تتنوع أخلاقيات الأفراد في كل
المجتمعات، فهناك المسالم وهناك الشرير، وبينهما من تضطره الظروف للميل نحو الشر،
لذا أقرت كل المجتمعات وجود قوة من الأفراد، يتم انتقائها بعناية كي تفرض الأمن
بين الناس، وتعزل الأشرار وتجنب المجتمع شرورهم، كي ينهض الوطن ويستمر نمو المجتمع
وازدهاره في كل المجالات، وسميت تلك القوة بـ "الشرطة" وهي قوة لا غنى
عنها في أي مجتمع.
للشرطة في مصر تاريخ طويل منذ النشأة
وحتى أبرز معالم نضالها ووطنيتها، والتي ظهرت جلياً في أحداث الإسماعيلية في بداية
عام 1952، حيث أكدت كل الوقائع أنها كانت الداعمة للفدائيون المناهضون لقوات
الإنجليز، وهذا ما تسبب في موقعة الإسماعيلية الشهيرة التي راح ضحيتها قرابة 50
شهيداً و80 جريحاً من ضباط وأفراد قسم الشرطة ومبنى محافظة الإسماعيلية.
بدأت الحكومة المصرية في مناهضة
الإحتلال الإنجليزي في شهر أكتوبر 1952، حيث قامت بتحريض العمال المصريون الذين
يعملون بمعسكرات الإنجليز على ترك عملهم، من خلال فتح مكاتب لتسجيل أسماء العمال
الراغبين في ترك خدمة الإنجليز، وبالفعل ظهرت النخوة والوطنية عند العمال حيث سجل
أكثر من 91 ألفاً من العمال أسمائهم، ووضعت تلك الخطوة قوات الإحتلال في موضع حرج،
حيث انقطعت عنهم الخدمات، وتكاتف أيضاً موردي الأغذية والمشروبات مع الحكومة
ومنعوا توريد الأغذية للإنجليز.
ومن جهة أخرى بدأت الأنشطة الفدائية
والتخريب ضد قوات الإنجليز في مدن القناة، وأصبحت الخسائر فادحة في المعدات
والمعسكرات، مما أوصل قادة الإحتلال إلى قمة الغليان، وهنا أقدمت قوات الإحتلال
على مغامرة كي تهين بها الحكومة المصرية لترجعها عن قرارها بسحب العمال ودعم
الفدائيون، ففي صباح يوم الجمعة 25 يناير 1952 استدعى قائد القوات البريطانية في
الإسماعيلية ضابط الإتصال المصري وسلمه إنذاراً بأن تقوم قوات الشرطة المصرية
بتسليم أسلحتها للقوات البريطانية، وأن ترحل الشرطة المصرية من مدن القناة وتنسحب
إلى القاهرة بحجة أن ثكنات محافظة الإسماعيلية وأقسام الشرطة تعد مأوى الفدائيين
المصريين.
رفضت محافظة الإسماعيلية الإنذار
البريطاني وسارعت برفع الأمر إلى وزير الداخلية فؤاد سراج الدين، الذي رفض أيضاً
الإنذار وطلب من رجال مبنى المحافظة وقوات قسم الشرطة الصمود والمقاومة، وعلم
القائد البريطاني برفض إنذاره ففقد أعصابه وأمر قواته ودباباته بمحاصرة قسم شرطة
الإسماعيلية، وطالب مأمور القسم بتسليم أسلحة جنوده وضباطه ، ورفض جنود الشرطة
وقواتها إنذار الإنجليز.
وقبل أن تغرب شمس ذلك اليوم أحاطت
قوات من الإنجليز قوامها سبعة آلاف جندي مزودين بالأسلحة مبنى محافظة الإسماعيلية
وقسم الشرطة، بينما كان أجمالي قوات الشرطة في الثكنات وقسم الشرطة لايزيد عن 880
فرداً لا يحملون سوى البنادق .. وانهالت النيران البريطانية وقذائف الدبابات
على قسم الشرطة ومبنى المحافظة لمدة ساعتين متواصلتين، كافح خلالها جنود الشرطة
ببسالة حتى نفدت آخر رصاصة في بنادقهم، وقد سقط خمسون شهيداً منهم وأصيب ثمانون
وكانوا من قوات الشرطة المتمركزة في القسم.
تعجب الجنرال "اكسهام" قائد
القوات البريطانية من بسالة رجال الشرطة المصرية وصمودهم، فأخبر ضابط الإتصال
المصري بأن رجال الشرطة المصريون دافعوا بشرف واستسلموا بشرف، ووجب احترامهم
جميعاً ضباط وجنود، وأمر قواته بأداء التحية العسكرية لباقي رجال الشرطة المصرية
الذين استسلموا بعد نفاد ذخيرتهم.
اندلعت أخبار تلك المجزرة البشعة
ووصلت إلى أرجاء مصر والقاهرة في صباح 26 يناير 1952 واستقبل المصريون الخبر
بالغضب والسخط على الإنجليز، وخرجت المظاهرات العارمة تجوب أنحاء مصر، وفي القاهرة
خرج جنود الشرطة مع طلبة الجامعات في مظاهرات تشق شوارع العاصمة معبرة عن سخطها
الشديد على قوات الإحتلال .. وكانت تلك الواقعة هي الشرارة التي تسببت في حريق
القاهرة، وأظهرت تخاذل الملك فاروق ومهدت لثورة 23 يوليو 1952.
وأصبح منذ ذلك اليوم 25 يناير عيداً
لمحافظة الإسماعيلية وعيداً للشرطة يحتفل به كل عام يخلد بسالة الشرطة المصرية.