على الرغم من أن صورة تركيا أردوغان “الإرهابية” حليفة الجهاديين والمتشددين تترسخ في أذهان الرأي العام المحلي والدولي يوما بعد يوم، بسبب ممارساتها في الداخل التركي وخارجه، إلا أن حكومة العدالة والتنمية وأجزتها لا تكفّ عن إلصاق تهمة الإرهاب والإجرام بكل خصومه من السياسيين والعسكريين والمدنيين.
قد زجّ نظام أردوغان بالطبقة المثقفة في السجون أو فصلها من وظائفها وسلب منها ألقابها الأكاديمية، ولم يسمح لها بالعمل حتى في القطاع الخاص، وأتاح الفرصة لمسؤولين حكوميين وزعماء مافيا يأتمرون بأمرهم، للحديث على مرأى ومسمع من الجميع، عن اعتزامهم على إخراج “الأسلحة التي خبأوها في غابات إسطنبول”، و”إراقة الدماء أنهارًا”.. في مواجهة كل معارض وجهت له تهم “المشاركة في الانقلاب الفاشل” أو “الانتماء إلى منظمة فتح الله غولن” أو “التورط في أعمال إرهابية” أو “إهانة رئيس الجمهورية” أو “الخيانة الوطنية” أو غيرها من الاتهامات الجاهزة المماثلة.
وعلى المستوى الإقليمي والدولي، لا يمضي أسبوع إلا وتطالعنا الصحف العربية والدولية بأخبار عن العثور على شاحنة أو سفينة تركية تحمل السلاح إلى سوريا أو ليبيا بطريقة غير قانونية؛ وتكشف تقارير دولية تعدها مؤسسات مرموقة على مستوى العالم عن عمليات تعذيب واختطاف ينفذها “فرسان الظلام” التابعون للمخابرات التركية ضد الأتراك المقيمين في الخارج، ليس لهم أي ذنب سوى أنهم مؤهلون علميًّا وأكاديميًّا، ومميزون أخلاقيًّا وسلوكيًّا، ويسعون للمساهمة بمن غيرهم في إنقاذ بلادهم من براثن الجهل والفقر والفرقة، ويحاولون تحقيق الهدف ذاته في كل أنحاء العالم بإمكاناتهم المحدودة..
كانت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية نشرت قبل أيام تقريرًا بعنوان “الأتراك المعارضون لرؤية أردوغان يحملون ثرواتهم ومهاراتهم ويغادرون البلاد في أسراب”.
وذكر تقرير “نيويورك تايمر” أن نسبة المهاجرين من تركيا قد ارتفعت إلى 42 بالمئة خلال 2018، بواقع 253 ألف و640 مهاجراً، و12 ألف مليون تركي نقلوا ثرواتهم خارج البلاد خلال عامي 2016 و2017، بما يعادل 12 بالمئة من أصحاب الثروات في البلاد.
ونشرت الصحيفة بيانات تشير إلى مغادرة عائلات الطبقة العليا تركيا بعد شراء أملاك في اليونان والبرتغال وإسبانيا.
وبدلاً من أن يبذل نظام أردوغان جهوده لمحو هذه الصورة الإجرامية والإرهابية، بالتخلي عن الممارسات التي خلقت تلك الصورة، من خلال العودة إلى القانون والدستور في الداخل، والشرعية في العالم، إلا أنه يستمر في وصف معارضيه، وعلى رأسهم المتعاطفين مع حركة الخدمة، بالإرهاب، من خلال تكرار المزاعم التي لا يؤمن بها حتى أغلب أنصاره.
ونشرت وكالة أنباء الأناضول الرسمية، التي تأتي في مقدمة شبكات الخداع والتضليل في تركيا، ما سمته “تقريرًا أمنيًّا” أعدته أكاديمية الشرطة التركية لا يمكن وصفه حتى بتقرير صحفي، إذ يحفل بالأكاذيب ويخلو من أي نوع من الأدلة ويقع ضمن جهود النظام الرامية إلى إعادة برمجة الواقع وخلق واقع وهمي بديل من خلال آلية التنويم المغناطيسي الشامل للقطيع اللاهثين وراءه من دون إعمال للإرادة والتفكير.
ولأن نظام أردوغان يعلم جيدًا أنه ليس بمقدروه إقناع المجتمع التركي والدولي بمزاعمه الخاصة بحركة الخدمة بالطرق التقليدية، كتقديم أدلة ملموسة للرأي العام من قبيل الصور ومقاطع الفيدو والتسجيلات الصوتية، التي تكشف تورط المتعاطفين مع الحركة أو المنتمين إليها في أعمال إجرامية وإرهابية، أو حيازتهم أي نوع من الأسلحة، فهو يفضل أن يصفها في التقرير بـ”منظمة إرهابية من الجيل الجديد!”، وذلك لكي يتلاعب بعقول الناس ويقنعهم بأنها منظمة إرهابية من نوع آخر، فلا تبحثوا ولا تسألوا عن الأسلحة التي عثر عليها بحوزتهم أو الهجمات الإرهابية التي نفذوها!! فهي منظمة من نوع آخر.. منظمة من الجيل الجديد!!
وعلى الرغم من أن المجتمع الدولي يتهم نظام أردوغان بالسعي لتدمير السلام والأمن الدوليين، من خلال توظيف عناصر التيار الإسلامي المتطرف في تركيا والدول العربية بل حتى الأوروبية، وأن تقارير دولية تدعو مجلس الأمن الدولي إلى إعلان تركيا كدولة داعمة للإرهاب واتخاذ اللازم، غير أنه لا يكترث بكل ذلك ويزعم أن حركة الخدمة تهدد الأمن والسلام العالميين، مع أن ملهم حركة الخدمة فتح الله غولن حصل على جائزة غاندي للسلام.
ولعل أكبر دليل على وصول أصداء القمع الممارس في الداحل التركي للمؤسسا ت الدولية، دعوة منظمة العفو الدولية “أمنيستي” تركيا إلى وضع حد لانتهاكات حقوق الإنسان التي تمارس في البلاد ضد المعارضين والمدافعين عن حقوق الإنسان باسم “الأمن القومي” .
وقالت “أمنيستي” في آخر تقاريرها إنه “منذ محاولة انقلاب يوليو2016 ، أطلقت حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان، حملة مروعة ضد المدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين والمحامين والأكاديميين، وغيرهم ممن يُنظر إليهم على أنهم معارضون.
وأشارت المنظمة الدولية، إلى أن “العديد من قوانين الطوارئ المسيئة التي وضعت بعد محاولة الانقلاب الفاشلة على أنها مؤقتة، أصبحت الآن دائمة”، موضحة أن هذه القوانين تشمل “صلاحيات استثنائية للفصل التعسفي للقضاة وغيرهم من الموظفين العموميين، وفرض قيود على سفر الأشخاص داخل تركيا، وحظر التجمعات العامة، وتمكين الشرطة من احتجاز المشتبه بهم لفترات طويلة دون توجيه تهمة”.
وقالت وكالة الأناضول في خبرها عن التقرير المذكور إنه “ألقى الضوء على تاريخ المنظمة وغاياتها وميزاتها الأساسية، وتنظيمها إعلاميًا وتعليميًا وأنشطتها في العديد من دول ومناطق العالم بما فيها الولايات المتحدة؛ وعلاقاتها مع أجهزة استخبارات أجنبية.”
والحقيقة أن وسائل الإعلام والمدارس والجامعات والانفتاح على العالم الخارجي.. كل ذلك يعتبره نظام أردوغان أدوات إرهابية؛ لأن هذه المؤسسات تنشر الأخبار والمعلومات الصحيحة، وتنشئ أجيالاً مؤهلين علميا وفكريا، قادرين على وزن الأمور والتمييز بين سيئها وجيدها والتوصل إلى الحقيقة وما هو الصالح للفرد والمجتمع.. وكل ذلك محرم عند نظام أردوغان.. فهو لا يريد نوعًا بشريًّا يريد ويفكر وإنما يريد نوعًا من القطيع يسمع ويطيع فقط دون إرادة وتفكير.
ومن ثم يتهم التقرير حركة الخدمة بأنها “تتخفى في العديد من دول العالم من خلال نقل مدارسها إلى ملكية جهات محلية أو غربية، للتستر على أنشطتها”.
ولكن السؤال : هل للتستر على أنشطتها أم لإنقاذ مؤسساتها التعليمية من عمليات الاستيلاء غير القانونة لنظام أردوغان، كما حدث في بعض الدول الفقيرة ماليا وديمقراطيا؟!!!
ولماذا لم تلجأ الحركة منذ البداية إلى التخفي خلف جهات محلية أو غربية، بل فضّلت أن تعمل في العالم بهويتها الظاهرة إن كنتم صادقين؟!!
يتهم التقرير أيضًا حركة الخدمة بـ”إقامة علاقات مع أجهزة استخبارات أجنبية” !
هذا الزعم قد يدل على حسد نظام أردوغان حركة الخدمة! حيث إنه يعجز في الوقت الراهن عن إقامة علاقات مع الحكومات العربية إن استثينا بضعًا منها كدولة قطر!
هل إقامة علاقات جيدة أو التنسيق مع أي دولة أو مؤسسة أمنية جريمة! خاصة إذا أخذنا في الحسبان أن العاملين لدى مؤسسات حركة الخدمة يتعرضون لعمليات اختطاف، وأن كبار المسؤولين الأتراك، بما فيهم إبراهيم كالين، المتحدث باسم أردوغان، يؤكدون أنهم سوف يختطفون المنتمين إلى الحركة أينما كانوا حتى ولو في الولايات المتحدة!
خلاصة القول: إن ما نشرته وكالة الأناضول تحت مسمى التقرير الأمني ليس إلا تكرارا سيئا لمزاعم نظام أدوغان السابقة التي لا تلقى رواجًا في أي سوق بالعالم!