بقلم – د. كمال حبيب
الإرهاب هو استهداف المدنيين بالترويع وجعلهم موضوعا وأداة لتحقيق أهداف سياسية.. ويعد خطر الذئاب المنفردة هو الوجه الأبرز الذى يتخذه الإرهاب فى أوروبا، وطال مؤخرا مدينة سان بطرسبرج، التى كان يعقد الرئيس الروسى بوتين فيها اجتماعا مع رئيس روسيا البيضاء والمدينة هى العاصمة السابقة للامبراطورية الروسية وهى مسقط رأس بوتين نفسه، وهو ما يعنى أن منفذ العملية الإرهابية كان يعطى رسالة أن الرئيس الروسى ليس بعيدا عنا، وهو ما أشار إليه المتحدث باسم الكرملين أن الاعتداء على المترو الأرضى وتفجير إحدى عرباته بعبوة من مادة التى إن تى، وقتل ١٤ مدنيا يمثل تحديا للدولة الروسية وللروس جميعا وللرئيس بوتين نفسه.
قبل أيام قليلة ربما لا تتجاوز العشرة أيام من تفجير عربة مترو سان بطرسبرج، قام إرهابى هو ذئب منفرد، كما أعلنت سلطات التحقيق البريطانية، التى أفادت أنه من المرجح ألا يكون له شركاء، وأنه قام بالعمل الإرهابى بوحى من التنظيمات المتطرفة على نسق الذئاب المنفردة.
وقد أعلن تنظيم داعش بسرعة عن تبنيه العملية، لأنه يعتبر بريطانيا عدوة رئيسية له.. كما أن عاصمتها ظلت بمنأى عن العمليات الإرهابية للتنظيم رغم توعده لها بأنها لن تفلت من استهدافه، العملية وقعت أمام البرلمان البريطانى وقد قام بها مواطن بريطانى اسمه « خالد مسعود « وهو من مواليد بريطانيا، وقد قام بعملية دهس للمارة أمام مبنى البرلمان الذى يعبر عن التقاليد البريطانية للديمقراطية.. كما كان يحمل سكاكين بيديه مستهدفا ضباط الشرطة، وهو ما أدى إلى إطلاق النار عليه وقتله.
المشكلة أن المنفذين الإرهابيين فى مترو سانبطرسبرج وفى منطقة وستمنستر بمحيط البرلمان البريطانى قد لقيا حتفهما وقتلا.. كما أن العقل الإرهابى يعمل بطريقة تستهدف إرسال رسائل ترويع وتخويف للمجتمعات التى يقصدها بإرهابه، فإنه يسعى لأن تكون تلك العمليات قريبة من مواقع سيادية ذات طابع رمزى ومعنوى فى تاريخ المجتمعات التى يقصدها بإرهابه، فكما كان « بوتين « يعقد اجتماعا سياسيا فى مدينة بطرسبرج قريبا من محطة المترو التى وقع بها العمل الإرهابى، فإن البرلمان البريطانى كان هو الآخر مجتمعا، وتشير معلومات إلى أن الإرهابى كان يستهدف دخول مبنى البرلمان الذى كان منعقدا، وكان يحضره وجوه السياسة البريطانية وأحزابها وقادتها.. واضطر البرلمان أن ينهى اجتماعه وأن يتم تأمين خروج الوزراء منه.
وبينما كان الهجوم الإرهابى بالدهس واستخدام السكاكين فى محيط مبنى البرلمان البريطانى فى نهاية الشهر الماضى، فإن مطلع الشهر الحالى شهد الهجوم الإرهابى على محطة سان بطرسبرج، كما شهدت العاصمة السويدية حادث دهس بشاحنة على مركز تجارى مزدحم بالمدنيين والمتبضعين فى عطلة نهاية الأسبوع الماضى، وقُتل فى الحادث أربعة أشخاص وجُرح عشرة بينهم أربعة بحالة خطيرة، بينما تم اعتقال منفذ الهجوم الإرهابى فى وقت لاحق، وتشير المعلومات إلى احتمالات وجود جسم مشبوه فى الشاحنة التى تم استخدامها فى العمل الإرهابى، لا يُستبعد أن يكون قنبلة كان الإرهابى يعدها لاستخدامها فى مواجهة المدنيين المتجمعين احتفالا بعيد الفصح وعطلة نهاية الأسبوع.
نحن إذن أمام مستوى متصاعد من الأعمال الإرهابية، صحيح أنه ليس فى بلد واحد، ولكنه يستهدف بلدانا عدة؛ بريطانيا وروسيا ثم السويد مؤخرا، والوجه الرئيسى للإرهاب هو أن القائمين على تنفيذه هم غير منضمين ضمن شبكات إرهابية كبيرة، كما هو الحال مثلا بالنسبة لاعتداءات باريس المتزامنة، أو اعتداءات بلجيكا التى قامت بتنفيذها شبكة مدربة وعلى صلة وثيقة بالمركز الإرهابى لتنظيم داعش فى العراق وسوريا، وقد سبق لقادتها أن سافروا وتدربوا وتلقوا الأوامر بتنفيذ تلك العمليات الخطيرة والمرعبة، المنفذون الجدد للعمليات الإرهابية هم « ذئاب منفردة « وغير منظمة، وربما ليس لها عمق معرفى بأيديولوجيا التنظيم ومسائله الفكرية والعقدية، وهنا مكمن الخطر فى الإرهاب المعولم والمعاصر والمنتشر عبر الحدود.
قراءة فى سير الذئاب المنفردة الإرهابية:
منفذ الحادث الإرهابى الذى جرى فى محيط البرلمان البريطانى اسمه خالد مسعود «، ويحمل الجنسية البريطانية وُلد فى مقاطعة كنت، وهو من مواليد ١٩٦٤ أى أن عمره يبلغ اثنين وخمسين عاما، وهو أمر يثير الالتفات فى الحقيقة، لأن أغلب الذئاب المنفردة والمنفذين للعمليات الإرهابية فى أوروبا، لم تبلغ أعمار أى منهم هذا العمر الذى جاوز الشباب والكهولة، حتى ليدخل فى مرحلة النضج والهدوء والبعد عن العنف، بيد أن خالد مسعود « ليس الاسم الحقيقى له، وإنما غيّر اسمه بعد أن اعتنق الإسلام عام ٢٠٠٤ وغادر المسيحية، كان اسمه « أدريان راسل أجاو «، نسبة إلى اسم أمه، وكما تشير معلومات الشرطة البريطانية عن المتهم، فإنه عاش بأسماء متعددة وتنقل فى أماكن عدة فى بريطانيا، وللإرهابى سجل إجرامى إذ أُدين بالإخلال بالنظام العام واستخدام أسلحة خطيرة، وأنه كان محلا لسؤال الاستخبارات البريطانية، وتشير معلومات المملكة العربية السعودية أن « خالد مسعود» عمل مدرسا للغة الإنجليزية بها، وأنه دخلها بقصد أداء العمرة بشكل قانونى، ولم يشر جيرانه إلى أنه بدت عليه ملامح للتطرف، وإنما كان شخصا عاديا.
وتبنى تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» العملية، واعتبر أن منفذها هو جندى من جنود الدولة، وأنه نفذ ما اعتبره دعوات للتنظيم لاستهداف الدول المشاركة فى التحالف الذى يشن هجومه على التنظيم فى معاقله الرئيسية فى الموصل، ويجرى التمهيد لحصار مركزه الرئيسى بمدينة الرقة السورية، ثم اقتحامها وإسقاط وجود التنظيم بالمدينة.
الإرهابى الثانى منفذ عملية سان بطرسبرج الدامية هو مواطن روسى يحمل الجنسية الروسية، ولكنه مولود بقيرغيزستان واسمه « أكبر جون جليلوف «، ويبلغ من العمر ٢٢ عاما وهو من مواليد عام ١٩٩٥، وهو فجر نفسه فى عربة المترو، بينما كان قد وضع عبوة ناسفة معدة للتفجير فى محطة قطار أخرى تم اكتشافها وإبطال مفعولها قبل أن تنفجر، ورغم نفى روسيا أن العملية ليس لها علاقة بما تقوم به فى سوريا، فإن المؤكد أن ذلك له علاقة قوية بالسياسة الروسية فى سوريا، والتى تدعم من وجهة نظر الراديكاليين الجهاديين الإسلاميين المتأثرين بأفكار تنظيم داعش نظاما مستبدا، وتبدو بوجه يستخدم القوة العنيفة ضد المدنيين. وقرغيزستان هى دولة من دول جمهوريات آسيا الوسطى الصغيرة التى كانت ضمن الاتحاد السوفيتى قبل تفككه فى مطلع تسعينيات القرن الماضى، وأصبحت جمهورية مستقلة، وتعاونت روسيا مع كازاخستان فى محاولة للحصول على معلومات عن الانتحارى المتفجر، وتوجد حالة جهادية راديكالية فى جمهوريات آسيا الوسطى عن روسيا، كما توجد نفس الحالة فى الولايات الإسلامية التابعة لروسيا الاتحادية كما هو الحال فى الشيشان وفى الداغستان، ويمثل حضور القادمين إلى تنظيم داعش فى مقره الرئيسى فى العراق والشام من جمهوريات آسيا الوسطى ومنطقة القوقاز – مظهرا لافتا، ويمثل تحديا للأمن القومى الروسى، الذى يبرر « بوتين» تواجده فى روسيا لتعقب الجهاديين القادمين من بلاده والجمهوريات الإسلامية المجاورة.
الإرهابى الثالث هو مواطن من منطقة القوقاز أيضا فهو من « أوزبكستان « وليس مواطنا سويديا، وأن عمره يبلغ ٣٩ عاما، وخلف عمله الإرهابى مقتل أربعة وخمسة عشر جريحا تسعة منهم فى حالة خطرة. ولأن الشرطة السويدية تتسم بالتحفظ وعدم إعطاء معلومات متسرعة عن القائم بالعملية الإرهابية؛ فإن سيرته الذاتية غير كافية، بيد أن سير زملائه تعطينا خبرة فى إمكانية فهم إقدامه على العمل الإرهابى الذى نفذه، فهناك مواطنون أفغان ولاجئون طالبون للهجرة نفذوا عمليات إرهابية شبيهة.
خاتمة
الإرهاب فى وجهه الأخطر وتحديه الكبير هو فى الذئاب المنفردة التى ليس لها تاريخ سابق فى الانتماء للتيارات الجهادية الراديكالية.. ذلك أن تحولات الذئب المنفرد هى تحولات ذات طابع غير متوقع وجذرى، فهو يتقلب من مجرم إلى عضو منتم لتنظيم متطرف، ينتقل من المسيحية إلى الإسلام، ينتقل بين زيجات متعددة، معروف عنه سوابق ذات طابع عنفى جناحى كما هو حال « خالد مسعود».
ويمكننا تفسير العمر المتأخر له فى تبنيه لأعمال إرهابية وإقدامه عليها أنه ربما يكون تأخر دخوله الإسلام ووقوعه فريسه للتنظيمات الجهادية، يعطيه عمرا لمراهق يبلغ من العمر ٢٣ وكأنه لم يحتسب سنوات ما قبل الإسلام، وظلت تراوده هتافات المتطرفين واستجابته لهم عبر الإنترنت وعبر الدعوات العامة لاستهداف دول التحالف.
استهداف المدنيين والأهداف الرخوة التى توقع أكبر عدد ممكن من الناس بقصد الترويع والتخويف وإحداث صدمة ورعب على أوسع نطاق؛ ليقول الإرهابى للعالم نحن ضد حضارتكم.. نحن نستدعى عالم القيامة والنهايات لنضع الإنسان والعصر والعالم على حافة الهاوية والقيامة.