الأحد 26 مايو 2024

هذا ما قدمه الرأسماليون لثقافة مصر فى الماضى

31-3-2017 | 10:45

أتابع كل يوم أغنياء هذه الأيام، ماذا يفعلون بغناهم؟ ماذا يقدمون للمجتمع من حولهم كنوع من رد الجميل؟ وكضريبة أو زكاة على الأموال الرهيبة التى يحصلونها بحق أو بدون وجه حق؟ لا أتحدث عن اللصوص والنهَّابين والسرَّاق منها. فأولئك يواجههم القضاء بأحكامه الرادعة. ولكنى فقط أكتب عمن سرقوا ونجحوا فى الهروب بما سرقوه، ويواصلون السرقة الآن آناء الليل وأطراف النهار.

لا أستطيع أن أكتب أكثر من هذا، ولذلك فضلت الهروب للتاريخ. وهل هناك ما هو أفضل من التاريخ لكى نهرب منه حتى لا نواجه الواقع؟ لأن مواجهة الواقع الراهن قد تعنى مساءلات قضائية، وأبواب السجون مفتوحة لكل صاحب رأى، وترسانة القوانين جاهزة لكل مجتهد، وليتها كانت مفتوحة وجاهزة للصوص الشعب الذين يسرقون أقوات الشعب، ويحولون حياة الشعب – خصوصاً الفقراء منهم – إلى جحيم على الأرض.

لدىّ حكايتان من التاريخ القريب، واحدة وقعت فى أربعينيات القرن الماضى، أى فى مصر الملكية قبل ثورة يوليو ١٩٥٢، والثانية وقعت فى خمسينيات القرن الماضى فى زمن ثورة يوليو، بطلة الأولى «قوت القلوب الدمرداشية» والتى قدمت لنجيب محفوظ أول جائزة أدبية حصل عليها فى حياته. وقال لنا أكثر من مرة أن جائزة قوت القلوب الدمرداشية ربما كانت أهم من نوبل. لأنها وفرت له الانطلاق فى سنواته الأولى، وأخرجته من حالة اليأس الأدبى التى كان يمر بها. ولولاها ما كان.

أما القصة الثانية فبطلها عمدة من الصعيد الجوانى هو: زكريا مهران. وقد لعب دوراً مختلفاً تماماً عن قوت القلوب الدمرداشية، لكنه دور حضارى وثقافى، حيث احتفظ بتسجيلات الشيخ محمد رفعت، وكان يسجلها فى الصعيد بطريقة بدائية، وقدمها للدولة المصرية عندما فكَّر الزعيم الخالد جمال عبد الناصر فى جمع وتسجيل تراث الشيخ محمد رفعت. لا يجب أن ننسى أبداً أن كل ما نستمع إليه من ترتيل الشيخ محمد رفعت الآن، يعود الفضل فيه لتفكير عبد الناصر ولأداء عمدة الصعيد.

راوى هذه الحكاية لى هو الأستاذ محمد حسنين هيكل.

نجيب وقوت القلوب

حكى نجيب محفوظ لرجاء النقاش، كما جاء فى كتابه: نجيب محفوظ، صفحات من مذكرات وأضواء جديدة على أدبه وحياته، قال:

- أول جائزة أدبية حصلت عليها فى حياتى هى جائزة «قوت القلوب الدمرداشية» للرواية، فهذه السيدة كانت محبة للأدب، ونظمت مسابقة فى فن الرواية عام ١٩٤٠، كانت جائزتها أربعين جنيهاً مصرياً، وتشكلت لجنة تحكيم المسابقة من بعض أعضائها مجمع اللغة العربية، وأذكر منها؛ طه حسين وأحمد أمين وفريد أبو حديد، تقدم للمسابقة عدد كبير من الأدباء الشبان، وفزت أنا بالجائزة الأولى مناصفة مع على أحمد باكثير عن روايته، «وا إسلاماه» بينما فزت عن روايتى «رادوبيس»، وحصلت على نصف الجائزة الأولى وهو مبلغ عشرين جنيهاً مصرياً، وقد كان هذا المبلغ فى ذلك الوقت – لو تعلمون – عظيماً، يقارب «أعراض الثراء» الآن، وقد يكون سكان العباسية كلهم علموا بالأمر.

لم يكن مبلغ الجنيهات العشرين هو المهم، بل كان الأهم منه أن الجائزة ساهمت فى رفع روحى المعنوية إلى حد كبير. ففى تلك الفترة تعرضت للفشل وأنا أحاول نشر رواياتى فى الصحف، بما فيها الصحف غير المعروفة. فكنت أكتب وأضع ما أكتبه فى الدرج انتظاراً للفرج، وبعد جائزة «قوت القلوب» تشجعت وتقدمت لمسابقة مجمع اللغة العربية بروايتى «كفاح طيبة»، وحققت نجاحاً هنا – أيضاً – وكنت من بين الخمسة الفائزين بجوائز، وهم: عادل كامل، على أحمد باكثير، يوسف جوهر، وأنا، وخامس لا أذكره.

وكانت هذه الجائزة سبباً فى لقائى وتعارفى على هذه المجموعة من الأصدقاء. كانت تلك الجوائز فاتحة خير، لأنه بناء عليها قرر عبد الحميد جودة السحار إنشاء «لجنة النشر للجامعيين»، حيث وجد أمامه مجموعة من الأدباء الشبان الموهوبين بشهادة أساتذة كبار هم أعضاء لجنة التحكيم، وأنه يمكنه أن ينشر أعمالهم الفائزة ويضمن توزيعها، خاصة أن الجوائز الأدبية فى ذلك الوقت كانت تتمتع بالاحترام والثقة فى جديتها، وكلفنى السحار بالاتصال بالفائزين والتفاوض معهم لنشر أعمالهم من خلال «لجنة النشر للجامعيين» ووافقوا، وكان ذلك عام ١٩٤٣.

أما من هى قوت القلوب الدمرداشية التى لولاها ما كان نجيب محفوظ، فيخصص لها رجاء النقاش هامشاً كبيراً، يكتب فيه الآتى عنها:

- قوت القلوب الدمرداشية، (١٨٩٢ – ١٩٦٨) هى سيدة مصرية غنية، كان لها مكانة كبيرة فى الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية فى مصر قبل ثورة ١٩٥٢. وقد ورثت عن والدها الشيخ «محمد الدمرداش» شيخ الطريقة الصوفية «الدمرداشية» ثروة طائلة كان من بينها خمسة آلاف فدان، و»مستشفى الدمرداش» الشهير الآن، وكان والدها قد أقام هذا المستشفى كمؤسسة صحية خيرية خاصة.

وكانت قوت القلوب، تكتب بالفرنسية ولها مؤلفات بها تتناول فيها جوانب متعددة من الحياة الاجتماعية فى مصر. وكانت تملك قصراً فى الزمالك، اشترته منها العراق سنة ١٩٣٩، وقد أصبح مقراً للسفارة العراقية حتى اليوم. وأقامت بعد ذلك فى قصر جميل يطل على النيل إلى جانب المبنى القديم لوزارة الخارجية المصرية، اشترته من المليونير اليهودى المصرى: يوسف أصلان قطاوى باشا، وقد تمت إزالة هذا القصر لإقامة نفق كوبرى قصر النيل. وكانت «قوت القلوب الدمرداشية» مهتمة بتشجيع الأدب والأدباء، وأنشأت لذلك جائزتها الأدبية السنوية، وهى أول جائزة يفوز بها نجيب محفوظ. وقد هاجرت «قوت القلوب» إلى أوربا بعد ثورة ١٩٥٢، وعاشت بين باريس وروما، وانتهت حياتها نهاية مأساوية حيث تقول جريدة «الأخبار» فى عددها الصادر فى ٦ ديسمبر ١٩٦٨:

- ماتت المليونيرة «قوت القلوب الدمرداشية» فى روما على أثر مشادة بينها وبين ابنها: مصطفى الدمرداش، بعد أن رفضت منحه مبلغاً من المال فقتلها بكرسى، وتم نقلها إلى المستشفى حيث توفيت. وقبض البوليس على الابن، حيث تبين أنه مصاب بالجنون. وقد ماتت «قوت القلوب» فى السادسة والسبعين»، وقد كان ل»قوت القلوب» ابنة هى «زينب»، وكانت متزوجة من الصحفى الكبير «على أمين»، وحياة «قوت القلوب» تصلح مادة لرواية مهمة.

تسجيلات الشيخ رفعت

أما قصة تسجيلات الشيخ محمد رفعت، والعثور عليها فى ستينيات القرن الماضى، فقد حكاها لى الأستاذ محمد حسنين هيكل، عندما كنت أجرى معه حوارى الطويل: «محمد حسنين هيكل يتذكر عبد الناصر والمثقفون والثقافة». الذى نشرت طبعته الأولى ٢٠٠٣، وعبرة التاريخ هنا أن الحكاية الأولى وقعت فى زمن مصر الملكية. والحكاية الثانية وقعت بعد ثورة يوليو ١٩٥٢. ودلالة التاريخ أن الرأسمالية المصرية كان لها دورها فى هذا العصر وذاك.

قال هيكل، رداً على سؤالى له: ما نسمعه الآن من تسجيلات الشيخ رفعت، ما هى قصة العثور عليها وتسجيلها؟ وكنا نتكلم عما يستمع إليه عبد الناصر من قرآن كريم، وأغانٍ وطنية وخطب سياسية.

قال لى:

- هذه قصة لا بد من حكايتها: أم كلثوم كانت صاحبة فكرة تسجيل أداء الشيخ محمد رفعت للقرآن الكريم، لكن الشيخ رفعت كان يرفض ذلك باعتبار أنه لو جرى تسجيل القرآن كله بصوته قد يتم الاستغناء عنه، وهو كان يحصل على أعلى أجر عن ترتيل القرآن الكريم، وهو ٣٠ جنيهاً فى الساعة، وهو أجر كبير بمعيار ومقياس زمانه.

أم كلثوم اتفقت مع سعيد باشا لطفى وكان مدير الإذاعة، أن يسجل للشيخ رفعت بعض الإسطوانات أو الشرائط على سلك، دون علم الشيخ محمد رفعت، وعندما عرف بالتسجيل غضب غضباً شديداً، وذهب إلى الإذاعة وحصل على الإسطوانات والشرائط كلها، لكن بقى عند الإذاعة عشرة إلى اثنى عشر شريطاً، لم يحصل عليها الشيخ رفعت عندما طالب بتسجيلاته كلها.

إلى جانب أن هناك بعض الهواة من محبى وعشاق صوت الشيخ محمد رفعت، ومنهم عاشق اسمه زكريا باشا مهران، سجل على أجهزة بدائية قراءات للشيخ محمد رفعت من الراديو الذى كان يذيعها، ولذلك تجد أن معظم هذه التسجيلات مشوشة وفيها خروشة وتفتقر إلى نقاء الصوت الذى كان يميز صوت الشيخ محمد رفعت.

الأشرطة التى سجلها سعيد باشا لطفى بتحريض من أم كلثوم، أخذها الشيخ رفعت لأنه عمل مشكلة ومأساة كبرى، وقال إنه سيرفع قضية على الإذاعة، ولا أذكر من الذى توسط فى ذلك الوقت من أجل حل المشكلة بين الشيخ رفعت والإذاعة وردوا له بعض هذه التسجيلات.

سؤال الرئيس جمال عبد الناصر عن تسجيلات الشيخ محمد رفعت هو الذى فجر قضية البحث عن هذه التسجيلات. واتضح لنا أن كل الموجود عبارة عن بقايا تسجيلات الإذاعة له، وتسجيلات بعض الهواة، وكانت هناك بعض التسجيلات النادرة له عند أم كلثوم ولا أعرف مصيرها، وهى كلها ليست كثيرة، ومعظم هذه التسجيلات للشيخ رفعت وقدمها للإذاعة. وأهمها وأخطرها تسجيلات زكريا مهران. ولولاها لكان الشيخ رفعت قد فقد منا بصوته الجميل وأدائه العذب إلى الأبد.

هذا ما فعله أغنياء الزمان القديم، فماذا يفعل الأغنياء الجدد؟ لا أحب أن أختم هذا المقال قبل أن أشير امتثالاً للموضوعية والدقة والأمانة إلى الجائزة التى يرعاها سميح سويرس للرواية والقصة القصيرة والسيناريو السينمائى، واحدة للشباب وأخرى للكبار. وهى جائزة مهمة بدأت واستمرت حتى الآن. ولا بد من القول أنها النشاط الثقافى الوحيد الذى يقوم به واحد فقط من رجال الأعمال فى مواجهة عدد ضخم وغير محدود من رجال الأعمال، لا يعرف البعض منهم أن هناك ما يمكن أن يسمى بالثقافة المصرية والإبداع المصرى والوجدان المصرى.