الأحد 16 فبراير 2025

فن

"الترام".. سلسلة قصص قصيرة اقرأها على "الهلال اليوم"

  • 30-9-2020 | 18:55

طباعة

الترام سلسة قصص قصيرة للكاتب الدكتور حارص عمار النقيب تعرضها بوابة "الهلال اليوم" لقرائها الأعزاء:


"المحطة القادمة نهاية الخط"

قالها الكمساري في ترام الرمل، وهو يطرق بالعملة المعدنية على كراسي وجدران الترام؛ لتنبيه الناس، وخاصة في ذلك الوقت من الليل؛ فالكل راجع من العمل أو من البحر مرهقًا ومعظم الركاب في حالة من النعاس.

-         يا أستاذ.. يا أستاذ..

وطرق بعملته المعدنية بشكل أشد بجوار أُذني، فانتفضت معتدلًا على الكرسي، والغضب يدفعني لقتله، فقد كنت نصف نائم، والارهاق يلجمني عن الرد، ويثقل لساني.

-         يا أستاذ.

-         نعم، هذه هي التذاكر اختر منها ما تريد، أو اقطع لي تذكرة جديدة.

-         لا أقصد قطع تذكرة، ولكن المحطة القادمة نهاية الخط.

-         وماذا تريد؟

-         أنت للمرة الخامسة منذ العصر وأنت في الترام، أليس لك منزل؟

-         لي.

-         هل أنت تائه عنه؟

-         نعم تائه.

-         ألا تعرف طريق بيتك؟

-         أعرف.

-         إذن، ما حكايتك؟

-         فقط أُريد معرفة الطريق إلى نفسي، أبحث عن نفسي.

فأشار له على مسجد المحطة.


قطار أبي قير

على رصيف جانبي بـ"محطة سيدي جابر" جالسًا معظم الوقت، وفي نهاية الليل تراه مضطجعًا، متدثرًا بغطاء حتى لا تكاد تعرف رأسه من قدميه، إنه عم "شمشون"، رجل عجوز، يعيش على فتات مجتمع المحطة وما يجود به المسافرون عليه.

صوته جميل، يغني ويحكي مواويل وحكايات لا تنتهي، وأشدها قسوة وحزن وتكرارًا حكاية "شمشون وعزيزة"، ربما لهذا السبب أطلق عليه "شمشون"، ومع مرور السنوات أصبح رمزًا وعلامةً من علامات محطة "سيدي جابر".

فقط من يعرفونه يقولون له "عزيزة"، ويبدأ عم "شمشون"، بغناء موال عنها، تعقبه حكايتها، ربما يقوم معظم الناس بذلك لتسلية وقتهم الطويل في انتظار القطار، والقليل منهم رغبة منهم في معرفة نهاية الحكاية، ولكن أبدًا لم يضع لها عم "شمشون" نهايةً.

-         عزيزة.. عزيزة

لم يصدح عم "شمشون" هذه المرة بالموال، أو بحكاية "عزيزة" كما كان يفعل كل مرة عند سمع اسمها، فقط يجلس مسندًا ظهره إلى حائط المحطة، مركزًا بصره على قطار أبي قير.

-         عزيزة.. عزيزة.

-         عم "شمشون".. عم "شمشون"..

قالها من اعتادوا الجلوس إلى عم "شمشون"، والاستماع إلى حكاياته، ومواويله، سكت اللسان، وتعلقت العيون بشيٍء ما بقطار أبي قير.

فاضت الروح إلى بارئها، ويده تقبض على كيس قديم من القماش، عُثر به على تذكرة لقطار أبي قير يرجع تاريخ إصدارها إلى ثلاثة عقود، وصورة بالأبيض والأسود لفتاة فاتنة الجمال.

 

 

درجة ثالثة إسكندرية

يهم القطار بالرحيل، أقفز عبر بابه المفتوح دائمًا لمن يدخل أو يخرج، ولمن يستعرض لجذب انتباه الفتيات، يسير ككرة الجليد، يبدأ فارغًا، أو يحمل في جوفه القليل من المسافرين، يتبختر بهم، لا يخرج القطار من سوهاج إلا وقد أمتلأ عن آخره، فيتحول تبختره ورقصه إلى ندب، وصفير لا ينتهي كأن بصدره داء يحول بينه وبين التنفس.

في منتصف الطريق ما بين سوهاج والقاهرة؛ يتحول القطار إلى رجل كسيح، يجر أقدامه أمتارًا معدودة ثم يقف لالتقاط أنفاسه، قبل أن يصل إلى أية محطة.

أجساد مرصوصة على مقاعد القطار الخشبية، وأجساد تتلاصق في الممر الفاصل ما بين المقاعد لا يفصل بينها سوى الملابس، كأنه يوم الحشر، الكل قُتلت غرائزه على مذابح المجهول القابع بانتظارهم بالمدينة الساحلية، الكل سواء الزائرون لها والعائدون إليها.

-         لماذا أنت ذاهب إلى الإسكندرية؟

السؤال واحد ولكن الإجابات مختلفة، ويجمع بينها فقط الخوف من المجهول، ومن آخر الخط.

-         تم نقلي إلى الصعيد كجزاء على تقصيري في العمل، وها أنا أعود لزيارة أسرتي، فأنا المنارة لهم في بحر هذه المدينة الكبيرة، وأنا البوصلة لمستقبلهم.

-         أما أنا فقد اعتدت على الذهاب إلى الإسكندرية كل صيف، ليس بالتأكيد للمصيف، فركاب الدرجة الثالثة ليس لهم الحق في المصيف، وإنما للعمل في إجازة المدرسة.

وثالث يضحك محاولًا إذابة غلاف الحزن الذي يكسو ملامحه، ويميل إلى الأمام حتى نستطيع سماعه في ظل فوضى الأصوات البشرية والميكانيكية، فيقول:

-         هربت منذ شهور، وعلمت أنها حطت رحالها بالإسكندرية، فأنا ذاهب ليقضى الله أمرًا كان مفعولا.

-         وما الدافع إلى ذلك؟ ربما لم ترتكب ما يدنس عاداتكم وتقاليدكم.

-         للأسف يا حاج مجرد خروجها بلا أذن وبلا تابع يُجمعُ الناس على شيءٍ واحدٍ فقط وهو الانحلال وبيع الشرف.

-         تأكد قبل أن تأتي بفعل تندم عليه.

-         حتى لو تأكدت من حفظها لشرفها، لابد من قتلها لحفظ شرفنا.

رجل عجوز يجلس بجوار النافذة، وطول الطريق لم يُعرنا انتباهًا، بل طول الوقت ينظر عبر النافذة، وكأنه يهرب من بني البشر، مصمص شفتيه، ونظر يتفرس المتحدث، ثم سعل، وأخرج منديلًا من القماش خبأ فيه ما خرج من صدره، وفتح الطريق أمام لسانه فقال:

-         الناس عندنا لم يجتمعوا على شيءٍ أبدًا إلا على الشك وسوء النية في كل امرأة أو بنت تخرج من دارها.

سكت قليلًا أعاد فيها مسح شفتيه، والاطمئنان إلى هندامه، واعتدال ملابسه، ثم وجهه كلامه للشاب المتحدث:

-         هل تعتقد بقتلك إياها أن الناس سوف يسكتون؟

-         بالتأكيد يا حاج.

-         لا يا ولدي، لن يسكت الناس، حتى لو ذبحتها أمامهم.

-         لماذا يا والدي؟

-         لأن الناس فقط تريد الانتقام من بعضهم بدون سبب، وكل منهم يريد أن يظهر بأنه الأفضل والأشرف، لا لشيٍء، ولكن هذا ما زرعه الآخرون فينا، نحن عبارة عن جسد متعفن تنخر فيه الديدان وعندما ينتهي سوف تموت الديدان أيضًا، ولن يستفيد إلا من جعلنا جسدًا متعفنًا.

سكت الحاج وظل يتأمل وجوهنا قليلًا ربما ليرى مدى تأثير كلامه علينا، وعندما لم يجد رد فعل، مصمص شفتيه مرة أخرى، وهمهم بكلمات لم نتبين معناها، ولكن معناها ظهر على ملامح وجهه، بأنه لا أمل ولا فائدة، وعاد مرة أخرى للهروب من بني البشر بالنظر عبر النافذة.

سرحت ببصري فيمن أستطيع رؤيتهم من راكبي عربة القطار، سواء الواقفون أو الجلوسون، فوجدت الجميع يسبح بخياله في أي مكان، بعيدًا نهائيًا عن القطار، الكل يخاف القادم.

توقف القطار في إحدى محطاته، متزامنًا مع أذان العشاء، ولأول مرة أجد أن كل من بالقطار يرددون كلمات موحدة.


الأوتوبيس


العبوس والحزن نقاب يخفي وجهه، وجبال من الهموم راسية فوق كتفيه النحيلتين، يكاد يزحف تحت وطأتهما، وشفتان مهتزتان، كأنهما جناحي بعوضة، ولكن بلا طنين، فقط اهتزاز صامت.

يصعد درجات سلم الأوتوبيس زاحفًا، لا ينظر يمينًا ولا يسارًا؛ كأنه يزحف في طريق ضيق بين جبلين، يستقر في مقعدة حشرًا، لا يحركه للأمام أو الخلف مع إمكانية ذلك.

ينظر بطرف عينه لمن بجواره، لعل الصوت العالي الذي يتحدث به القابع بجواره في الجوال هو ما لفت انتباهه فقط.

وجه ينظر إليه من فوق الكرسي الذي أمامه، لا تكاد تظهر معالمه تحت ستائر الليل، ذلك الضيف الذي تسلل إلى الأوتوبيس دون أن يشعر به أحد؛ فالجميع مشغول بعالم غير ذلك العالم الذي يحيط به، بنوع من التأفف، وبكلمات مقتضبة:

-         من فضلك، ممكن تبعد قدميك.

لم يرها، ولم يسمعها؛ فقد كان غارقًا في أحلام السفر وكوابيسه.

تركت هي مقعدها، ووقفت بجوار مقعده، وبنوع من العصبية، والاشمئزاز، والغطرسة المصطنعة قالت:

-         هل أنت أطرش لا تسمع؟ أبكم لا تتحدث؟

-         ...................................

-         هل أنت أعمى؟

-         ...................................

لم يعرها اهتمامًا ولم ينظر إليها، فقط أسند رأسه على مسند المقعد، ولم يتحدث، كأنها غير موجودة، فزاد ذلك من عصبيتها، وما كان منها إلا أن أزاحت الغطاء الذي يضعه على قدميه، ووقفت فاغرة فاها.

-         أنا آسفة، تقبل اعتذاري.

ثم انصرفت مسرعة إلى مقعدها، حيث جلست لا تتحرك، فقط شهقات تخرج منها ودموع غزيرة تنساب بين خطوط المكياج لتجعل من وجهها لوحة سريالية، لا تكاد تميز ملامحه، تزداد شهقاتها كلما تتذكر شكل الرجل عندما ازاحت الغطاء من فوق قدميه، فهما ... مبتورتان.

  

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة