د. ناجح إبراهيم
دعانى د/عمرو خيرى المصرى المقيم بأمريكا، وكان يشغل فى الثمانينات منصب رئيس نيابة أمن الدولة فآثر الدراسة فى أمريكا مضحياً بالمنصب فحصل على الدكتوراة فى السلام وحل المنازعات السياسية ، ودرس فى جامعات كثيرة وساهم مع منظمات دولية كثيرة فى دورات ودراسات السلام فى أنحاء العالم، كان الرجل فى نيابة أمن الدولة وكنت سجيناً وقتها دارت الأٍيام دورتها والتقينا مرة أخرى كصانعى سلام وعفو وتصالح.
لقد أحببت فقه الصلح والسلام بعد تجربة مبادرة منع العنف ، وأدركت أن صنع السلام أصعب من إشعال فتيل الحرب، فيمكنك أن توقد الحرب بكلمة أو موقف ولكنك تستغرق سنوات لترسى السلام وتقره واقعاً على الأرض ، وعادة ما يوصف صناع الحرب بالبطولة ويدمغ صناع السلام بالخيانة والعمالة ، لقد زادتنى المبادرة قرباً من الرئيس السادات وإدراكاً لمعاناته فى صنع السلام وخاصة مع دولة مثل إسرائيل تريد كل شيء ولا تعطى للآخرين حتى حقوقهم.
دعانى د/عمرو إلى المشاركة والحديث فى ندوة لمحاربة العنصرية والتطرف فى العاصمة الأثيوبية أديس أبابا يشرف عليها الاتحاد الإفريقى وتتم فى مقره ، ترددت بعض الشيء فهذه أول مرة أذهب إلى أثيوبيا ولا أعرف عنها ولا فيها سوى النجاشى الذى أحببته وعشقت سيرته منذ شبابى وزاد عشقى له وقربى منه بعد أن ذهبت إلى بلاده الحبشة.
وهناك تفكرت طويلاً: كيف لحاكم مثل النجاشى فى هذه القرون السحيقة يكون بهذا العدل ، فالرسول «صلى الله عليه وسلم» لم يمدح حاكماً قط بمثل ما مدح النجاشى « اذهبوا إلى الحبشة» والعلة « لأن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحداً».
انظروا إلى عظمة النبوة يمدح ملكاً مسيحياً ويصفه بالعدل المطلق مع كل أحد سواءً من شعبه ورعيته أو من غيرها ، فهو لا يظلم أحداً على الإطلاق .
قلت لنفسى : لابد للنجاشى من تجربة أليمة مرت به وهو صغير حملته على هذا العدل العظيم فى أزمان سحيقة لم تكن تعرف العدل،حتى وجدت أن عمه قد قتل أباه الملك وهو طفل صغير لم يجاوز العاشرة،وباعوه رقيقاً بثمن بخس مثل يوسف عليه السلام،واستولى العم على الملك،وكان للعم عشرة من الأبناء وبعد قصة طويلة رائعة رد الله إليه الملك دون أن يفعل شيئاً، وتوافق الأحباش عليه بعد موت العم وخاصة بعدما رأوا طيش وجنون وعدم صلاحية الأبناء العشرة.
عاد الملك للنجاشى دون دماء ولا انتقام ولا ثارات صنعها فى أولاد عمه،فقد عزم على العدل مدى حياته،أما قبره فيزوره الآلاف كل عام وهو يبعد عن العاصمة الأثيوبية ألف كيلومتر تقريباً،ويقع قريباً من ساحل البحر فى مدينة «مقلي» ولعل قرب عاصمة النجاشى من البحر هى التى يسرت وصول الصحابة إلى النجاشي.
كان المؤتمر يضم قرابة أربعين شاباً وفتاة اختيروا بعناية من بين ٤ آلاف متقدم لهذه الدورة،ذهبت إلى مقر الاتحاد الإفريقى فوجدته رائعاً بناه الصينيون على نفقتهم وأهدوه للأفارقة ، وهناك جزء بناه معمر القذافى وأهداه لهم ورغم ذلك لم يضعوا صورته بين صور الرؤساء الأفارقة،قلت لنفسي:ليس بالمال وحده يصنع الحكام مكانتهم.
على جدار مبنى الاتحاد الإفريقى وجدت قرابة أربعين صورة لكل رؤساء إفريقيا القدامى والمحدثين لم تكن منهم صورة رئيس مصرى سوى جمال عبد الناصر وكأنهم لا يعترفون بسواه وهذا ظلم لمصر.
أكبر القاعات هناك هى قاعة نيلسون مانديلا والتى تعقد فيها مؤتمرات القمة الإفريقية وهى قاعة ضخمة جداً ومجهزة تجهيزاً رائعاً.
سألت العالمين ببواطن الأمور عن المبنى فقالوا : المبنى فخم وضخم ولكن بلا فاعلية أو نشاط يذكر ، رغم أنه أحيا العاصمة الأثيوبية التى هى أقل من مكانة المبنى كثيراً، فأديس أبابا أقل من أى حى متوسط فى الإسكندرية أو القاهرة أو الدلتا ، ولكن جوها معتدل طوال العام ودرجة حرارتها شبه ثابتة عند ٢٣ درجة مئوية ، وهى ترتفع عن سطح البحر قرابة ٢٤٠٠ قدم أى نصف المسافة بين الأرض وأعلى ارتفاع للطائرة العادية، ولذلك الجو فيها جميل ،وكل بقعة فيها حركة بناء تزيل القديم وتقدم الحديث ، كل ما فى العاصمة متواضع ، عدد المتسولين لا حصر له ، بين كل متسول ومتسول متسول ، إذا أعطيت واحداً وجدت عشرة حولك.
قاد د/ عمرو خيرى المؤتمر بطريقة شبابية مبتكرة ، الكل يتحدث الإنجليزية بطلاقة سواى،خصصوا لى مترجما ومترجمة سودانيين أنست بهما ، تعرفت على كل المترجمين للإنجليزية والفرنسية والعكس .
كان هناك مترجم كاميرونى كنت أمزح معه على الغداء دائماً «لماذا أطفأتم فرحتنا وأخذتم الكأس منا فى آخر لحظة هل يمكن أن نأخذه لبعض الوقت» فيضحك قائلاً : الكأس الآن يطوف على محافظات الكاميرون ، وبعدها يمكن أن نعطيه لكم.
كانت كلمتى فى اليوم الأول وكنت وصلت لتوى متأخراً يوماً عن جميع الحاضرين، توكلت على الله ، وقلت كلمتى ، وترجمها المترجمون.
عرفنى د/عمرو على أ/محمد الحلوانى مستشار سفارتنا فى أديس أبابا ، شاب رائع مفكر ومثقف دخل الخارجية بجهده «دون محسوبية أو واسطة» وامتحنه جهابذة السياسة، وكان منهم المرحوم أسامة الباز والفقى ، حضر محاضرتى وأثنى عليها.
كان المترجم صديقا بارعاً وأقوى من المترجمة»نوال أدهم «التى تعيش فى أديس أبابا مع زوجها الأثيوبى المسلم المتدين الذى تنحدر أصوله إلى آل البيت ، فالبعض لا يعرف أن أثيوبيا وإريتريا بهما قبور لبعض الصحابة وبعضها موجود بجوار قبر النجاشى في»مقلي».
كان هناك شباب من كينيا وأوغندا وجنوب إفريقيا ونيجيريا ومالى والسنغال وتونس وأسبانيا وبريطانيا وكان من مصر فتاتان إحداهما خريجة علوم والأخرى طالبة فى الجامعة البريطانية.
قدم د/عمرو محاضرتى بأننا التقينا ونحن شابان كل منا ضد الآخر أو خصمه والآن نتلاقى فى شيخوختنا على فكرة واحدة وهدف واحد وهو مقاومة العنصرية والتطرف والعنف .
تحدثت عن النماذج الإستراتيجية فى العالم العربى كله لمحاربة العنف مركزاً على تجربة المبادرة ، تحدث آخرون من النرويج والسويد عن تجاربهم فى محاربة ومقاومة «النازيين الجدد».
تحدث أحدهم حديثاً مؤثراً على أن مجموعة من النازيين الجدد فى النرويج استهدفت معسكراً شبابياً لتثقيف الشباب على نبذ العنصرية،قام النازيون الجدد بمهاجمة المعسكر بالقنابل والرشاشات .
أسقطوا عشرات القتلى والجرحى ، جرى صاحبنا ووراءه نازى يحمل رشاشاً، حاول الاحتماء وسط الأطفال، صوب إليه رصاصاته أخطأته، لولا ذلك لكان فى عداد الموتى،سخر حياته لمحاربة النازية والعنصرية والتطرف كله .
قابلت شاباً عراقياً يحمل الجنسية الإيرلندية اسمه(حيدر) ويدرس ماجستير العلوم السياسية بجامعة لندن، وجدته دائم البشر يتحدث العربية بطلاقة، وجدته لا يعرف التعصب قال لى : نورى المالكى رئيس وزراء العراق الأسبق طائفى ومتعصب، وأنا قابلته فى لندن وقلت له :إذا كان صدام ظلم الشيعة فأنت تظلم السنة وتقصيهم .
سألته عن الحالى حيدر العبادى فقال :هو وطنى يحب العراقيين جميعاً، ولكن الظروف أقوى منه،قلت له : ولكن العبادى أدخل الحشد الشعبى الذى يحرق ويدمر ويقتل بالاسم والمذهب فى مؤسسات الدولة .
قال : الحشد الشعبى ليس كله متطرفا، والمتطرفون فيه يتبعون إيران ويلتزمون أوامرها، قلت له: لقد احتلت إيران العراق قال : نعم وأكثر العراقيين لا يرغبون فى ذلك ويريدون الاستقلال ببلادهم عن الآخرين جميعاً سواء أمريكا أو إيران.
سألته عن مقتدى الصدر فقال هو فى مرحلة المراهقة السياسية، يذهب إلى أقصى الشمال ثم يعود لأقصى اليمين فجأة وهكذا
بعد يومين من المؤتمر دعتنا السفارة المصرية فى أديس أبابا لحضور محاضرة عن تاريخ العلاقات المصرية الأثيوبية يلقيها كاهن الكنيسة المصرية فى أثيوبيا، ذهبت مع د/عمرو لحضور المحاضرة، شعرت أن هذا الكاهن متعمق جداً فى الموضوع، تعرفت عليه بعد المحاضرة التى أشدت بها، زال عجبى بعد أن علمت أنه حاصل على الدكتوراه فى تاريخ إفريقيا،ويجهز للدكتوراه الثانية.
كانت السفارة قد أعدت عشاء صياميا يتناسب مع الصيام المسيحى، كنت مشتاقاً لهذا الطعام الذى حرمت منه عدة أيام مللت فيها اللحوم والأسماك، وجدت فى السفارة (محشى الكرنب وورق العنب والكشرى و..... وجميع الأكلات المصرية الشهية ) بعد الطعام انفتح الحديث حول التاريخ وأنا من محبيه، وجدت الكاهن والسفير ومعظم أعمدة السفارة عباقرة فى التاريخ .
أهديت الجميع بعض كتبى التى حملتها معى،كان السفير والكاهن بلدياتى من أسيوط، أما السفير أبو بكر حفنى محمود تعود أصوله إلى أسرة عريقة فى السياسة المصرية فهو حفيد محمد محمود باشا ألمع فرسان السياسة المصرية فى العهد الملكى وأكثرهم علماً وانفتاحاً .
كان السفير منزعجاً جداً لأن البعض أراد تغيير اسم الشارع الذى يحمل اسم جده إلى شارع الشهداء، شاركته الرأى فى ذلك قلت : إن الذين غيروا اسم مستشفى دار إسماعيل للولادة، ارتكبوا جرماً فى حق مصر فهى أقدم مستشفى ولادة فى الشرق الأوسط كله،وأى سكندرى لا يطلق عليها إلا الاسم الأصلى حتى لو تغير اسمها طوال سبعين عاماً، ولو بقيت بنفس الاسم لمثلت حضارة وتاريخاً لنا لأننا أنشأنا مستشفى للولادة منذ أكثر من مائة عام، وأدلى الكاهن والحضور بدلوهم فى ندوة فكرية مفتوحة على كل القضايا لثلاث ساعات لم نشعر خلالها بالوقت حضرها كبير الجالية المصرية بأثيوبيا وهو أقدم مصرى يعيش فى أثيوبيا.
عشت أياماً طويلة فى أثيوبيا فلم أر أثراً لأى دولة عربية سوى الصين فى الاقتصاد وإسرائيل فى السياسة وأمور الحكم والأمن .
سألت لماذا لا يذهب الطلاب الأثيوبيون للدراسة فى الأزهر أو يأتى دعاة الأزهر إلى هنا، أو يكون للكنيسة المصرية دور هنا ؟ أو يأتون عندنا ؟
كانت الإجابة دائماً أن هناك دوائر خفية فى أثيوبيا تحول بينها وبين الانفتاح على مصر،لا يريدون أن يكون للأزهر أو الكنيسة نفوذ هنا،وبعض المتنفذين هنا كانوا مغتاظين للاستقبال الحافل الذى استقبل به البابا تواضروس هنا فى أثيوبيا،وبعضهم يحب الانفتاح على إسرائيل أكثر من العرب .
وقال لى بعض المسلمين هناك: إن ميليس زيناوى هو الذى رفع بعض المظالم عن المسلمين فى أثيوبيا عرفاناً بالجميل للسودان التى آوته، فهو الذى جعل لهم أيام عيد الفطر والأضحى أجازة رسمية، أما الآن فيوم الجمعة عمل رسمى حتى فى وقت الصلاة .
والبعض قال لى :إن الأثيوبيين يذكرون بالألم أن الكنيسة المصرية كانت هى التى تعين الإمبراطور وتعزله وأنها عزلت أربعة إمبراطورات أثيوبيين .
وقد حزنت أيضاً أن الخطوط الجوية الأثيوبية وجهت ضربة قوية للخطوط الجوية المصرية رغم أن مطار أديس أبابا فى غاية السوء والتخلف ولا يقارن بمطار القاهرة ولكن خطوط طيران أثيوبيا جعلت مطار أديس أبابا ترانزيت لكل إفريقيا، وقد وجدته مكتظاً بالمسافرين فى كل الأوقات ومن كل الجنسيات الذاهبين والعائدين من كل إفريقيا، مع أن مطار القاهرة أحق بذلك منه، فما نصيبنا نحن وقد أخذ مطار أديس أبابا إفريقيا وأخذ مطار دبى آسيا،لقد كنا الأقدم منهما،ولكن سوء الإدارة أوصلنا فى كل شيء لهذا المنحنى الخطير .
فى آخر يوم من أيام المؤتمر دعانى د/عمرو وزوجته الفاضلة «جيرمين» للعشاء فى منزلهما،وانضمت إلينا سيدة مغربية وأخرى مصرية الأب وأسبانية الأم شاركتا فى المؤتمر،والسيدة جيرمين هى ابنة وزير المالية البنجلاديشى والذى قاد حركة التحرر عن باكستان وسجن من أجل ذلك.
وقد كتبت جيرمين قصة كفاح والدها فى كتاب كبير أثناء الثورة البنجلاديشية والتى قتل فيها الباكستانيون قرابة مائة ألف بنجلاديشى .
ويقول د/عمرو : إن فترة عمله مع الاتحاد الإفريقى فى أديس أبابا كانت رائعة وهادئة ولكنه اضطر لقطعها كى يعود إلى أولاده وأحفاده وبيته فى ضواحى واشنطن.
قلت له ما رأيك فى أديس أبابا قال :متواضعة ولكن معدل البناء فيها مرتفع جداً، وخلال عشر سنوات ستكون جيدة .
لا أثر للعرب فى أديس أبابا سوى المطاعم اليمنية الرائعة، قلت لنفسى : ماذا لو استثمر العرب بعض أموالهم فى هذه البلاد، أليس أولى من تكديسها فى البنوك الأمريكية، أو إنفاقها على التافهين والغانيات والراقصات، عدة سهرات مع راقصات يمكن أن تبنى للعرب مجداً فى هذه البلاد، ولكن إلى من نتحدث ؟!.
كانت هذه إطلالة قصيرة على رحلتى إلى العاصمة الأثيوبية « أديس أبابا» والتى وثقت رابطتى ومحبتى وعشقى للنجاشى «رمز العدل اللا محدود» ولولا الظروف لزرت قبره ودعوت له ورجوته أن يعود ليعلم حكام اليوم كيف يكون العدل مع القريب والبعيد والحبيب والخصم ومن يوافقنا أو يخالفنا فى الدين أو المذهب أو الفكر أو السياسة.