليًا على مصر « حيث رضى بذلك العلماء والرعية وأن خورشيد باشا معزول عن ولاية مصر ».. وكان يومًا مشهودًا خرجت فيه الجماهير محتشدة عن بكرة أبيها، احتفالًا بانتصار الشعب، وفرض إرادته.

وقد كان من مثالب محمد على، زيادته للضرائب على كاهل الناس تلبية لمطالب السلطان العثمانى فى الباب العالى، ورضوخًا لأطماع دولة الخلافة العثمانية بمنطق « الجباية »، فبدأت مراجعة عمر مكرم لسياسة محمد على الذى جعل يستجيب لمطالب الباب العالى تحقيقًا لمطامعه، وقد أدت معارضة عمر مكرم إلى قيام محمد على بنفيه مرتين، الأولى إلى دمياط لأكثر من أربع سنوات تحت المراقبة والحراسة، والثانية إلى طنطا فى أبريل ١٨٢٢ م / ١٢٣٨ هـ، بعد أن خشى محمد على من تزايد شعبيته، إلا أن عمر مكرم لم يستغل هذه الشعبية للانتفاض ضد محمد على باشا، مخافة الفتنة التى ذاقت مصر شرورها وظل طائعًا شامخًا فى منفاه إلى أن توفى أواخر سنة ١٨٢٢ م / ١٢٣٨ هـ.

واليوم إذا أردت أن تزور قبره، فسوف تجده مجهولًا بين قرافة المجاورين، لا يحمل اسمًا ولا تاريخًا، بيد أن صاحبه عاش ويعيش فى ضمائر المصريين حتى أبد الآبدين.