الأحد 24 نوفمبر 2024

عندما يأتي المساء.. قصائد بصرية بطلاتها نساء حلمي التوني

  • 22-4-2017 | 10:15

طباعة

شذى يحيى - كاتبة مصرية

"الشعر مش بس شعر.. لو كان مقفـى وفصيح

الشعــر لو هــز قلـبـك.. وقلبي.. شعر بصحيح"

نجيب سرور

كل الفنون تبحث عن الشعر، والشعر يبحث عن الموسيقى. هذه حقيقة، ولكن الشعر الحقيقي هو فعلا موسيقى كونية تتفق مع حركة الأجساد وأوزانها الحيوية، هو يتفق والشهيق والزفير وضربات القلب ووقع أقدام عند السير، والمعجزة الشعرية كما يراها جان برتليمي هي الاتحاد بين الروح والجسد بين الفسيولوجيا والتصوف في أعمق أعماق الإنسان، هذا الاتحاد يخلق نوعا من الجسد من الكيان يبحث عنه كل الفنانين وليس الشعراء فحسب؛ ليترجموه لشكل محسوس أو مرئي عبر محاولاتهم الإبداعية للربط بين الأسماء والأشكال والأفكار.

    والفنان التشكيلي الأصيل دائما ما يسعى للبحث عن رؤى وأساليب جديدة مبتكرة لترجمة هذا الربط بشكل جديد يبهر المتلقي ويثريه، حلمي التوني أحد هؤلاء الفنانين الأصلاء فقد سعى عبر رحلت الطويلة في البحث عن الكيان الفني وتصويره لكي ينقل إلينا بصريا الواقع من حيث خبرته المستمدة من تجربته وعالمه ووجدانه، وفي معرضه الأخير بقاعة بيكاسو في القاهرة (3 ـ 15 مارس 2017) بعنوان "عندما يأتي المساء" بلورة لخلاصة هذه التجربة الفنية في ذروة تألقها ونضجها على المستوى الفكري والجمالي. فالتوني الفنان المؤمن بأن الألوان والأشكال والمظاهر الواقعية هي مواد خام للإبداع على الفنان أن يجردها من معانيها التقليدية الشائعة ليبني بها عالمه الخاص المواكب لحركة التطور يرى أن التصوير كالشعر امتداد للفلسفة عندما تصبح شكلا للوجود في العالم، وأن التشكيل لا ينحصر في خلق الجمال أو معالجة القيمة، بل يتمثل في إبداع وحدات متماسكة ذات طابع خاص وخلق صورة متناسقة لها شخصية متكاملة. هذه الصورة تلعب فيها المادة المستخدمة والزمن الذي يعيش فيه الفنان والحقائق التي يعايشها دورا مهما في تشكيلها، ولكن يبقى الدور الأهم لزاوية الرؤية الخاصة به كفنان. هذه الزاوية التي تحددها ميوله واتجاهاته الأيديولوجية المحكومة بالبيئة الاجتماعية والتاريخية التي انعكست في تكوين رؤيته الفنية؛ لأن الفن دائما ما يجيء معبرا عن انفعالات وعواطف الفنان، والطابع التشكيلي للفن دائما ما كان أهم من التعبيري، كما أن الفن أبسط صورة من صور المعرفة البشرية لأنه بمجرد ما يتفلسف الإنسان فسرعان ما يتجه للقيمة الجمالية محاولا البحث عن مدلولاتها.

    وقد أدرك التوني أن مفتاح إيجاده لمعجزته الشعرية البصرية يكمن في البحث في الواقع الشعبي كمنبع للحق والخير والجمال، ونجح في أن ينسج على منوال هذا الواقع ويستلهم منه دون أن يحاكيه أو يقلده مفجرا تعريفات جديدة للأشكال بعيدا عن معانيها التقليدية، ومستخلصا المعاني الكاملة مع إضفاء دهشة عليها لتصنع حالة أسطورية على أرض من الواقع مستخدما سلطته كفنان في إعادة تشكيل وتحوير كل الدلالات على الأرض، منقبا بذلك عن أفكار جديدة نابعة من مجتمع له خصوصيته المميزة ومعتقداته الخاصة التي تضفي عليه لونا قوميا خاصا يميزه عن المجتمعات الأخرى. نجح التوني في إضفاء هذا اللون على لوحاته وأن يرتفع بتجربته التشكيلية لمستوى التعبير الرمزي الملخص عن طبيعة المجتمع ككل، رغم اقتصار أغلب لوحاته على النساء فقط وكان قمة نجاحه ممثلا في حرصه على ألا يغرق عناصر وشخوص وموضوعات أعماله بجو صوفي أسطوري أو رمزي مثالي، وألا يحملها بأفكار مباشرة وشعارات رنانة تجعلها تبدو أقرب للملصقات الدعائية، بل ارتفع بها لأفق فلسفي رحب يميز ثقافتنا الشعبية في الأدب والفن دون أن تفقد جوهرها البسيط في توازن دقيق بين هذا الأفق الرحب وبين الواقع والحياة المعيشة يجعلك تشعر أن شخوصه لم تحلق يوما في سماوات الفلسفة أو الأحلام بل مازالت أقدامها ثابتة في تراب أرض مصر مرتبطة بواقعه، هذه الحالة هي التي تميز أعمال التوني وتجعل له دون غيره هذه الجماهيرية والشعبية التي قلما أتيحت لفنان تشكيلي في مصر؛ لأنها ميزت أعماله بصدق وحميمية وحرارة في التعبير جعلت المتلقي يشعر أن عالم الفنان هو عالمنا الرحب.

    فعندما يقف المتلقي أمام لوحة حلمي التوني يرى عملا فنيا يشبه قصيدة بصرية موزونة على ايقاعات الموسيقى، من خلال تكرارية الأساليب والوزن الدقيق والمحسوب لتوزيع العناصر على سطح اللوحة، سعيا وراء تقوية الحس النغمي، وفي كل لون وعنصر إيحاءات فكرية تخاطب ذهن الرائي دون افتعال أو حذلقة في اختصار شديد دون إخلال بالموضوع، ودون انشغال بفكرة التوضيح بقدر الانشغال بالرغبة في إثارة حس بالحيوية والدهشة لدى الرائي، لذلك كان لجوء الفنان كثيرا للجمع بين المتناقضات وبين ما لا يجتمع "هدهد وسمكة وامرأة وفرع ورد ووشم شعبي وحصان مزركش.. وغيرها" سعيا وراء توظيف المتلقي لحواسه كلها للاستكشاف والاستمتاع وتأمل هذا الخلق، تأمل يدفع المتلقي للوصول إلى حقيقة جديدة من خلال توجيه الفنان لأفكاره وخياله ومشاعره عبر مخاطبة عقله بصريا بعمل جردت فيه الحقيقة الخالصة للأشكال الواقعية، يعكس حالة من الهدوء والسكون الأقرب للصورة الفوتوغرافية لكنه ليس هدوءا استاتيكيا جامدا مطلقا، بل سكون ثائر متفجر يستشعر فيه الرائي تذبذب الحياة بكل ديناميكيتها بين الفرح والحزن، الأمل والخوف، النشوة واليأس، ويشعر أن كل هذا يناوشه عبر الشكل. وبهذه الطريقة ينجح التوني في خلق حوار جدلي بينه وبين المشاهد من خلال تواصل حقيقي يدرك تماما أهميته، لعلمه بأن العمل الفني لا يكون عملا فنيا حقيقيا بدون هذا الجدل والتواصل، ولهذا فهو مدرك تماما أهمية الصلة بين الجمالي والاجتماعي وأهمية أن تكون لوحته كما هي الآن أسلوب حياة يعكس صورة للمرأة والإنسان الكامل الذي يرى في الماضي دلالات ليتخطاها ويستمد منها القوة للمضي قدما نحو ملحمة وجوده في الحياة. هذا الأسلوب يتبدى في لوحات مترعة بالتفاؤل والحب والاحتفاء بالإنسان كجزء من الوجود الكلي وهو بهذا يقتفي أثر أجداده الشعبيين، فحلمي التوني فنان شعبي واقعي ليس لأنه يستعمل خطوطا ورسوما مستوحاة من التراث الشعبي، ولا لأن أشكاله وموتيفاته مستمدة من الحياة الشعبية والأساطير والرجل والمرأة الشعبيين، وليس لأن شاغله الموضوع الشعبي لأن الحقيقة ليست كذلك فهو لم يرسم أبدا قصصا مستوحاة من الحكي الشعبي كذات الهمة وعنترة والظاهر بيبرس أو غيرها من الحكايات، هو فنان شعبي لأنه مدرك للحظة السيكولوجية في زمن العمل الفني، تلك اللحظة التي يتطور فيها الأسلوب الفني ليصبح لغة قومية تعطي المضمون من خلال شكل تجريدي قد لا يشعر المتلقي من خلال رؤيته إلى أي بلد ينتمي من حيث الهيئة، ولكن لا نظير له من حيث الفكر والعاطفة التي تسود في وجدان الأمة والوطن في لحظات معينة من حياتها عندما ينبع المضمون من هذه اللحظة ويصبح الشكل شبيها بها يكون هذا الفن فنا واقعيا وشعبيا.

    في معرض "عندما يأتي المساء" تتبدى صورة التوني كفنان شعبي في أقوى صورها كما تتبدى تجربة تمثيليه للواقع في صورة مركزة من خلال ذاتيته أيضا، فالشخوص والحالة العامة للأعمال تعكس حالة الوجدان المصري الصابر الضاحك المستبشر بغد أفضل، رغم القلق والوجد والحزن الساكن في الأعماق وصراعات الوطن ومشاكله، ربما كان لجوؤه في كثير من اللوحات للخلفية السوداء بدون نجوم هادية للطريق تعكس قلقا عاما يعكسه أيضا ظهور عرائس الأراجوز على شكل رجل الأمن سواء غفير أو عسكري ورجل الدين في كثير من اللوحات بمثابة تعبير عن حالة من الصراع بين قوتين يقف المجتمع المصري الممثل بالمرأة رهينا بينهما، وإن كان أيضا محركا لهما بشكل من الأشكال مع ذلك تعكس لوحات المعرض أملا في مستقبل أفضل لوطن طالما تغلب على الصعاب والعثرات رغم عدم الرضا عن الحاضر، أمل حملته لوحات النساء الجميلات الساحرات ليس بسحر الجسد الأنثوي الناضج والعيون الخلابة الآسرة والنهود الريانة والصدور البلورية التي تعكس فتوة المرأة الشعبية المحاطة برموز الخصوبة ومفاتيح الحياة ولكنه سحر الوجود، سحر الأنثى الأرضية الأولى الصاخبة الحاضنة في الحياة والممات الجامعة للأشلاء الممزقة الجوهر والقاعدة للموروث الشعبي المصري منذ إيزيس وحتحور وماعت، قبل أن تحول الضغوط هذه المرأة لهدف للقهر ينفس فيه المجتمع عن كل صراعاته المكبوتة وقهره الدفين وأحلامه المهدرة، فالتوني يحمل كل آماله في غد أفضل للوحاته رغم عنوانه "عندما يأتي المساء" فرغم المساء ورغم كل شيء تبدو لمحة الفرح وبهجة الألوان ودهشتها والحفاظ على نقائها كنبض ضوئي مغسول ومسجى فوق مساحة الصورة ،كما وصفها أحمد فؤاد سليم لتعكس أملا وبهجة، كما أنها هي خالقة الظلال في لوحاته الملونة المغسولة بالنور، وهي التي تجمع تكوينه وتكسبه متانته وقوته الاستاتيكية وتعزز من صرحية اللوحة المستمدة من التقاليد الفرعونية كما أنه يشكل عاملا مهما في كسر الرتابة والاستنساخ في اللوحة والحفاظ على التكرارية النغمية لإيقاعها وعلى الأخص مع لجوء الفنان كثيرا للسيمترية في اللوحة كذلك للعناصر الزخرفية، كما يعمل اللون دائما على تعزيز الخط الأسود الذي يعمل عند التوني بمثابة الموازن والضابط للإيقاع الداخلي للصورة كحد ذي بعدين وأيضا كموازن لحجم العناصر ورابط يوحد هذه العناصر بين جنبات اللوحة، لإعطاء الإحساس بالمسافات لأن التوني يستعمل الطريقة الجدارية في الرسم بالأسلوب المسطح على عدة سلالم أو أبعاد يفصل بينها بصريا بالخطوط الزخرفية والخطوط المحددة للأشكال.

    وقد برع التوني كعادته في استخدام الخط كفاصل ومحدد وداعم في لوحات هذا المعرض وأبرز لوحاته تلك المرسومة بألوان الأبيض والأسود مع تدرجات الرمادي والتي لم يقطعها سوى اللون الأحمر في بعض الأجزاء، ففي لوحاته بالأبيض والأسود يجد المتلقي نفسه أمام خطوط حلمي التوني بعيدا عن بريق الألوان وصخبها ونبضها الطاغي ليشعر بقوة بناء اللوحة الصرحي في أكمل صوره، وبانطلاق الخط وظهوره كعنصر في اللوحة عوضا عن دوره المحدد للمساحة والأشكال بينما يكون دور درجات اللون الرمادي هو إعطاء الحيوية للشكل وكذلك، إضفاء البعد وتحديد الحجم من خلال الظلال والتدرجات ليفقد بهذا حياده المعتاد ويصبح فاعلا ديناميكيا في اللوحة مظهرا ولع الرسام بجماليات الشكل بقدر قدرته على صهر العناصر في داخل اللوحة من خلال إحكام الخط. ويأتي اللون الأحمر لاستكمال قوة التصميم وضمان دهشة المتلقي وتفاعله مع اللوحة، وبهذا استطاع أن يعطي متلقيه متعة جمالية خالصة من خلال بناء اللوحة، فالاقتصاد في الباليته اللونية يدفع بالمشاهد للبحث عما وراء الشكل وللتركيز على جماليات التصميم والبناء القوي والرصين للوحة وإحكام توزيع العناصر وذلك التوازن الدقيق جدا في توزيع المساحات الحمراء فوق اللوحة خلق نوعا من الانسجام الإيقاعي استطاع به التوني الحفاظ على حيوية لوحاته ودعم ذلك بالمزاوجة ما بين الخطوط اللينة العضوية والخطوط الهندسية واستعمال الملامس البصرية التي دعمت أيضا خلق الإحساس بالأبعاد، كذلك استعمل الظلال الآتية من مساقط نور من أكثر من اتجاه لزيادة الإحساس بالتجسيم ليتحول الأسود والأبيض والرمادي في اللوحة مشكلا ضوءا تزهو به الألوان وتنطفئ، وقد تنوعت هذه اللوحات ما بين السكون الكامل الذي تتميز به لوحات التوني عادة كحاملة الجرة ذات الدرع المعدنية، والمرأة الناظرة للهدهد مرتدية ثوبا أحمر بينما تحت أقدامها تفاحات تسقط من شجرة في الخلفية، والجالسة على أريكة محتضنة طفلين وفي الخلفية سمكة وأصيص زرع يرتدي ثلاثتهم طرابيش حمراء متخذين وضعا تصويريا مواجها للمشاهد.

    حالة الحركة في السكون مثلتها الطيور الناظرة إلى الخارج على جانبي لوحة حاضنة النخلة الناظرة إلى الأفق للخارج، هي أيضا والفتاة التي تنظر إلى طرف اللوحة من أعلى بينما تحيط بها الطيور ذات الأعراف الحمراء التي تشكل أيضا حالة من الديالكتيك الحركي داخل اللوحة هي والبلح وميل النخيل في الطرف الأخير من يمين اللوحة، كذلك حركة العين المخالفة لحركة مشط القدم والأسماك الطائرة في لوحة المرأة الجالسة المتكئة على وسادة مع السمكة في الحوض، كلها أساليب وتفاصيل استعملها التوني حتى لا تفقد اللوحة حركتها الداخلية بدون التضادات والتوترات اللونية التي يعتمد عليها عادة، وبذلك نجح في الحفاظ على البناء المحكم للوحته دون أن يفقد طابع الحيوية والإبهار المميز له وبأسلوبه وطريقته المميزتين وحلوله الخاصة بعيدا عن التأثر بمن رسموا بالأبيض والأسود من قبل كبيكاسو وجويا وغيرهم.

    وتأتي لوحة ملائكة البطرسية كحالة خاصة في المعرض، فالفنان الذي استلهم الفن القبطي واستعمل الأبيض والأسود والرمادي صنع هنا أيقونته الخاصة، ليعبر عن حالة شجن مصرية كعادته بعيدا عن الدماء والأشلاء والخطابة بأسلوب جداري ثنائي البعد، فرسم عذراء تحمل طفلا يحيط بها صبي وفتاة تكلل رؤوسهما هالات الشهداء وتطير نحوها الملائكة مندفعة من الجانب الأيمن كاسرة سكون الشخوص المستمد من التقليد الأيقوني الذي ينص على أن "ما تقوله الكلمة لنا تظهره الصورة في صمت، وما سمعناه بآذاننا قد شاهدناه بعيوننا"، بينما تنظر الشخوص للأمام في نظرة تجمع بين اللوم والقوة والحدة، كأنها تنظر إلى ما لا نهاية وهي تحمل الورود الحمراء بقبضات قوية. رسم التوني في هذه اللوحة الخلفية القاتمة المظللة بالرماديات في تضاد مع الشخوص في المقدمة للتأكيد على التقليد الأيقوني الراسخ من أن النور الإلهي ينبع من الشخصية المقدسة الموجودة في الأيقونة والتي تضيء ما حولها وليس العكس، ولهذا أيضا استعمل اللونين الأبيض والأسود بدرجاتهما لأن الأيقونة ترفع الفكر لما وراء الألوان وما وراء المادة، أما الورود الحمراء في اللوحة فمع ضرورتها التصميمية فإن الأحمر أيضا هو رمز للمجد والفداء.

    فكر مصري أصيل وتفاعل مجتمعي صقلته قدرة أدائية عالية ميزت هذه اللوحة التي عبرت عن حلمي التوني الفنان الشعبي الأصيل المدرك تماما لأهمية دوره الفاعل في مجتمعه صاحب المشروع الفني المميز الذي يرى الوطن امرأة يعشقها ويرسم لها لوحات، الوطن مصر التي ناداها يوما بيرم التونسي قائلا:

"ياللي على الأغراب والأقـربين هـنـتي

حتة حصيرة وزير وأقـعـد أنا وأنـت

وأنظم عليكي كلام ما ينظموش دانتي

اللي في الجحيم اتسجن

وأنا وأنت في الجـنـة"

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة