بقلم – عبد اللطيف حامد
حتى الدواء تحول هذه الأيام إلى موطن للداء لا وسيلة للشفاء، فعلا إذا ماتت الضمائر، ذهب كل شئ، لا إيمان، لا رحمة، لا عقل، لا حرمة للأرواح، الجشع يسيطر على النفوس، فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور، وعلى الدنيا السلام.
أفزعنى بشدة موقف كنت شاهد عيان على تفاصيله، ولولا ستر الله، ودعاء أمى المستمر لكنت أحد ضحاياه، يوم السبت الماضى دخلت إحدى الصيدليات بشارع فيصل بالجيزة لشراء بعض الأدوية التى وصفها طبيب الأنف نتيجة لدور برد كالمعتاد مع الكثيرين فى ظل تلقبات الجو، وطبعا راعيت أن تكون هذه الصيدلية على الشارع الرئيسى بما يسمح بخضوعها لمعدل رقابة أكثر من مثيلاتها فى الشوارع الخلفية كنوع من الحيطة، وزيادة حركة البيع، لتقليل فترة تخزين الأدوية على الأرفف، وبالفعل وجدتها - الصيدلية - تشغى بالمرضى من مختلف الأعمار، والآلام، ومديرها تحت يده عدة مساعدين، وأسعار الأصناف نار يا حبيبي نار، فالمكسب الحلال مضمون، والشغل عال العال، ولا داعى للانحراف، فلا حيلة فى الرزق، ولا شفاعة في الموت.
وفجأة اخترقت سيدة فى الخمسين من عمرها الواقفين فى انتظار الدور بعد تسليم»الروشتة»، وأطلقت لسانها، وهاتك يا شتيمة فى أحد الصيادلة أو منتحل صفة الصيدلى - الله أعلم - «عايز تموتنى يا غشاش، أنتوا بتبيعوا أدوية منتهية الصلاحية، أنا جالى تسمم يا ولاد...»، بصراحة قلت فى نفسى «لو الناس دول واثقين فى أنفسهم هيطردوا الست، وابنتها اللى بدأت تردد كلام من نفس العينة»، لكن حاول مدير الصيدلية يهدى بصنعة لطافة، ويلم الموضوع، بحجة إنها مبالغة، ومفيش دليل على كلامها، وهنا جن جنون السيدة، وأخرجت أقراص الدواء «مفتتة»، وكل ما تضغظ بيدها على أى «حبة» تتحول إلى طحين قائلة «شوفوا يا ناس السموم اللى تناولتها فى صورة علاج»، مهددة بإبلاغ نقابتى الأطباء، والصيادلة، ووزارة الصحة، واتهامهم بالشروع فى قتلها، ورفضت الحصول على أى دواء جديد!.
العمر غال: على الفور سارع الزبائن بطلب «الروشتات» للإفلات بجلدهم، وكأنه مشهد فى الفيلم العالمى «الهروب من الموت» ـ عفوا الهروب الكبير»، فالثقة فى تلك الأجزاخانة لم يعد لها مكان، والعبد لله فعل نفس الموقف، ضاربا كفا بكف، فعلاج البرد كان يمكن أن يدخلنا فى دوامة لا قدر الله، لكن ربنا ستر، لكن ما مصير من ساقهم حظهم العاثر إلى دخول صيدلية الموت.
تركت هذه الصيدلية، ولا أكاد أصدق، وألتمس الأعذار، يمكن السيدة الفاضلة أصابها التلوث بالإيحاء كما تقول وزارة التربية والتعليم فى قضية الوجبات المدرسية، أو طبيبها شخص المرض خطأ على غرار مسلسل أخطاء الأطباء ممل الحلقات، وضحاياه كثر كما تعلمون، لكن طارت كل هذه التنبؤات الشخصية عندما وصلت لصيدلية عبقرى منطقتنا د.محمود، الذى نلجأ إليه فى حالة نقص دواء معين أو خط طبيب منقوش، أو وصفة دواء فى ساعة متأخرة، سألته بدون مواربة: «دكتور هو ممكن صيدليات تبيع دواء مضروب»، فنزلت إجابته كالصاعقة على أذنى: ده كتير اليومين دول بسبب ارتفاع أسعار الأدوية، ونقصها، يا سيدى كل الصيدليات اللى بتتعامل مع مخازن الأدوية شغالة فى المغشوش، المكسب مضاعف، وبيزغلل العين، وأى صيدلى يقول لك فيه تخفيض بنسبة كذا يبقى شمال”.
بعيدا عن كلام وزارة الصحة «اللى لا يودى، ولا يجيب» عن الشعارات الرنانة «صحة المصريين خط أحمر» و»الدواء أمن قومى».. يا وزير الصحة، الدواء المغشوش يطارد المرضى بطول البلاد وعرضها، ورغم اتفاقاتك العلنية والسرية مع شركات الدواء لرفع الأسعار، ثم مع نقابة الصيادلة لزيادة هامش ربحهم، يقولون «هل من مزيد حتى ببيع عقاقير بئر السلم أو منتهية الصلاحية، والوزارة تغط فى نوم عميق، باستثناء حملة هنا، وأخرى هناك من أجل الشو الإعلامى، نريد مراقبة متواصلة لا متقطعة على الصيدليات ومخازن الأدوية، فمن المؤكد أنه طالما الأدوية المضروبة تباع فى صيدليات ميادين وشوارع الجيزة والقاهرة بأمان، ففى محافظات الصعيد والدلتا المصيبة أعظم، فإلى متى يظل مسئولو التفتيش الصيدلى فى مكاتبهم المكيفة، والمرضى يتألمون من وجع الداء، ومضاعفات الدواء الفاسد؟..هل ينتظرون خروج المرضى فى احتجاجات شبيهة بفيلم «النوع فى العسل» مرددين «أه أه».
يا حكومة كله إلا الدواء، الناس يمكن أن تتحمل الغش فى الأكل، والملابس، والأحذية، والأجهزة الكهربائية، وهلم جر لأنها اختيارية، ومتعددة الأنواع، ويكفى العين المجردة لتقييم الغث من السمين أما الدواء إجبارى لتسكين الآلام، ولا يعقل أن نطبق مقولة «سمى واشرب»، فيدخل المريض فى حلقة مفرغة من الأطباء فى تخصصات شتى، والتحاليل والإشاعات وما أكثرها، ولو أفترضنا أن الظروف الصحية والمعيشية تسمح ـ وإن كنت أشك فى الثانية ـ سيلفظ أنفاسه قبل الوصول إلى مراده، يا منجى من المهالك يا رب والله أعلم.