بقلم – د. عاصم الدسوقى
«رجال الأعمال» صفة أطلقها الرئيس السادات على أصحاب رأس المال التجارى والصناعى، الذين بدأوا فى استثمار ما لديهم من أموال فى مختلف المشروعات الاستهلاكية فى حماية سياسة الانفتاح الاقتصادى، التى أعلنها السادات فى مطلع سبعينيات القرن الماضى وصدور قانون استثمار رأس المال العربى والأجنبى رقم ٤٣ لسنة ١٩٧٤ الذى يقضى بتوفير كل الضمانات لنشاط رأس المال الأجنبى الغربى الأوربي- الأمريكي، وأيضًا رأس المال القادم من البلاد العربية، وخاصة من دول النفط.. فلما طالب بعض الرأسماليين المصريين بتعميم هذه الضمانات عليهم، وعدم قصرها على الأجانب والعرب، وبأن لهم أحقية فى التمتع بالامتيازات نفسها، صدرت التعديلات اللازمة بالقانون رقم ٣٢ لسنة ١٩٧٧.
ومنذ ذلك التاريخ أخذ رجال الأعمال يستثمرون أموالهم فى المشروعات الاستهلاكية والخدمية وليس فى مجالات الإنتاج الخاصة بتنمية اقتصاديات البلاد على طريق الاستغناء عن الاستيراد وتحقيق القوة الاقتصادية واستقلال الإرادة السياسية. ولأن رجال الأعمال هؤلاء لا يستطيعون حماية استثماراتهم عن طريق الإدارة، التى تتبعها لأنها إدارة غير علمية (إدارة عائلية)، فقد لجأوا إلى الاحتماء بأداة الحكم لتوفير الغطاء اللازم، مما جعل مصير شركاتهم مرهون باستمرار المسئول الذى يحتمون به.. ولقد كشفت بعض القضايا عن جود صلة بين مسئولين تنفيذيين فى الحكومة وبين هذه الشركات لتقديم التسهيلات والحماية المطلوبة حسب مقتضى الحال مما أصبح يعرف بقضايا الفساد.. ومن هنا أطلق البعض على رجال الأعمال هؤلاء صفة الرأسمالية الطفيلية.
ومن المعروف أن رجال الأعمال يعزفون عن الاستثمارات الإنتاجية ويركزون على النشاط الخدمى فى الفندقة والسياحة والخدمات المصرفية والصناعات الاستهلاكية، التى لا تحتاج إلى وقت طويل للإنتاج، وتؤدى إلى الربح السريع.. كما لا يهمهم فى كثير أو قليل قضية التنمية الإنتاجية وتطوير اقتصاديات البلاد، ومن هنا هذا الطابع السريع والسهل فى توظيف الأموال.. ويزيد من مأزق بعض رجال الأعمال أنهم يتشاركون مع رأسمال وافد من بلاد النفط العربية، الذى لا يقبل أصحابه على الاستثمارات الإنتاجية الحقيقية تماشيا مع طبيعة الاقتصاد فى بلادهم القائم على استيراد الصناعات المعقدة والمركبة، وليس إنتاجها محليًا، فضلا عن احتمال فض الشراكة بين يوم وآخر إذ لا يعرف الشريك إلا مصلحته فقط.
وإذا كان رجال الأعمال هؤلاء لا يسهمون فى عملية التنمية الإنتاجية الحقيقية ولا يلتزمون بتطوير اقتصاديات البلاد، فمن باب أولى أنهم لا يلتزمون بالبعد الاجتماعى فى توجهاتهم، إذ لا يقومون بالتنويع فى مفردات نشاطاتهم، بحيث تغطى مختلف الخدمات الاجتماعية، وعلى رأسها الخدمات الصحية، لأن مثل هذه الخدمات لا تحقق الربح المستهدف.
وعلى هذا فإن رجال الأعمال هؤلاء لا يمثلون نظاما رأسماليا أو نظام الاقتصاد الحر، كما هو معروف فى بلاد الغرب الرأسمالى الأوربى- الأمريكى.. فمن المعروف أن الرأسماليين فى الغرب هم الذين بأموالهم قاموا بتنمية بلادهم اقتصاديا فتحققت لها القوة والمنعة، ومن ثم السيطرة فى الخارج على مصادر المادة الخام القائمة فى بلاد العالم الثالث، وتحويلها إلى سوق لتصريف الفائض من منتجاتهم ومن ثم الاحتلال والتبعية.. وكانت مصر أحد هذه البلاد، التى خضعت طويلا للاحتلال البريطانى حتى تحررت بفعل ثورة يوليو ١٩٥٢، حين قامت الدولة بمشروعات التنمية الحقيقية وتأسيس صناعة الحديد والصلب والمصانع الحربية ومصانع الألومنيوم تأكيدا للاستقلال.. وعندما رغب أصحاب رؤوس الأموال عن استثمار أموالهم فى مشروعات التنمية وفضلوا الاستيراد على الإنتاج، أقدم جمال عبدالناصر على التأميم، وقامت الدولة (القطاع العام) بالاستثمار فى مجالات الإنتاج الكبرى للاستغناء عن الاستيراد والتحرر من التبعية، وتقديم الخدمات الاجتماعية بما يتناسب مع دخل الطبقة الوسطى والعمال والأجراء والفلاحين، وأصبح المواطن المصرى العادى آمنًا على يومه وغده ومستقبل أولاده.
فلما رحل جمال عبدالناصر (سبتمبر ١٩٧٠) وتولى السادات الحكم، أخذ يغازل الولايات المتحدة الأمريكية لمساعدته فى التنمية بعد حرب أكتوبر فكان الثمن تحرير الاقتصاد من يد الدولة تحت عنوان «الاقتصاد الحر»، الذى أصبح فى بلدنا «النهب الحر» لصالح رأس المال الطفيلى، الذى استهدف الربح السريع وتخلى عن التنمية الإنتاجية والرعاية الاجتماعية، فأخذت الأزمة تزداد سوء يومًا بعد يوم.. ولقد شهد السادات بنفسه سوء عاقبة تخلى الدولة عن إدارة الاقتصاد عندما انفجرت مظاهرات ١٨-١٩ يناير ١٩٧٧.. ومع هذا لم يتخل السادات عن رسملة الاقتصاد، وتابع مبارك نفس السياسات، التى استمرت قائمة حتى يومنا هذا رغم ثورتى يناير ٢٠١١ و٣٠ يونيه ٢٠١٣ التى طالبت بالعدل الاجتماعى والحرية.
وفى ضوء هذه المتغيرات السلبية بشأن تنمية الاقتصاد والرعاية الاجتماعية بفعل سلبية رجال الأعمال واهتمامهم بتنمية أرباحهم ومكاسبهم على حساب حاجات الفقراء والمحتاجين، زادت أعمال الخير من أموال القادرين المتبرعين: الزكاة عند المسلمين، والعشور، التى تتقاضها الكنيسة، وذلك لتوفير بعض الاحتياجات الأساسية للفقراء بعيدا عن الدولة وعن رجال الأعمال.. ومن عجب أن الدولة حاليا تكتفى بالدعوة للتبرع لصندوق «تحيا مصر»، ولا يستجيب لهذه الدعوة إلا «بعض شرائح الطبقة الوسطى» والبسطاء حتى ليشعر الإنسان بالدهشة والإعجاب عندما يجد أن سيدة مسنة تدع سبيلة على أحمد عجيزة من الدقهلية تتبرع لصندوق تحيا مصر بكل ثروتها وتدهش أكثر وأكثر عندما تعلم أن كل ثروتها عبارة عن ٢٠٠ ألف جنيه وبعض المشغولات الذهبية، ويلتقى بها الرئيس تقديرا وإعجابا.. ولا يشعر رجال الأعمال بالغيرة مثلا من سلوك هذه السيدة وغيرها فيقدمون على التبرع. والرئيس وبمقتضى الاقتصاد الحر يكتفى بدعوة رجال الأعمال للاهتمام بالمشكلة الاجتماعية، ولكنهم كما تقول الحكمة الشعبية «ودن من طين وودن من عجين»، ولسان حالهم يقول: إللى م معهوش م يلزموش.. وتلك قمة السلبية فى التخلى عن دور رأس المال الحقيقى فى التماسك الاجتماعى مثلما يفعل الرأسماليون فى الغرب الذين يضعون فى اعتبارهم ثورة الفقراء فى الوقت المناسب، وتهديد نقابات العمال بالإضراب، فيؤثرون السلامة بالاستجابة لطلبات العاملين والحرص على التوازن بين الأسعار والمرتبات، فيحدث التماسك الاجتماعى ويحافظون على ثروتهم ومكانتهم.. ولكن فى مصر لا يوجد رقيب على جشع رجال الأعمال وتصرفاتهم لا من الدولة ولا من خلال قانون يضبط إيقاع المجتمع من أجل السلام الاجتماعي.
ولو أن رجال الأعمال توقفوا عن الاستيراد وأقاموا مصانع للسلع التى يستوردونها، لما أصبح للدولار قيمة وأصبحت الأسعار متناسبة مع الأجور، لكنهم يرفضون هذا المنهج لأن إقامة المصنع وتشغيله سوف يؤخر حصولهم على الأرباح والأموال، وتتأجل حفلات السمر والليالى الملاح والسفر إلى أنحاء أوربا، وسوف يحرمون أنفسهم من استيراد العشاء من باريس بالطائرة على سبيل المثال.
وعلى هذا ينبغى أن يضع رجال الأعمال فى اعتبارهم أن تصبح شركاتهم رأسمالية بالمعنى الاصطلاحى حتى يتخلصوا من شبهة «الطفيلية»، التى تلتصق بهم منذ نهاية سبعينيات القرن الماضى. والمسألة لا تحتاج إلا إلى نية صادقة واستعداد مخلص ليس فقط بهدف تنمية المجتمع المصرى واقتصادياته على أهمية ذلك الهدف، وإنما حماية لوجودهم الاجتماعي، وصيانة لأموالهم واستثماراتهم من مشكلات ضيق السوق النسبى ومن ظاهرة التضخم.
وتحقيقًا لهذا يمكن لرجال لأعمال القيام بما يلى:
- التخلص من الطبيعة العائلية المركزية فى الإدارة والاستعانة بالخبرة العلمية فى إدارة المشروع حتى يتحقق المستوى الأمثل فى الإدارة.
- تنويع مجالات الاستثمار وعدم الاقتصار على الصناعات الاستهلاكية سريعة الربح، وإنما الإقدام على الصناعات الكبرى عن طريق زيادة رأسمال الشركة بطرح حصة من الأسهم تقل عن ٥٠٪ للاكتتاب العام.. فمثل هذه المشروعات هى التى تحقق التنمية المطلوبة، التى يحتاجها المجتمع.
- تدوير الأرباح الناتجة فى مشروعات أخرى تفتح باب فرص العمل للمحتاجين، وعدم الاكتفاء بوضعها فى صورة مدخرات وودائع فى بنوك مصرية أو خارجية.
- تقدير حقوق العمال والموظفين فى ضمان الحصول على الأجر المناسب، وعلى الرعاية الصحية، وعلى المعاش فى حالة الاستغناء عن أى منهم.. وعدم استخدام سلاح الفصل التعسفى دون إنذار مسبق ففى بعض الأحيان يتم استكتاب المتقدم لوظيفة فى تلك الشركات لاستقالته بدون تاريخ، أى على بياض، مع استلامه للعمل حتى يمكن الاستغناء عنه بسهولة ودون ملاحقات قضائية.
- الحرص على تقديم خدمات صحية وتعليمية ببناء المستشفيات والمدارس والجامعات مع مراعاة مستوى الفقراء إلى حد ما من خلال رفع قيمة الخدمة على الأغنياء يستفيد منها الفقراء، وبهذا يحدث نوع من التماسك الاجتماعي، ويزول الحقد والكراهية من نفوس غير القادرين.