بقلم : د. رانيا يحيى
أربعة عقود مضت على رحيل العندليب الأسمر صاحب الحنجرة الذهبية، الحاضر الغائب عبد الحليم حافظ، عشقت فنه منذ طفولتى وأحببت صوته الشجى الذى يداعب خواطرى ولم أكن أعرف آنذاك بالترابط الفنى بينى وبينه كعازف لإحدى آلات النفخ الخشبية من آلات الأوركسترا الغربى وهى آلة الأبوا وهو ما يتقارب ويلامس عشقى لآلة الفلوت باعتبارها أيضاً إحدى آلات النفخ الخشبية من آلات الأوركسترا والتى أمارس العزف عليها منذ سنوات طوال، وحينما اتحدث عن العزف هنا أرى أن الموسيقى لديه طاقة فنية وإبداعية كامنة تنطلق من داخله مع ملامسته للآلة الموسيقية فتخرج نغماتها معبرة عن إحساس صادق من روح الفنان.
العازف- أمنية الطفولة
ورغبة حليم فى كونه عازفاً كانت إحدى أحلام طفولته ،وأثناء تواجده فى الملجأ بعد وفاة والديه أحب الموسيقى التى اعتبرها ملاذه فى وحدته ،وشارك فى فريق الموسيقى وتعلم العزف على الآلات الموسيقية ومنها الأبوا التى تعرف عليها، لكنه أكمل الدراسة فى تخصصها حينما التحق بمعهد الموسيقى العربية فى مرحلة لاحقة ،وكانت تصريحاته الإعلامية دائماً تؤكد رغبته أن يصبح عازفاً ،وقد كان. لكن عالم الطرب فرض نفسه بعد ذلك ،وخطفه تصفيق الجمهور وحلق طائراً فى سماء الغناء والطرب ليصير العندليب الذى نتباحث فى أسرار إبداعه، رغم مرور كل هذه السنوات ويظل أيقونة فى مجال الطرب فى عالمنا العربى إلى الآن.
الأبوا قبل الطرب
وقد لا يعرف الكثيرون أن حليم كان عازفاً قبل أن يصير مطرباً للمصريين والعرب حيث تعلم العزف باحترافية على آلة الأبوا أثناء سنوات دراسته بمعهد الموسيقى العربية على يد خبراء أجانب حين التحق به فى أربعينيات القرن الماضى وبرع فيها كعازف والتحق بأوركسترا الإذاعة قبل أن يتقدم كمطرب ،ونتيجة لمهارته الأدائية فى العزف على هذه الآلة تلقى منحة لاستكمال دراسته بالخارج لكنه رفض وفقاً لبعض الآراء ،وربما لم تستكمل أوراق السفر فى روايات أخرى، ولكن المؤكد أنه لم يسافر وبقى فى مصر، واشتغل حليم بالتدريس فى مدينة طنطا لمدة أربعة أعوام لكنه استقال ولم يكمل عمله فى هذه الوظيفة بعد أن قُبِل فى الإذاعة كعازف أبوا فى أواخر الأربعينيات وقبل أن يتقدم كمطرب فى الإذاعة المصرية.
تأثير العزف على إمكانياته كمطرب
وكان لعزف الأبوا أثر كبير على تحكم العندليب فى عملية التنفس أثناء الغناء وفهمه للجمل الموسيقية، وخاصة لأنه عمل كعازف لآلة نفخ تعتمد فى المقام الأول على التنفس السليم فساعد ذلك على صقل موهبته الغنائية التى حباه الله إياها فعززت مقدرته على الغناء بأسلوب سليم يخدم صوته الذى خرج إلى جمهوره هادئاً ممتعاً ملتزماً بالمقامات الموسيقية بمنتهى الدقة والإحكام مع وقار فى نبرة الصوت فدخل قلوب الملايين وحظى بإعجاب منقطع النظير، ووراء هذا النجاح كان عازف الأبوا الكامن داخله.
عشقه للعزف
ولحب عبد الحليم العزف وأمنياته المسبقة أن يصبح عازفاً متميزاً وينال شهرة حقيقية كعازف، وبعد أن تغير المصير واشتهر بالغناء وترك عمله كعازف نجده يميل إلى العزف فى بعض الأحيان حينما يشارك الفرقة بأداء مقاطع موسيقية سواء على آلته المحببة «الأبوا» أو على آلة إيقاعية أخرى مثل الدف أو الرق كما فى أغنية «فاتت جنبنا» على سبيل المثال مما ساعده على كسر الحواجز بينه وبين الفرقة من ناحية باعتباره عازفاً مثلهم فى المقام الأول ،وأيضاً بينه وبين جمهوره حيث يتعامل بحرية تامة عند اعتلائه خشبة المسرح ،ويستشعر الجمهور رغبته فى العزف وانطلاقه بالمشاركة الموسيقية كعازف والتى أذابت الثلج بين من يعتلى خشبة المسرح وبين عشاقه ومحبيه فكان دائماً قريباً وملهماً وساحراً بل آسراً لقلوب جمهوره من جميع أنحاء الأمة العربية.
حليم وآلة العود
ومن ضمن الآلات الموسيقية التى عزف عليها عبد الحليم حافظ كانت آلة العود الشرقية والتى تعلم العزف عليها أثناء دراسته بمعهد الموسيقى العربية وكذلك ساعده فى العزف عليها ببراعة صديقه الملحن الكبير محمد الموجى، والغريب أن هذه الآلة تتشابه كثيراً مع الشجنية الملموسة فى صوت حليم، فنشعر بتوافق ملحوظ بين أوتار هذه الآلة ذات الطبيعة الشجنية وأوتار الأحبال الصوتية فى الحنجرة الذهبية كآلة بشرية فى صوت هذا المبدع الحقيقى فتلامس جوانحنا من هذا التمازج والتماهى ما بين اتحاد ومرافقة الآلة الموسيقية لآلته الطبيعية والتى صاحبته كثيراً فى مشواره الفنى وساعدته على التدريب وحفظ أعماله الإبداعية التى أثرى بها حياتنا الفنية.
نشر الثقافة الموسيقية
ولأن حليم موسيقى حقيقى فكان لتأثير العازف داخله أثر كبير كما أشرنا، فلم يكتف بهذه الآلات وإنما ظهر فى بعض الأحيان مشاركاً فى بعض المقاطع الموسيقية على البيانو أو الأورج ليؤكد دائماً أنه العازف والمتمكن من الآلات الموسيقية ،فيوجه رسالة لجمهوره بأنه لم يبتعد عن عالم الموسيقى الذى أحبه وأنه رغم موهبته الغنائية الفذة وشهرته الكبيرة كمطرب وما حققه من انتشار ذى أصداء واسعة إلا أنه ظل محافظاً دائماً على حالة الحب بينه وبين الآلات الموسيقية ،بالإضافة لما تركه فى نفوس محبيه من توجيه غير مباشر لحب هذه الآلات المتنوعة لكل من أرادوا التشبه به ومحاكاته وخاصة الآلات التى حاول الإمساك بها ليشارك الفرقة على المسرح ،فعمل على نشر الثقافة الموسيقية ،ويكفى أن كثيراً من العامة ممن ليست لديهم أية ثقافة موسيقية خاصة الغربية يعرفون آلة الأبوا لمجرد أنها آلة حليم المفضلة.
ولمن لا يعرف هذه الآلة ذات الصوت الصادح والمعبر، فهى آلة نفخ غربية تنتمى لأسرة آلات النفخ الخشبية حيث تصنع من الأخشاب الطبيعية، ومن حيث شكلها فهى تشبه المزمار البلدى ،أما طبيعة صوتها فحادة أحياناً ودافئة شجنية فى أحيان أخرى، وتستطيع أن توحى ببعض الإيحاءات الغامضة أو الفكاهية الساخرة من خلال أسلوب الأداء وينتج عن الأبوا آلة تكبرها فى الحجم هى الكورانجليه وتتسم بالصوت العريض الغنائى الرقيق كما أنها تعطى تأثيراً وحشياً غامضاً أحياناً.
ويصدر الصوت عنها من خلال مبسم ذى ريشة مزدوجة، وتصنع الريشة من خشب الأبنوس كما تصنع الآلة نفسها من الأخشاب القيمة مثل العاج أو الأبنوس وعليها مجموعة من المفاتيح أو الغمازات المعدنية، ويبلغ طول الأبوا ما يقرب من ستين سنتيمتراً ، ووجدت الآلة فى منتصف القرن السابع عشر وتطورت عبر مجموعة من العازفين والصناع المهرة واستخدم فلوت بوم لتطويرها عن طريق إضافة المفاتيح وذلك على يد الفرنسى جوليوم ترايبرت ونجليه تشارلز وفريدريك فى القرن التاسع عشر.
شهرة عازفى فرقته
وتعتبر الفرقة الماسية واحدة من أشهر الفرق الموسيقية خلال خمسينيات القرن الماضى بقيادة المايسترو أحمد فؤاد حسن ،وما يلفت نظرنا فى هذا الصدد هو اعتماد هذه الفرقة على موسيقيين من الطراز الأول كعناصر موسيقية داخل الفرقة ،والتى كانت تتمتع بمستوى فنى يليق بمكانة هؤلاء العمالقة من المطربين الذين ترافقهم الفرقة فى حفلاتهم ،وكان حليم بكل ما لديه من موهبة ودراسة موسيقية حقيقية له دور فى اختيار بعض العازفين بالفرقة ،وهذا ليس غريباً أن نجد عازفين متميزين نجوماً صنعتهم أضواء الشهرة نتيجة لمهارتهم الأدائية وإمكانياتهم الموسيقية البارعة فظهر على سبيل المثال هانى مهنى ،ومجدى الحسينى ،وعمر خورشيد وغيرهم كثيرون.
أسطورة فنية
فواقع الأمر أنه رغم مرور كل هذه السنوات إلا أن حليم مهما كتب عنه وعن حياته وعن إبداعاته المتميزة على كافة المستويات سيظل مادة شديدة الثراء فهو صاحب الكاريزما والحنجرة الذهبية والإحساس الصادق والذكاء الخارق فى عالم الفن كموسيقى عازف ومطرب ناجح وممثل بارع. إنه حقيقة أسطورة فنية متكاملة الأركان لا ولن يغيب عن وجداننا كعشاق ومحبى لفنه الراقى ولتاريخه المشرف. رحم الله العندليب الأسمر.